إعلان “اديس ابابا” فرصة للسلام أم فجوة لتوسع الحرب

لا جديد سوى انكشاف القوى السودانية اللاهثة وراء السلطة

 

بعد تجاذبات وتكهنات متباينة بشأن مدى نجاح إعلان “اديس ابابا” الموقع بين القوى السودانية وقوات الدعم السريع في انهاء الحرب في السودان بدا أن فرص نجاح هذه المبادرة قد تلاشت تماما، بعد أن خلصت مبادرة القوى المدنية المنخرطة في تنسيقية القوى الديموقراطية “تقدم” إلى مسار للتسوية أراد فقط العودة بأطراف الصراع إلى المربع الأول.

الثورة  / أبو بكر عبدالله

خلافا للتوقعات التي رجحت قبول مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان مبادرة إعلان ” اديس ابابا” التي جرى التوقع عليها مؤخرا بين القوى السياسية المدنية وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، جاء اعلان قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان ليقلب الطاولة على الجميع برفضه الإعلان الموقع وتأكيده المضي بخيار الحرب وتسليح المقاومة الشعبية لإنهاء التمرد العسكري لقوات الدعم السريع.
والموقف المعلن من قيادة الجيش كان متوقعا، إذ أن المبادرة المقدمة من التحالف الجديد لقوى الحرية والتغيير وحلفائها والذي حمل اسم تنسيقية القوى الديموقراطية المدنية” تقدم” وسارعت بتوقيعها مع قائد قوات الدعم السريع، لم تختلف عن المبادرات السابقة التي قادت إلى اشتعال حرب في السوادان في ابريل العام الماضي، كما بدت ملبية لمطالب قوات الدعم السريع ما جعل من الطرفين الموقعين عليها كيانا واحدا ضد قوات الجيش.
زيادة على ذلك فقد اثارت هذه المبادرة الشكوك بجديتها في السعي لإنهاء الحرب في السودان كونها جاءت ردا على التحركات التي شرع فيها الجيش بالتعبئة العامة وتسليح ما عرف بـ “المقاومة الشعبية” وهي الخطوة التي لجأ اليها الجيش الوطني السوداني لتخفيف القيود التي تكبل تحركاته العسكرية وتسببت في متوالية خسائر تكبدها طوال الشهور الماضية مقابل الحرب السهلة التي تخوضها قوات الدعم السريع دون قيود قانونية أو إنسانية أو أخلاقية.
من جهة ثانية فقد جاءت الخطوة بالتزامن مع ترتيبات كانت شرعت فيها الهيئة الحكومية للتنمية الافريقية “ايغاد” ” التي كانت على وشك أن تجمع الجنرالين البرهان وحميدتي على طاولة حوار مباشر يستهدف وقف الحرب قبل أن تتعثر هذه الخطوة بسبب اشتراط قائد قوات الدعم السريع الحضور إلى جيبوتي مشاركة جميع رؤساء “ايغاد” في اللقاء.
اعلان اديس ابابا
خلال الترتيبات التي شرعت فيها “إيغاد” لجمع قائدي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لطاولة مفاوضات مباشرة، ذهبت القوى السياسية المدنية المتهمة بدعم قوات الدعم السريع، لتشكيل تكتل سياسي عُرف باسم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك وصاغت اعلانا سياسيا سمي بـ “اعلان أديس أبابا” سرعان ما استجاب له قائد قوات الدعم السريع الذي وقع على الإعلان بعد يومين من المشاورات فيما اعتبرته السلطات السودانية اتفاقا بين الشركاء.
تضمن إعلان “اديس ابابا” رؤية من 4 محاور لحل الأزمة، تبدأ بوقف الحرب المستمرة منذ 9 أشهر وفتح مسارات آمنة للسكان ومعالجة الأزمة الإنسانية والدخول في عملية سياسية، تشمل الإصلاح الأمني والعسكري وقضايا العدالة الانتقالية وإعادة البناء المؤسسي لأجهزة الدولة، فضلا عن إجراءات لإطلاق عملية سياسية تُفضي إلى انتقال السلطة للمدنيين.
