من هو ذاك الإنسان الذي تمنّى الإسكندر الأكبر بأن يكون مثله وشبهه؟
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
في العام 1983 م من القرن العشرين أهداني الصديق المعلم الفاضل علي أحمد باحشوان مدير عام التوثيق في جامعة عدن يومذاك رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته، أهداني كُتيباً تاريخياً هاماً، وهو تلخيص مكثف لتعاليم الفيلسوف الروماني الشهير ديوجين، ولم يكتف بإهدائي هذا الكتاب الفلسفي القيم، بل إنه أثار معي حوله جدلاً واسعاً طويلاً حول شخصية الفيلسوف وإنتاجه الفلسفي الفكري والمصاحب بسلوك صادق بين ما يؤمن به من تعاليمٍ ونظرياتٍ، وبين سلوكه الحياتي اليومي التطبيقي، أي أنه أصدق فيلسوفٍ عرفته اليونان وربما العالم أجمع .
بهذا المدخل السلس وفي رحابه تم الإهداء، وتم البحث عن مدخل المناقشة الجادة التي استمرت بيني وبينهُ لأشهرٍ وربما لسنوات حول تلك الفلسفة ومعطيات حكمته، وصديقي آل باحشوان كان شديد الإعجاب به وبنظريته وسلوكه، وإنه شخص مثقف واسع الاطلاع والبصيرة , له قراءات عديدة وفي مجالاتٍ شتّى، وكنت حينها شاباً حديث التخرج وفي خضمِّ عنفوان الشباب مع قليلٍ من خبرة الحياة الإدارية، وحينما اختار حقل الفلسفة أهداني كتاب الفيلسوف ديوجين وبعدها أهداني كتباً عدةً في مجالات عديدة، فهناك تشابه نسبي بينه وبين الفيلسوف ديوجين على الأقل في احترامه لذاته وتواضعه الجم , ومستوى قناعته بمستوى المعيشة التي يعيشها صديقي باحشوان مقرونة بأخلاقه العالية في تعامله العام، وربما لهذه الأسباب مجتمعة جرَّني جراً إلى هذا المربع الفلسفي الجميل والذي لا زال منقوشاً في الذاكرة لقرابة 40 عاماً تقريباً.
يتذكر العديد من زملائي وزميلاتي في جامعة عدن ومدينة عدن دور وتأثير المعلم المثقف علي أحمد باحشوان في الحقل التربوي في وزارة التربية والتعليم في مدينة عدن، والعمل الإداري التوثيقي في الإدارة المركزية لجامعة عدن، يتذكرون سلوكه الجميل، وتواضعه الجم في التعامل مع زملائه وزميلاته، وثقافته العميقة الواسعة في المجالين الثقافي والفلسفي، وكل صفاته الحميدة التي تنمُّ عن أخلاقٍ وسلوكٍ تربوي عالٍ ورفيع التربية والتأهيل والتمكين الإنساني.
إن الموضوعات الشيقة وحتى الشاقة منها تجد لها مكان ثابتاً في أضابير الذاكرة والعقل الباطني للفرد منّا، وحتى في تضاريس الأحاسيس والمشاعر الإنسانية للإنسان مهما مضت السنون والأزمان عليه، ومرت عليها العديد من الأحداث الصاعقة منها والعابرة، إلا أنها تبقى حاضرة بمجرد استدعائها لأي سبب ٍ موضوعي كان، أو لمجرد التذكر والاستذكار للموضوعات والقضايا والأحداث التي مرّ عليها عدد من العقود، أو مصادفة مثال فلسفي وإنسانيٍ آخر يقترب في الشبه في حكمته وتعاليمه ودروسه المُستقاة بما أسلفناه عن الصديق العزيز آل باحشوان وعن الفيلسوف الروماني ديوجين فإنه سرعان ما تنبعث في ذاكرة اللحظة جميع المعطيات والساعات والمعلومات التي تناثرت ذات يومٍ في مثل لحظتنا هذه، نعم هي أربعون عاماً لكنها تُعدُّ أزيد من عمر إنسان بالوفاء والتمام، وربما في الحساب تُعدُّ الأربعين عاماً هي أربعة عقودٍ زاهيةٍ من عُمر أي إنسانٍ كان.
تذكرتها وكأنها تحدث أمامي الآن، تذكرتها وأنا أُطالع بعضاً من الإنتاج الفكري والفلسفي والشعري للفيلسوف العظيم البصير أبو العلاء المعري السوري النشأة واليمني الانتماء والقبيلة، تذكرت هؤلاء العباقرة الذين خلَّدوا أنفسهم وذكراهم العام بجِدِّهِم وفكرهم وفلسفتهم، لكن الحديث والكتابة عن الفيلسوف أبي العلاء المعري سيكون له مجال وزمان آخر في الكتابة والتحليل.
