استشاري تنمية مستدامة في مؤسسة بنيان التنموية، د. محمد المروني: ثورة 21 سبتمبر.. نقطة تحول من حال الانهزام الداخلي إلى التنمية المستدامة
ثقافة «الانهزام الداخلي» تظهر عندما يكون لديك مشاكل، ولا تبدأ التفكير في البحث عن حل لها في إطار متاح ما لديك من الإمكانيات والقدرات البشرية والمادية، وإنما تضعف قواك أمامها، فتظهر العجز وتنتظر باتكال كلي على الغير كي يأتيك بالحل معلباً جاهزاً، بالرغم من أنك لو أحسنت بقدراتك الذاتية، فنظرت بها حولك وحللت البيئة التي أنت فيها ستجد لمشكلتك ألف حل وبدون أي مساعدة خارجية، أو اتكالية على الغير.
ربما تكون تلك ثقافة مستساغة لدى البعض، وتستحق أن يكون لها نظريات يدافع عنها، لكنها تعد في الشق الآخر من التفكير، قصوراً في التطلع وانهزاماً أمام تطلعات الذات إلى صياغة الشخصية المستقلة مقابل العبودية لرغبات الآخر في التسلط والوصاية، في هذه المقابلة الفكرية مع أحد مستشاري التنمية المستدامة في مؤسسة بنيان التنموية الدكتور محمد المروني، نتطرق إلى معنى الاستقلالية وكيفية صناعة الذات.. فإلى التفاصيل:حوار/ يحيى الربيعي
في البداية، نريد أن نأخذ فكرة عن منهجية ذي القرنين؟
منهجية ذي القرنين هي رؤية لخلق «مجتمع واعٍ ومتماسك يعتز بهويته وأصالة قيمه، قادر على حشد طاقاته وقدراته، واستغلال موارده الطبيعية والبشرية بكفاءة، من أجل تحفيز التنمية المحلية المستدامة، وبما يدعم تعزيز الاكتفاء الذاتي والتمتع بالعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة».
وترتكز هذه الرؤية على عملية تنبيه المجتمع إلى التفكير في الموارد المتيسرة عنده، وكيف يمكنه استكشافها وإدارة استثماراتها في حل المشاكل خاصة وأن الكثير من المجتمعات المحلية في اليمن مواردها المتاحة وافرة وبخامة طبيعية، إلا أن المجتمع لا يعرف أين هي؟ ناهيك عن معارف استغلالها أو إدارتها؟ وهنا يأتي دور ذي القرنين عندما حضر إلى قوم وُصِفُوا بنص القرآن الكريم بعدم الفقه (العجز عن التفكير أو التفكير المنهزم)، وهم هنا المستهدفون بحكمة وفقه ذي القرنين (الملك التبع اليماني، كما تحكي معظم الروايات التاريخية).
القوم كان لهم جيران كثيرو الأذية، ودائماً ما يغزونهم بالنهب والفساد، وهؤلاء هم قوم صالحون، ولكنهم أرباب ثقافة «الانهزام الداخلي»؛ أول ما رأوا ذي القرنين اعتبروه منقذا لهم من ذلك العذاب الذي كانوا يسامونه من قبل ياجوج وماجوج، وطلبوا منه أن يبني لهم سدا يفصل بينهم وبين أولئك القوم المجرمين، وأبدوا استعدادهم الوفاء بالخراج الذي يفرضه عليهم في المقابل، لماذا؟ لأن المجتمع- هنا- كان منهزماً داخلياً لا يستطيع أن يحل أبسط المشاكل.
ماذا تعني بثقافة الانهزام الداخلي؟
ثقافة «الانهزام الداخلي» تظهر عندما يكون لديك مشاكل، ولا تبدأ التفكير في البحث عن حل لها في إطار متاح ما لديك من الإمكانيات والقدرات البشرية والمادية، وإنما تضعف قواك أمامها، فتظهر العجز وتنتظر باتكال كلي على الغير كي يأتيك بالحل معلباً جاهزاً، بالرغم من أنك لو أحسنت بقدراتك الذاتية، فنظرت بها حولك وحللت البيئة التي أنت فيها ستجد لمشكلتك ألف حل وبدون أي مساعدة خارجية، أو اتكالية على الغير.