وطبقا للإعلان الموقع فقد التزمت قوات الدعم السريع الانخراط في مباحثات مباشرة مع قيادة الجيش لوقف الأعمال العدائية بشكل فوري وغير مشروط عبر التفاوض واعتبار الاعلان أساسا جيدا لعملية سياسية تنهي الحرب في السودان مع الالتزام بالسلام المستدام وتشكيل لجنة مشتركة للوصول إلى إنهاء الحرب مع التأكيد على القيادة المدنية للعملية السياسية والالتزام بمشاركة واسعة لا تستثني سوى الحركة الاسلامية وواجهاتها.
الإعلان الذي تعهدت القوى المدنية في تكل “تقدم” تقديمه لقيادة الجيش للتوقيع عليه تضمن التزامات بتشكيل جيش واحد مهني يعبر عن الجميع، وفقا لمعيار التعداد السكاني، وكذلك تشكيل لجنة وطنية لحماية المدنيين من شخصيات وطنية داعمة لوقف الحرب تتولى مهمة مراقبة إجراءات عودة المدنيين لمنازلهم وضمان تشغيل المرافق الخدمية والإنتاجية وتعبئة الموارد الداخلية والخارجية لتوفير الاحتياجات الإنسانية للمدنيين.
كما نص على إطلاق عملية شاملة للعدالة الانتقالية تكشف الجرائم وتحاسب المنتهكين وتنصف الضحايا بما يضمن عدم الإفلات من العقاب، وتشكيل لجنة وطنية مستقلة ذات مصداقية لرصد كافة الانتهاكات في جميع أنحاء السودان وتحديد المسؤولين عن ارتكابها بما يضمن محاسبتهم، وتشكيل لجنة ذات مصداقية لكشف الحقائق حول من أشعل الحرب.
وكبادرة حسن نية وافق قائد قوات الدعم السريع على إطلاق سراح 421 أسير حرب عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وتعهدت بفتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية في مناطق سيطرتها وتوفير الضمانات اللازمة لتيسير عمل منظمات العمل الإنساني وحماية العاملين في مجال الإغاثة، كما التزمت بتهيئة الأجواء لعودة المواطنين لمنازلهم في المناطق المتأثرة بالحرب في الخرطوم ودارفور وكردفان والجزيرة وتشكيل إدارات مدنية بتوافق سكان المناطق المتأثرة بالحرب.
وتضمن الإعلان بإعادة تأسيس الدولة السودانية على أسس جديدة بنظام حكم فيدرالي مدني ديموقراطي يختار فيه الشعب من يحكمه عبر انتخابات حرة ونزيهة وضمان وحدة البلاد وسيادتها وخروج المنظومة الأمنية من النشاط السياسي والاقتصادي ومساندتها عمليات الانتقال المدني الديمقراطي مع تفكيك أي وجود للنظام السابق في المؤسسات المدنية والعسكرية.
ملاحظات وتحفظات
على أن كثيرا من السودانيين رحبوا بهذا الإعلان بوصفه اختراقا جديدا لجهود وقف الحرب التي أدت إلى مقتل أكثر من 12 ألف سوداني، وفق تقديرات منظمة “أكليد” غير الحكومية وتشريد أكثر من 7 ملايين مدني داخل وخارج السودان، وفق تقديرات الأمم المتحدة، إلا أنه من الناحية السياسية كان مثيرا للريبة لأسباب عدة.
فالقوى السياسية المدنية في تحالف الحرية التغيير (المجلس المركزي) كانت حاضرة ولعبت دورا كبيرا في صياغته، وهي القوى التي طالما تصدت لأي توجهات سياسية يقودها مجلس السيادة الانتقالي برئاسة الفريق البرهان للحل السياسي وساندت قوات الدعم السريع منذ قيادته تمردا مسلحا على الجيش منتصف ابريل الماضي.
وأكثر من ذلك فإن إعلان “اديس ابابا” جعل من التكتل الجديد للقوى السياسية المدنية حليفا لقوات الدعم السريع في حين أن الشعار الذي ترفعه هذه القوى برفض الحرب كان يفترض أن يجعلها محايدة، لا حليفة لاحد طرفي الصراع.