لنبق مع الفيلسوف ديوجين وإنتاجه الفكري الذي جاد به وأهداه بسخاء للإنسانية جمعاء قبل أزيد من ثلاثة قرونٍ ق.م.، لنتصور معاً كم هي الحياة قصيرة جداً ونحن ندرس بعض التعاليم قبل آلاف السنين، وبعض البشر اليوم لا زالوا يُعانون من وهنٍ وقصورٍ وضعفٍ في التفكير والاستقراء للأحداث والوقائع التي نعيشها اليوم بكل تجلياتها ومعطياتها الواسعة.
لقد عاش الفيلسوف ديوجين وكتب كتاباته ونظرياته الفلسفية في زمن الإسكندر المقدوني الأكبر الذي ذاع صيته كقائدٍ أوحد للعالم يومذاك باعتباره يقع على رأس هرم أقوى وأعظم إمبراطورية حكمت العالم في ذلك الزمن، بل إن حُكمه ساد العالم القديم أجمع، من روما العاصمة المقدسة لإمبراطوريته وجنوب أوروبا وحتى الصين والهند شرقاً وبسط نفوذه على ضفاف البحر الأبيض المتوسط من جميع نواحيه.
في إحدى المرات والإمبراطور الإسكندر المقدوني الأكبر يتجول في عاصمته روما بزهوٍ شديد، وربما بسرورٍ تام، إذ شاهد على قارعة الطريق وعلى جانب رصيف إحدى الطرقات العامة , شاهد رجلاً يظهر أنه يعيش حالة من البؤس والشقاء والفقر ويتخذ من أحد البراميل المهملة مأوى ومسكناً له، ويلتحف بثياب رثّة بالية يدل مظهرها على الفقر المُدقع، لحظتها توقف الإسكندر الأكبر أمامه، لكن الرجل الفقير لم يُعرهُ أي اهتمامٍ لأنه مُستلقٍ باسترخاء تام لأخذ قسطٍ من حرارة الشمس في صيف روما الدافئ التي يحتاجها جسده، فقال له الإسكندر الأكبر بلغةٍ مُتعالية :- يا رجل أنا الإسكندر المقدوني الأكبر فمن أنت يا تُرى ؟
رد عليه الرجل بهدوء تام وقال له:- وأنا ديو جين الفقير، هذه الإجابة أغضبت الإسكندر الأكبر, فقام عدد من قادة وحداته العسكرية الذين كادوا يهموا بالانقضاض عليه وقتله، لكن الإسكندر الأكبر أوقفهم ونهرهم جميعاً كي لا يؤذوه، فعاود الإسكندر وسأله سؤالاً آخر وقال له: وماذا تحتاج مني ؟ فردّ عليه ديو جين بهدوء وقال: تنح جانباً عن أشعة الشمس يا رجُل لأني أحتاجها الآن للتدفئة .
لحظتها قال قولته الشهيرة 🙁 لو لم أكن أنا الإمبراطور الإسكندر الأكبر، لتمنيت أن أكون ديو جين).
والمعروف عن الإسكندر الأكبر بأنه تلميذ الفيلسوف أرسطو معلم الإنسانية حِكم الفلسفة وتعاليمها، والذي تعلم منه مبادئ وقيم الفلسفة الإنسانية، لكنه انحنى أمام فلسفة وحكمة الفيلسوف ديو جين لعظمتها وجلالها وعمق دلالاتها.
هنا تذكرت صديقي المعلم المحترم علي أحمد باحشوان الذي كان شديد الحرص في حواره معي على إبراز محاسن مدرسة الفيلسوف ديو جين، وكيف كان يردد لتوكيد التأكيد على جميل منهجه وعلمه وسلوكه وفلسفته، وطريقة حياته، وحرصه الجاد على تطبيق قناعاته الفلسفية في حياته العامة التي كان يعيشها بحرية مطلقة بقناعاته المُفرطة، شبه المُطلَقَة في تنفيذ تفاصيلها على مُجمل تفاصيل حياته المعيشية .
هذا الفيلسوف الخالد المبهر ( إيجاباً و سلباً ) في نظرياته الفلسفية العميقة وحِكَمْه الخالدة خلود الأزمان و ذكائه الحاد في ردوده وإجاباته وحواراته وأطاريحه الفلسفية العميقة، تجعل من طلابه ومريديه والمهتمين بنظرياته منبهرين بحياته وسلوكه الإنساني الفلسفي بشيءٍ من الاستثنائية .