ما وجه الانهزام الثقافي الذي وجدتموه في المجتمعات المحلية المستهدفة؟
عملت المنظمات والدولة في الفترات السابقة على غرس نوع من ثقافة الاتكال على الغير، في أوساط هذه المجتمعات، بحيث أصبحت مهمة توفير كل شيء محصورة على الدولة ومنها على تلك المنظمات إلى حد أن أصحاب المنازل في صنعاء القديمة على سبيل المثال، وهذا حدث في موسم الأمطار السنة الماضية؛ أن يتوقف أحدهم عن مهمة الصعود إلى سطح منزله كي يضع قليلا من التراب ويضغط عليه بقدمه ليمنع تسريب مياه الأمطار.
لماذا؟ لأنه بات منتظراً للمنظمة، كيف؟ لأن المنظمة أصلاً في فترات ماضية عوّدتهم على صيانة بيوتهم، وطليها بالنورة أو القص الأبيض ومن هذا القبيل، بذريعة أنها أدرجت المدينة في قائمة التراث العالمي، وأثناء العدوان على اليمن أشعرت المنظمة مالك المنزل هنا أن العالم قد أخلى مسؤوليته عن صيانة منزله والحفاظ عليه، وعملت له اتكالية أورثت لديه انهزاماً داخلياً.
كيف يمكن ربط ما ذكرت بمنهجية ذي القرنين؟
القوم لما طلبوا من ذي القرنين أن يبني لهم سدا أو بما معناه أن يضع حدا فاصلا بينهم وبين القوم الظالمين، وبذلوا في سبيل ذلك ولاء مطلقا كتبوه على هيئة شيك مفتوح «فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا»؟ ماذا كان رده عليهم؟ لم ينظر إلى الموقف من منظور رغبات الحاكم المطلق؟ ولا من منظور المقاول المستغل؟ كي ينتهز الفرصة لتحقيق أي من الأهداف. وإنما من منطلق الحكمة والهدى الذي علمه الله؛ ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾، اصحوا من الانهزامية التي تعيشونها وفكروا بمواردكم، وأنتم في ذاتكم تشكلون موردا بشريا قادرا على التفكير في أساليب إدارة هذه الإمكانيات وصهرها في قالب أو ردم يمنع عنكم الضرر.
وهذه هي نظرية التمكين، أعانهم في سد الحاجة بالتمكين كي تبقى الحلول هنا تنمية مستدامة، وليس بالاتكالية على الدولة أو على المنظمات (تنمية مشوهة)، قال: «أعينوني بقوة»؛ أي: تعالوا نتعاون، أنا لدي قدرة على المشاركة بما أمتلك من رؤية وحكمة تجعلكم تتمكنون من استكشاف وتخطيط وإدارة إمكانياتكم.
طيب، وما الذي سيتبقى للدول والمنظمات من دور في حال تمكنت الشعوب من استكشاف وتخطيط وإدارة مواردها؟
سؤال ينبئ عن وجود إشكالية في فهم الإدارة بالمشاركة، وهي إشكالية خلقتها المنظمات والدولة في الفترات الماضية، عندما سعت جاهدة إلى خلق أجواء تنمية نحن نقول عنها «تنمية مشوهة»، وليست «تنمية مستدامة»، وعلى أي أساس نحن نقول مشوهة؟ المنظمات والدولة في الفترات السابقة أدخلت نظام المشاركة المجتمعية، يعني ما هي فكرة جديدة.. المشاركة المجتمعية مارستها المنظمات نفسها، فهي تقول لك مشاركة مجتمعية، الصندوق الاجتماعي أحد قنوات هذه المشاركة المجتمعية.
ولكي نعلم، ماذا تعني مشاركة المجتمع؟ لدينا تفسيران؛ الأول: وهو تفسير المنظمات وهو المشاركة بالمال أو بالعمل، أنت يا مجتمع ساهم بـ 10% من تكلفة المشروع، وإذا ما تملك القدرة على دفع المساهمة، ساهم بالعمل مقابل النقد.. طبعا، المجتمع، لما رأى الفرصة أمامه متاحة ليس فقط في إعفائه من مساهمته فحسب، وإنما هناك فرصة أن يظهر العجز فخلقت اتكالية لديهم.