ومن ناحية ثانية فقد جاء إعلان “اديس ابابا” وكأنه يستهدف قطع الطريق امام تحركات كانت قادتها منظمة “ايغاد” التي أعلنت عن ترتيبات لعقد اجتماع بين البرهان وحميدتي في ديسمبر الماضي استنادا للقرار الذي اتخذه رؤساء دول “إيغاد” في جيبوتي، وهو الاجتماع الذي أعلن الفريق البرهان موافقته المشاركة فيه، قبل أن تقلب تحركات القوى المدنية الطاولة على ترتيبات المنظمة الأفريقية التي أبلغت البرهان تاليا تأجيل الاجتماع بعد مطالبة قائد قوات الدعم السريع من “إيغاد” أن يكون اجتماعه مع البرهان بحضور رؤساء حكومات إيغاد.
وبحسب نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، فإن اللقاء الذي دعت اليه “ايغاد” نهاية ديسمبر الماضي بين قائدي الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في جيبوتي كان مقررا أن يناقش تنفيذ ما تم التوصل إليه في اتفاق جدة ولا سيما خروج قوات الدعم السريع من العاصمة الخرطوم والمدن التي يحتلونها في دارفور ومن المساكن والمقرات المتواجدين فيها، على أن تلي ذلك مراحل تفاوضية أخرى لوقف الحرب، غير أن شروط قائد قوات الدعم السريع أدت إلى الغاء الاجتماع من قبل المنظمة دون تحديد موعد جديد.
وبحسب عقار فقد تجاوز الإعلان الموقع كل التفاهمات التي تم التوصل اليها في منبر جدة، ولم يغير شيئا على الأرض حيث أبقى على سيطرة الدعم السريع على المناطق السكنية التي يطالب الجيش بإخلائها، وتجاوز الالتزامات المشتركة التي تفرض على قوات الدعم السريع العودة إلى معسكراتها السابقة وكذلك عودة قوات الجيش إلى مواقعها العسكرية السابقة وهي من القضايا الرئيسية التي كانت محورا رئيسيا في كل جولات المفاوضات السابقة.
موقف قيادة الجيش
رغم ان الشارع السوداني يدعم أي مبادرة لوقف الحرب وانهاء المعاناة الإنسانية التي تطحن السودانيين منذ 9 أشهر، إلا أن كثيرين رأوا أن اعلان “اديس ابابا” أعاد انتاج نصوص “الاتفاق الإطاري” التي قادت السودان إلى حرب مدمرة، كما أنه لم يكن سوى اعلان مبادئ يصعب اعتماده لوقف الحرب ولا يحمل أي التزامات أو ضمانات تعيد المواطنين إلى منازلهم، في ظل مليشيا تتعامل مع ممتلكات الدولة والمواطنين بوصفها غنائم حرب وتستخدمها لتجنيد المزيد من المقاتلين.
هذه العوامل وغيرها أدت إلى اعلان قائد الجيش السوداني الفريق البرهان رفضه الإعلان الموقع بين القوى السياسية وقائد قوات الدعم السريع، وتعهده الاستمرار بقتال القوات المتمردة لحين انهاء التمرد وتحرير كل مناطق السودان الخاضعة لسيطرة الدعم السريع.
هذا الموقف كشف عن أدارك قيادة الجيش أن الوثيقة التي صاغها خصومه السياسيين في تكتل “تقدم” ووقع عليها محمد حمدان دقلو بصورة منفردة، فصّلت خطة التسوية المقترحة بطريقة لبت إلى حد كبير توجهات قوات الدعم السريع بعدم الاعتراف بالبرهان رئيسا لمجلس السيادة الانتقالي أو قائدا للجيش والاعتراف بقواتها كقوة شرعية موازية للجيش مقابل حصول القوى المدنية على التزامات من الدعم السريع بتسليم السلطة للمدنيين.
ومن جهة ثانية لم يتضمن الاعلان الموقع أي التزامات من قوات الدعم السريع بما جاء في اتفاقية جدة الأولى، والتي نصت بوضوح على إخلائها منازل المواطنين وفتح الممرات الإنسانية لتوصيل المساعدات وإعادة ما تم نهبه من الممتلكات العامة والخاصة.