ماهي المرتكزات النظرية التي استقامت عليها فلسفته الإنسانية الحُرة التي جعلت من الفيلسوف ديو جين مثار اهتمام العلماء والمفكرين وطلاب الفلسفة وصديقي باحشوان والمهتمين من حول العالم به وبسلوكه ونظرياته ؟
أولاً :
انتهج مبدأ حياة الفضيلة والنزوع إليها، لأنها تُبعد الإنسان عن حياة المجتمعات المُغلفة بأغلفةٍ من المجاملات والأكاذيب والتزلُف والنفاق الوقح، وهو ما يتعارض مع الفطرة الإنسانية على مر العصور والأزمان .
ثانياً :
انتقد بشدة حياة البذخ البرجوازي الذي تسير علية طبقة المترفين ( الكاذبة والمنافقة ) في المجتمع الروماني يومذاك، لأنه يؤمن بأنها ستقود إلى حياة الرذيلة والانحطاط الأخلاقي.
ثالثاً :
يرفض الفيلسوف ديو جين حياة العادات والتقاليد ويعتبرها تقاليد موروثة تافهة وأنها تُعطل العمل بمبدأ الحياة الطبيعية كما خلقها الله وخلق عليها الإنسان ليعيش بطبيعته وسجيته الطبيعية.
رابعاً :
يؤمن أن الرضا بالقليل من الاحتياج للفرد هي التي ستوصل الإنسان إلى حدّ الاكتفاء من الاحتياجات المادية الزائدة عن الحد المطلوب، ويقول: إذا زادت تلك الحاجات الاستهلاكية ستؤدي بطبيعة الحال إلى مبدأ البحث في الطبيعة للمزيد من الاستنزاف واللهث لجلب خيرات أكثر وهكذا، وكذلك زيادة الحاجات والتي تتحول بدورها إلى ( ثرواتٍ متراكمة ) تؤدي إلى المزيد من تكديس الثروة المضرة لحياة الإنسان والطبيعة معاً، وتقود إلى حياة الرذيلة الممقوتة .
خامساً:-
خلق الله الجسد الإنساني حراً طليقاً، وهنا يتساءل المفكر ديو جين لماذا يتم تقييده من قِبل المجتمع الفاسد بالعادات والتقاليد الكاذبة والحاجات الجسدية المهلكة.
سادساً :
إن اللهث وراء إغراءات الجاه والمجتمع الاستهلاكي المادي الصارخ هو ما يقود الفرد والإنسان في المجتمع إلى أن يُصبح عبداً ذليلاً خانعاً لاحتياجاته المادية غير الضرورية، فهو يرى – كفيلسوف – أن التحرُر من كل تلك الالتزامات المادية وإغراءاتها تجعله حُراً لا يحتاج إلى مكرمة أحد مهما علا شأنه وزادت مكانته وتراكمت ثرواته.
سابعاً:
من أهم مبادئه هو الزهد والتقشف الذي يحمي كرامة ومكانة الإنسان الروحية العظيمة كقيمة ومكانة عُليا منَّ الله بها على الإنسان وحده، وإن اللهث وراء تراكم المال والثروات هو السبيل الأسرع نحو بيع الكرامة والشرف والأخلاق والتقوى.
وأن السعادة الحقيقية ليس في الجري واللهث والكد والنكد خلف المكاسب المادية الزائلة وإنما في الابتعاد والتخلي عنها، هكذا خلص الفيلسوف إلى كيفية اقتران الشرف والعزة والأخلاق بالابتعاد عن حب مال الدنيا الزائل، والاقتراب والجري وراءها هو الطريق الأقرب لبيع الكرامة والشرف حد الارتزاق وبيع الذات والأهل والأوطان والتضحية بقداستها العظيمة .
الخلاصة:
لم يكن الإمبراطور الإسكندر الأكبر مُخطئاً يومذاك حينما قارن كل مكاسب الدنيا المادية مترامية الأطراف، وهو الشخص الوحيد الذي عرف معنى أن يتربع على عرش المُلك من شرق العالم القديم إلى غربها، واستطاع بجبروته أن يترك في كل بلد احتلها بصمته وأثره التاريخي الخالد، نعم هو يعرف طعمها ومذاقها العميقين، لكنه القائد العسكري الفطن الذي تتلمذ علي يد الفيلسوف سقراط العظيم، ونهل من معارفه وحكمه، نعم هذا هو الإسكندر المقدوني الأكبر الذي تعلّم درساً لا يُنسى من الإنسان الفقير ديوجين الذي علمه معنى قيمة الشرف والكرامة والأخلاق والعِزّة بالذات الإنسانية والمقرونة بالشرف الروحي المُتوّج لإنسانية الإنسان الحُر.
وفوق كل ذي علم عليم
*رئيس مجلس وزراء حكومة تصريف الأعمال