هذه هي النظرة السابقة التي فرضتها المنظمات والصندوق الاجتماعي والبنك الدولي، وساهمت في توطينها وترسيخ وجودها الحكومات الفاسدة التي تعاقبت على الحكم في العقود الأربعة الأخيرة السابقة لثورة الـ 21 من سبتمبر 2014م، فكانت النتيجة هي تلك التنمية المشوهة التي ما زلنا نعاني من آثارها الكارثية إلى اليوم.
ما دور مؤسسات الدولة في منهجية التمكين (ذو القرنين)؟
استنهاض المجتمع ومؤسسات الدولة وفق نهج ثوري نهضوي وتنموي تعاوني وتكاملي، يمتاز بسياسات ثورية وطرق عمل ديناميكية تتطور باستمرار وتراعي الأولويات الوطنية ووضعية منطقة الاستهداف مع التكيف مع ظروف الانتقال من مرحلة لمرحلة، طرق تستفيد من كل التجارب الإنسانية المحلية والعالمية، وتمتاز بالإحسان والمرونة والسرعة والدقة وعلى هدى الله. وتنفذ بمشاركة مجتمعية واسعة، تجمع وتنسق وتُفَعل كل طاقات المجتمع وموارده المحلية، وبتحفيز وإشراف وإسناد ورقابة وحماية حكومية مركزية ولا مركزية.. مركزية في تحديد وحماية الأولويات الوطنية وسياسات العمل الثورية، ولا مركزية في تقدير الاحتياجات والتخطيط والتنفيذ عبر الأطر المحلية الرسمية والشعبية.
وما هي وسائل وآليات إيصال وتفعيل المنهجية في أوساط المجتمعات المحلية؟
تم انتقاء واستيعاب مجاميع من المتطوعين لتدريبهم كـ (فرسان تنمية)؛ قيادات مجتمعية محلية مهمتها خلق الوعي التنموي كلا في محيطه الجغرافي، ودفع الناس نحو المشاركة الإيجابية في التنمية؛ بمعنى أوضح مساعدتهم على استثمار مخزون البيئة المتاحة من الموارد الطبيعية والطاقات البشرية.
وفي بيئة تدريبية مساعدة على اكتساب مهارات التجلد والإحسان، تم تزويد أولئك المتطوعين باتجاهات إيجابية وعلى هدى الله نحو الثقافة القرآنية والمشاركة المجتمعية، إضافة إلى معارف في السياسات الثورية، وفي مجال الموارد الطبيعية والمجتمعية والأنشطة الاقتصادية الزراعية والسمكية والمعدنية والتصنيعية، ومهارات أولية في مجال البحوث وتيسير الجلسات، وكذلك في مجال التخطيط للمبادرات وتنفيذها، وبما يؤهلهم للخروج بخطط تحدد مسارات تحفيز المجتمعات وتحشيدها لإطلاق وتنفيذ المبادرات في مختلف المجالات التوعوية والخدمية والزراعية.
ما الذي حققته هذه القيادات على مدى 4 سنوات من انطلاقة الثورة التنموية بالمشاركة المجتمعية الواسعة؟
في تجربتنا، برزت لدينا مشكلة، لأننا، في الواقع، اضطررنا إلى التركيز على توفير عوامل نجاح المؤشر الأول (الإنجاز). ووفقنا، بحمدالله، في تحقيقه بنسبة تزيد عن 100%، لكن في المقابل ظلت النتائج منخفضة نسبياً. لماذا؟
المجتمع لديه إرث كبير من التنمية المشوهة التي تعتمد على الدولة والمنظمات الدولية وبالأحرى يستجدي إلى اليوم (ماذا تعطونا؟) وليس كيف نعمل؟ والمطلوب منا بذل جهد أكبر في إقناعه بمحو «ثقافة أعطني»، وغرس ثقافة المشاركة المجتمعية المستدامة في الاعتماد على النفس مثل مشاركة المجتمع، تماما كما حصل مع اللجان الشعبية حين بذلت الروح والمال في سبيل الله لصد عدوان عالمي على اليمن.