هذه المعطيات كانت كافية لإعلان قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان رفضه الإعلان بل وتأكيده الا صلح ولا مفاوضات مع المتمردين والمضي بالحرب وتسليح المقاومة الشعبية لمواجهة التمرد والاستمرار في القتال حتى دجر القوى المتمردة.
وبعيدا عن لغة الحسابات السياسية كانت تصريحات نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار أكثر وضوحا حين أعلن رفضه الاعتراف بتحالف “تقدم” ككيان سياسي مستقل عن قوات الدعم السريع ووصفه إياه بـ”الجناح السياسي” للقوات شبه العسكرية معتبرا إعلان “اديس ابابا” “اتفاق بين شركاء” كون القوى السياسية الموقعة هي” الحاضنة السياسية المعروفة للدعم السريع”.
وموقف الجيش لم يكن الوحيد المناهض للاتفاق، إذ أعلنت قوى سودانية مؤثرة موقفا مشابها باعتبارها التحركات التي قادتها القوى السياسية المدنية في اديس ابابا “مناورة لاستهدافها” وهو الموقف الذي عبر عنه قائد حركة تحرير السودان حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي المساند للجيش الذي قال إن الجديد الذي حمله اعلان “اديس ابابا” هو اقراره بتشكيل لجنة من تحالف التغيير واثنين من الدعم السريع لتفكيك حركة تحرير السودان والضغط عليها للانضمام للمليشيا المناهضة للجيش.
والمواقف المناهضة لهذه التداعيات لم تكن سودانية وحسب، حيث ظهرت انتقادات دولية للخطوة التي قادتها تنسيقية القوى المدنية “تقدم” اتهمت القوى المدنية الموقعة بالعمل لصالح قوات الدعم السريع وحلفائها الاقليميين معتبرين الإعلان الموقع “مقامرة كبيرة من قبل القوى السياسية المدنية التي حاولت اليوم تقديم نفسها بجلد جديد تحت مسمى تكتل “تقدم” وهي ذاتها قوى تحالف الحرية والتغيير التي تورطت في دعم قوات الدعم السريع الضالعة بارتكاب انتهاكات وفظائع اعتبرتها العديد من المنظمات الحقوقية الدولية جرائم حرب.
حسابات سياسية
الحسابات السياسية بين اطراف الصراع السوداني تبدو اليوم حاضرة بقوة، فتوقيع تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية السودانية “تقدم” وقوات الدعم السريع على إعلان “أديس أبابا” لم يكن سوى تحرك تكتيكي من القوى السياسية ولا سيما في تحالف الحرية والتغيير بالعودة بالأوضاع خطوات إلى الخلف بعد أن يأست من الحل العسكري عبر قوات الدعم السريع التي أعلنت تمردا مسلحا على الجيش وصارت اليوم مهددة امام التحركات الواسعة في معظم المناطق السودانية لتشكيل كتائب المقاومة الشعبية المناهضة للدعم السريع والقوى السياسية المساندة لها.
وما تضمنه إعلان “اديس ابابا” من التزامات كان كافيا لتأكيد بأن التحالف الجديد للقوى السياسية المناهضة للجيش تحت مسمى “تقدم” لم يكن سوى محاولة لإعادة إنتاج المعادلات القديمة وهي المعادلات لن تكون قادرة على تلبية مطالب الشارع السوداني الذي دفع ثمنا باهظا لحرب تمرد عبثية ومغامرات سياسية غير محسوبة.
ولا يمكن اغفال أن القوى السياسية المدنية التي طالما اتهمت بانها الظهير السياسي لتمرد قوات الدعم السريع، بدت في الآونة الأخيرة قلقة على مستقبلها السياسي في ظل التقدم العسكري لقوات الدعم السريع التي عززت من حضورها بصورة فاقت التوقعات بالسيطرة على العاصمة الخرطوم ومناطق ود مدني ونيالا وزالنجي والجنينة وكردفان ومناطق عدة في إقليم درافو، ولم يتبق لها سوى السيطرة على ولاية الفاشر ومدن شرق السودان وهي السيطرة التي قد تجعل من هذه القوات غير النظامية صاحبة القول الفصل في المشهد السياسي السوداني القادم.

قد يعجبك ايضا