قال أبو حامد الغزالي: هل لك أن تتفكر في آية الكرسي أنها لم تُسمى سيدة الآيات فإن كنت تعجز عن استنباطه بتفكرك فارجع إلى الأقسام التي ذكرناها والمراتب التي رتبناها وقد ذكرنا لك أن معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته هي المقصد الأقصى من علوم القرآن وأن سائر الأقسام مرادة له، وهو مراد لنفسه لا لغيره فهو المتبوع وما عداه التابع وهي سيدة الاسم المقدم الذي يتوجه إليه وجوه الأتباع وقلوبهم فيحذون حذوه وينحون نحوه ومقصده وآية الكرسي تشتمل على ذكر الذات والصفات والأفعال فقط ليس فيها غيرها فقوله: {اللَّهُ} إشارة إلى الذات.
وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إشارة إلى توحيد الذات وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إشارة إلى صفة الذات وجلاله فإن معنى القيوم هو الذي يقوم بنفسه ويقوم به غيره فلا يتعلق قوامه بشيء ويتعلق به قوام كل شيء وذلك غاية الجلال والعظمة.
وقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} تنزيه وتقديس له عما يستحيل عليه من أوصاف الحوادث والتقديس عما يستحيل أحد أقسام المعرفة بل هو أوضح أقسامها.
وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إشارة إلى كلها وأن جميعها منه مصدرها وإليه مرجعها.
وقوله: “من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه” إشارة إلى انفراده بالملك والحكم والأمر وأن من يملك الشفاعة فإنما يملك بتشريفه إياه والإذن فيه، وهذا نفي للشركة عنه في الملك والأمر.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} إشارة إلى صفة العلم وتفضيل بعض المعلومات والانفراد بالعلم حتى لا علم لغيره من ذاته وإن كان لغيره علم فهو من عطائه وهبته وعلى قدر إرادته ومشيئته.
وقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إشارة إلى عظمة ملكه وكمال قدرته وفيه سر لا يحتمل الحال كشفه فإن معرفة الكرسي ومعرفة صفاته واتساع السموات والأرض معرفة شريفة غامضة ويرتبط بها علوم كثيرة.
وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} إشارة إلى صفات القدرة وكمالها وتنزيهها عن الضعف والنقصان.
وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} إشارة إلى أصلين عظيمين في الصفات وشرح هذين الوصفين يطول وقد شرحنا منهما ما يحتمل الشرح في كتاب المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى فاطلبه منه.
والآن إذا تأملت جملة هذه المعاني ثم تلوت جميع آيات القرآن لم تجد جملة هذه المعاني من التوحيد والتقديس وشرح الصفات العلى مجموعة في آية واحدة منها فلذلك قال النبي سيدة آي القرآن فإن {شهد الله} ليس فيه إلا التوحيد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ليس فيه إلا التوحيد والتقديس {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} ليس فيه إلا الأفعال وكمال القدرة.
والفاتحة فيها رموز إلى هذه الصفات من غير شرح وهي مشروحة في آية الكرسي والذي يقرب منها في جميع المعاني آخر الحشر وأول الحديد إذ اشتملا على أسماء وصفات كثيرة ولكنها آيات لا آية واحدة وهذه آية الكرسي آية واحدة إذا قابلتها بإحدى تلك الآيات وجدتها أجمع المقاصد فلذلك تستحق السيادة على الآي وقال هي سيدة الآيات كيف لا وفيها {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وهو الاسم الأعظم وتحته سر ويشهد له ورود الخبر بأن الاسم الأعظم في آية الكرسي وأول آل عمران وقوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}..