لدينا مؤشران: مؤشر الإنجاز، ومؤشر النتائج، وما بين المؤشرين ترتسم صورة الواقع إيجابا بظهور المؤشرين، وسلبا ببروز الإشكالية في حال ظهور مؤشر الإنجاز وانخفاض نسبي مؤشر النتائج.
ما الظروف التي فرضت هذا الانخفاض؟
وجدنا في بداية المشوار صدا عنيفا في تقبل التعامل مع مفهوم المشاركة من قبل الحكومة والمؤسسات والهيئات التابعة لها والسلطات المحلية في المحافظات ومن يليها من الفعاليات الاجتماعية والعشائرية والنفوذ والطابور الخامس لعب دورا في ذلك، والمجتمعات المحلية في ذاتها لم تكن قادرة على الاستيعاب بسبب ضعف الوعي، وتفشي ثقافة «الانهزام الداخلي» التي خلقتها الحكومات السابقة والمنظمات في الأوساط، ما تسبب في ظهور قصور في برامج التوعية بأهمية المشاركة، فجاءت الرسالة غير مكتملة وواضحة بما يفي بغرض «خلق الاحتياج» لدى طرفي المعادلة (السلطات والمجتمع) لتفعيل مبدأ المشاركة المجتمعية المستدامة وعلى هدى الله.
ما المقصود بـ «خلق الاحتياج»، وما علاقته بتفعيل المشاركة المجتمعية؟
«خلق الاحتياج» لدى المجتمع بحاجته إلى تفعيل المشاركة المجتمعية، كي يأتي التدخل بالتوعية والتدريب بأهمية العمل التعاوني بالمشاركة من باب الاستجابة لقناعات المجتمع، وبالتالي تأتي خطوات التمكين من منطلق توافر القناعة الذاتية لدى المستهدفين، كي تساعد البيئة المستهدفة على تعزيز وتوطين أساسات التنمية المستدامة في المنطقة، وتحسين مستوى الحياة للمجتمعات المحلية، ومنها يلتفت الناس إلى التوجه نحو مسارات المشاركة في التعليم والتدريب والتأهيل المهني والتقني وتقديم الدعم الفني والتقني للمنطلقين نحو تفعيل الاقتصاد المجتمعي المقاوم بتبني المشاريع الصغيرة والأصغر من أجل تطوير أساليب الإنتاج الزراعي والصناعي والتسويق المحلية.
كيف يتم «خلق الاحتياج» لدى المجتمعات إلى المشاركة المجتمعية المستدامة؟
هناك العديد من طرق «خلق الاحتياج» لدى المجتمعات للمشاركة المجتمعية المستدامة، منها:
تشجيع المشاركة المجتمعية للتنمية المستدامة بتنفيذ نزولات ميدانية للتوعية وتعريف المجتمعات المحلية بأهمية إحياء روح التعاون والتكافل الاجتماعي للمشاركة في صناعة التنمية المحلية.
توفير البنية التحتية للمشاركة المجتمعية: وهنا يتم اختيار وتمكين شباب من أوساط المجتمعات لقيادة المشاركة في الأنشطة المجتمعية، مثل تدريب وتأهيل فرسان التنمية على مهارات ومفاهيم في مجال (أساسيات العمل الطوعي- التنمية والموارد التنموية- المبادرات المجتمعية)، والذين بدورهم سينطلقون إلى إلقاء الدروس والمحاضرات في المدارس والمساجد والمجالس.
التوعية والتثقيف عن طريق حملات التوعية والتثقيف والأنشطة التعليمية في وسائل الإعلام الجماهيري من تلفاز وإذاعة وصحف.
تفعيل المشاركة المجتمعية عبر شركاء التنمية كاللجنة الزراعية والسمكية العليا ووزارات الإدارة المحلية والزراعة والري والشؤون الاجتماعية والعمل والسلطات المحلية في المحافظات والمديريات وكل الفعاليات الاجتماعية والعشائرية
إنشاء منصات تشجيعية يتم من خلال توضيح الأهمية المرحلية والقصوى للمشاركة المجتمعية، مثل مسابقات ونقل التجارب وقصص النجاح التي يتم صناعتها عبر مبادرات مجتمعية من بيئة إلى أخرى، بهدف تحفيز المجتمعات لبعضها البعض على إطلاق المبادرات المجتمعية.
الاستخدام الفعال لوسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء ورقيا وإلكترونيا وتواصلاً اجتماعياً لتعزيز الوعي بأهمية المشاركة المجتمعية وتحفيز المجتمعات على المشاركة في الأنشطة المجتمعية، وهذا ما ظل فجوة كبيرة بفعل ما غرسته حكومات العقود السابقة من ثقافة الانهزام الداخلي.
فرسان التنمية، كما تفضلت، تم تدريبهم على أن يكونوا قادة للمجتمع لـ»خلق الاحتياج» وتحريك المجتمعات، أين دورهم في سد الفجوة بين مؤشري الإنجاز والنتائج؟
للأسف، وصلنا إلى تدريب نحو 20 ألف فارس تنموي في مختلف المجالات، دربنا على مستوى المحافظات فالمديريات والعزل وصولا إلى القرى، ولكن البرنامج، كما سبق، تم على غير تحديد للاحتياج المجتمعي النابع من قناعة المجتمع بحاجته إلى هذه القيادات المجتمعية. ما يعني أنه كان من المفترض أن يكون الدور الرئيسي لنا كمؤسسة، أن نبدأ دورنا من نقطة تحفيز المجتمعات على خلق الاحتياج من مدراء المديريات والقيادات المجتمعية بمفهوم المشاركة المجتمعية للتنمية المستدامة والذي يتمثل بدورهم بإشراك المجتمع أثناء تقدير الاحتياجات والتخطيط والتنفيذ أيضا والتشبيك خارج المجتمع في بعض الاحتياجات لحماية منتجاتهم من خلال مشاركة الدولة وليس تكرار الفترة الماضية من الاتكالية على الدولة والمنظمات.
لكن جزءاً من فرسان التنمية بما تم تأهيلهم لم يتمكنوا من إنجاز هذه المهمة.. لماذا؟ لأننا نزلنا نعمل توعية، وظل ما نريد إيصاله إلى المجتمعات في هذا الجانب مغيبا حتى عن فرسان التنمية أنفسهم إلى درجة أن هناك من الفرسان من لا يزال ينتظر أن ترشده كيف يعمل؟ أقصد: لا يزال حبيس ثقافة «اعطني السمكة»، ولم تتولد لديه القناعة في اصطيادها.. كيف حدث هذا؟ فيما كان الهدف أن نصل بالمجتمع إلى مستوى من الوعي يتعرف من خلاله على احتياجاته، ويستكشف موارد التمويل من المتاح ويفعلها في سد فجوة الاحتياج بعيدا عن الاتكالية على الغير.
وفرسان التنمية لم يتمكنوا من «خلق احتياج» لدى المجتمع للمشاركة المجتمعية، لم يحفز المجتمع إلى المستوى الذي يجعل منه أن يقول: هيا وريني كيف أعمل؟ إذا وصلت إلى هذه المرحلة تكون خلقت الاحتياج.
«ذو القرنين» في منهجية المشاركة المجتمعية هو مدير المديرية، وكان المفروض علينا كمؤسسة أن نشرع بتدريب هذا المدير والمجالس الإشرافية والمحلية والمكاتب التنفيذية، وينتهي دورنا.. ندربهم على اعتبار أن السلطة المحلية والمجتمع هما من يقدر الاحتياج، ولكن للأسف لم يحدث إلا القليل منهم أن تفاعل في البداية، وطلب من المؤسسة تدريباً أو قام بترشيح فرسان تنمية.
وما حدث أن أغلب الترشيحات تمت من خارج وعي المجتمع؛ أي: لم يتم خلق الاحتياج عند المجتمع لوجود فرسان لقيادة العمل الطوعي.. المجتمع لم يهتم؟ وبذلك صار ما قمنا به كمؤسسة مجرد نوع من التوعية، ولفت نظر طرفي المعادلة في السلطة والمجتمع إلى خيار تفعيل مبدأ المشاركة.. هناك نماذج أدركت أهمية تفعيل المشاركة، وبالتالي خلقت الاحتياج من ذات نفسها، وفعلت الفرسان في مسار التغطية، كما حدث على سبيل المثال في مديرية العشة محافظة عمران، حيث ظهر مؤشر إنجاز بوجود فرسان التنمية الذين صنعوا النتيجة في تفعيل المجتمع لإطلاق وتنفيذ مبادرات إنشاء ثلاثة سدود عملاقة لحصاد المياه، ومبادرات اجتماعية وتنموية أخرى، ولها نماذج مماثلة مبعثرة في عدد من المديريات والمناطق التي نما فيها وعي الإدارة المحلية وعرفت كيف تدير التغيير بالمشاركة.
من وجهة نظركم، كيف يمكن تجاوز التحدي الموجود؟
ننصح بالعودة إلى الخط الصحيح، والعودة الصحيحة هي التوقف أولا عن التوسع في زيادة رقم الفرسان، إلا إذا جاء طرفيا معادلة العمل التعاوني بمشاركة المجتمع والسلطة المحلية يطالبان بمنح فرص ومقاعد تدريب؛ دربوا لنا فرساناً، هذه نفقة التدريب؟ أو احضروا لنا مناهج ومدربين، نحن نتحمل كافة التكاليف وتهيئة المكان المناسب للتدريب؟ وإذا لزم، كمساندة لمنطقة نائية فقيرة في واقعها غنية في مواردها غير المستغلة، سأنفق على عملية التدريب، المهم بقاء الخطوة في إطار تلبية احتياج خلقه المجتمع لسد حاجته كعامل نجاح.
من الفرسان من تم تدريبهم ورجعوا بيوتهم؟
تقصد، لم ينزلوا الميدان ولم يحتكوا بشيء.. نعم، وهذا هو الخطأ الأول والظاهر في الرقم الذي أنجز من الفرسان، لأنهم لم يعرفوا أصلا مكامن الاحتياج في المجتمعات، ولم يدربوا على كيفية خلق هذه البيئة من الاحتياج، بل ولم يوفق البعض منهم، لأنه- أصلا- لم يتدرب بالشكل المطلوب كي يؤهل نفسه لممارسة مهارات وأساسيات العمل الطوعي كحد أدنى، هو حبس نفسه فترة الدورة، وخرج.
ما هي التدخلات التي يفترض أن تقوم بها الدولة؟
منهجية التمكين «ذو القرنين»، تعني التوجيه والإشراف والإسناد والتشبيك؛ مثلا المجتمع حدد احتياجه في تنفيذ مشروع ضخم كالطريق، وباشر التنفيذ، لكنه يفتقد خبرة التخطيط والإشراف الهندسي ومعدات الشق إذا وجدت، هنا يأتي التدخل الرسمي بتوفير هذه النواقص من تجهيزات الجهات والوحدات الرسمية والشعبية ذات العلاقة بأجور رمزية أو عبر المساهمة بكلفة أو جزء من أجور المهندس أو السائق، وقيمة البترول أو الديزل أو الأسمنت وخلافه.
ومن هنا، كان من المفترض أن تتمحور مهمة الدولة في تمكين المجتمع من التعرف على احتياجاته وتحديدها، ومن ثم تدريبه عن طريق أنظمة البحث السريع بالمشاركة عن موارد التمويل المحلية المتاحة، وعلى المشاركة في التخطيط لمشاريع توفير تلك الاحتياجات ثم إشراكه في الإشراف والتنفيذ، وأخيرا تمكينه من مهارات المتابعة والصيانة وتسليمه إدارة مشاريعه بصورة كاملة.. لماذا؟ لضمان الاستمرارية والتطوير، وهذا ما يطلق عليه «التنمية المستدامة».
بالمناسبة.. كيف تقيمون تجربة وحدة التدخلات المركزية…؟
التعاونيات في السبعينيات نشأت بتمويل ودعم مجتمعي 100%، والتعاونيات أكسبت المجتمع عوائد ملموسة معنويا وماديا، أذكر أنا كنت، حينها، مدرساً وحصلت على حافز مالي من التعاونيات، والدكتور الفلاني كان جالساً في المدينة ضابح بلا عمل، كانت التعاونيات تستدعيه وتفعله لخدمة مجتمعه في إطار اختصاصه ويحصل على حافز مالي، تمكنت تلك التجربة التعاونية من إدارة مرافق خدمية ومستشفيات ومدارس.
مع نهاية فترة الحمدي وبداية نظام «صالح» جاءت التدخلات الطارئة على هيئة مشاريع خدمية حكومية ومساعدات وهبات دولية والمنظمات والبنك الدولي.. فما الذي حصل؟ تدريجيا انخفض معدل التنمية المحلية بالمشاركة في مقابل ارتفاع منسوب غرس ثقافة «الانهزام الداخلي» بالاتكالية.
تدخلات نظام «صالح» أحبطت مشروع الرئيس الشهيد الحمدي من هذا المسار، فهو لم يقلل من شأن التعاونيات، ولم يصدر قرارا بحلها، بل على العكس، بحث لها عن موارد جاهزة سمح لها بالتعامل المباشر مع المنظمات المانحة وسحب بساطها من تحت المجتمع تدريجيا بتسليط الفاسدين على هيئاتها الإدارية، وفرض لها نسبة 25% من الزكاة ورفعها إلى 50%، وفي الخطوة الثانية سلط المشايخ قليلاً ودخلت مراكز القوى لتتحول التعاونيات إلى عنصر ناهب، وهنا لم يكن أمام المواطن سوى الانسحاب، والتحول إلى نحو فرض الاستجابة لطلبات الحلول الجاهزة والتسابق على الاتكالية في أبواب المصالح الحكومية والمنظمات والمشايخ ومراكز القوى.
أما التمكين على أساس من إفساح المجال أمام المجتمع لتحديد احتياجاته، ومن ثم أخذ تلك الاحتياجات إلى المكاتب ليتولى المهندس التخطيط بمفرده وفي معزل على مشاركة المجتمع، وتسليم المشروع مباشرة للمقاول، فينزل المقاول لتنفيذ ذلك المخطط؟ كما حدث في مشروع التنمية الريفية بالمشاركة المجتمعية في ذمار خلال 2005 و2011، فقد نفذت في 2019م مؤسسة بنيان دراسة تقييم آثار هذا المشروع حيث شكلت 167 وحدة من مجاميع المزارعين، وهو مشروع نفذ ضمن مطالب المزارعين، نأخذ على سبيل المثال جزئية «إعادة بناء المدرجات» كيف تم التنفيذ؟ نزل المقاول يبني المدرجات من أسفل الوادي في اتجاه قمة الجبل، ويضع أساسات لكل مدرج ومطلع مطلع.
المزارعون استغربوا، ومسكوا المقاول؛ قالوا: يا خبير أنت ما تفعل؟ أنت عارف جدي وجدك من أين كان يبدأ بناء مدرجاته؟ قال: أيوه داري (!) لكن ما أفعل؟ هذا مخطط عمله المهندس، وأنا مقاول أتيت أنفذ المخطط كما جاء؟
يا خبير، إذا بدأت بناء المدرجات من أسفل فسيأتي السيل مندفعا من أعلى بقوة وسيسحب معه كل ما قمته به من بناء.. لماذا؟ لأن تدفق السيل يأتي عادة من أعلى إلى أسفل، وبالتالي يفترض بناء المدرجات تنازليا، حتى إذا ما جاء السيل ينزل متدرجاً ومع كل مدرج سيخف الضغط، لهذا نقول بضرورة مشاركة المجتمع في التخطيط، وأثناء التنفيذ.. من الفضول- وفي ذات المشروع- القيام بتعمق نحر سايلة كانت مثبتة من جوانبها بأشجار كبيرة ومتشابكة وأمورها سابرة، قاموا نزلوا البلدوزرات لتسوية السايلة بكشط الأشجار وتعميق نحر السايلة، فأصبح من الصعوبة أن تستفيد الحقول من تدفق المياه.
المواطنون انفعلوا من الموقف، وأوقفوا المقاول، ورفعت القضية لنظر المحافظ.. المحافظ من جهته أرسل عشرة أطقم أمنية إلى المنطقة يوجهون المواطنين بعدم التدخل!