الحرب الدائرة في السودان وإن كانت تبدو حربا بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو، إلا أن التعريف الأكبر لها يقود إلى الأزمة السياسية السودانية التي أخفقت فيها كل الأطراف في التوصل إلى تسويات سياسية، لتفسح المجال في النهاية لحرب هي في ابسط صورة التجلي العنيف للأزمة المشتعلة منذ الإطاحة بنظام الرئيس المعزول عمر البشير.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
مع مضي الحرب في السودان بأسبوعها الثاني تتضاءل الآمال بشأن قدرة الجيش السوداني على إحراز تقدم نوعي في معاركه لإخماد المحاولة الانقلابية التي قادتها قوات الدعم السريع في ظل هُدن هشة خلفت حالة ذعر جماعي في أوساط المدنيين وتدهور متسارع للخدمات الإنسانية في ظل عمليات إجلاء عاجلة وكثيفة للبعثات الدبلوماسية والرعايا الأجانب أثارت المخاوف لدى الشارع السوداني من احتمالات طول أمد الحرب وتطورها إلى حرب أهلية.
ورغم النجاحات التي حققها الجيش السوداني خلال الأيام الماضية في السيطرة على مناطق الاشتباك في العاصمة وبعض الأقاليم السودانية، واستعادة السيطرة على بعض المؤسسات وضرب معسكرات قوات الدعم السريع، وتقليص مساحة انتشارها في العاصمة الخرطوم، إلا أن ذلك لم يكن مطمئنا للشارع السوداني والمجتمع الدولي على السواء وهو الموقف الذي تُرجم بعمليات الإجلاء الواسعة للبعثات الدبلوماسية العربية والأجنبية، وفرار جماعي للمدنيين والجاليات العربية والأجنبية.
ويبدو أن لدى الشارع السوداني قناعة بأن ما بعد عمليات إجلاء البعثات الدبلوماسية والرعايا العرب والأجانب من السودان لن يكون كما قبله، فخروج هذه البعثات من العاصمة قدم تأكيدات بأن لدى العواصم الغربية والعربية تقديرات دقيقة بأن مدى الحرب سيكون طويلا وربما يتطور إلى حرب أهلية قد تذهب السودان نحو المجهول.
هذه التقديرات بدت متوافقة مع المعطيات الميدانية، في ظل الصمود الذي أبدته قوات الدعم السريع في بعض المواقع وعمليات الاستقطاب الكبيرة في صفوف القوى المدنية والحركات المسلحة، التي يتوقع أن تفرز مع الوقت واقعا انقساميا مريرا، قد يجعل العودة إلى مسار السلام أمرا بعيد المنال.
وعلى أن التوقعات كانت تشير إلى قدرة الجيش السوداني على الحسم السريع للمعركة بصورة تعيد الأوضاع إلى نصابها، إلا أن هذه الآمال تتضاءل اليوم، في ظل عجز مجلس السيادة العسكري وحكومته المكلفة بتصريف الأعمال السيطرة على الأوضاع وتثبيتها في الحد الأدنى.
يشار في ذلك إلى استمرار قوات الدعم السريع في القتال داخل العاصمة، في حين أن المؤسسات الحكومية المدنية خرجت عن الخدمة بما فيها المشافي والمدارس والجامعات والموانئ والمطارات وخدمات الاتصالات والأنترنت، في ظل غياب كامل للخدمات الأمنية والشرطية بداخل العاصمة والمدن الرئيسية والتي أشعلت موجهة من أعمال السلب والنهب ناهيك عن أزمة الطاقة التي أدت إلى توقف شبه كامل للإنتاج الصناعي.
مسار متفجر
على خلاف التوقعات رسمت المواجهات الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بصورة سريعة مسارا خطيرا للأزمة يُرجح أن يسود خلال الأيام القادمة؛ فقائد الجيش الذي أصدر قرارا بحل قوات الدعم السريع واعتبارها قوى متمردة حدد أهدافه بالقضاء على الانقلاب واعتقال قادته ومحاكمتهم، بينما حدد قائد قوات الدعم السريع أهدافه بالاستمرار في الحرب لحين اعتقال قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان ومحاكمته.
وفي حين اعتبرت قيادة الجيش أن ما فعلته قوات الدعم السريع انقلاب على الشرعية الدستورية لغرض السيطرة على الحكم، اتهم قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) الفريق البرهان بالانقلاب على الاتفاق الإطاري، وعرقلة انتقال السودان إلى المسار الديموقراطي، وإعادة نفوذ الإسلاميين من النظام السابق إلى الحكم حتى باتوا مسيطرين تماما على القرار داخل الجيش.
هذه المواقف جعلت الحديث عن تفاهمات أو توافق سياسي ينهي الحرب الدائرة أمراً مستحيلا في الوقت الراهن، يعمده تأكيد قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان على عدم التفاوض مع متمردين خارجين عن القانون، ودعوته من تبقى من قوات الدعم السريع إلى الاستسلام، بمقابل تعهد قائد قوات الدعم السريع الاستمرار في القتال لحين اعتقال الفريق البرهان.
من يحصد النتائج؟
على أن الأهداف التي وضعها الجيش للقضاء على قوات الدعم السريع وتقليص مساحة انتشارها وعزلها تمضي بصورة بطيئة، فإن الأهداف التي أعلنتها قوات الدعم السريع لا تبدو قابلة للتحقق على المدى القصير على الأقل، بعد النجاحات التي أحرزها الجيش السوداني في استعادة السيطرة على العديد من المرافق السيادية وتكبيد قوات الدعم السريع خسائر كبيرة في مواجهات مباشرة وغارات جوية أرغمتهم على التحصن في مناطق سكنية في العاصمة الخرطوم.
من جانب آخر فإن رهانات قوات الدعم السريع على تحرك سياسي من القوى المدنية المناهضة لقيادة الجيش، يجعل منها الحاضن السياسي والشعبي الذي يمكن أن يضمن لها الصمود لفترة طويلة، تبدو بعيدة أيضا، بعدما اتجهت قيادة قوات الدعم السريع في خطابها السياسي إلى شخصنة الصراع مع قائد الجيش، في ظل تأييد معظم الشعب السوداني وأطيافه السياسية للجيش.
يزداد موقف قائد قوات الدعم السريع ضعفا في ظل تماسك مؤسسة الجيش الوطني السوداني وموقفها الموحد بإنهاء التمرد وإنهاء أي وجود مستقل لقوات الدعم السريع لما تشكله من خطورة على الأمن القومي للسودان، وهو ما بدا واضحا في العمليات العسكرية الناجحة للجيش السوداني، والتي أفصحت عن حافز كبير لدى قوات الجيش في الحاق الهزيمة بقوات الدعم السريع.
أكثر من ذلك فقد حظي الجيش السوداني لأول مرة منذ الإطاحة بنظام البشير تأييدا ومؤازرة شعبية واسعة تجلت بتشكيل لجان شعبية لمساندته ومناهضة قوات الدعم السريع التي تبذل مساع محمومة للتحالف مع مكونات سياسية وثورية بعد أن أبدت نسبة كبيرة من الشعب السوداني مساندتها للجيش الوطني.
هذه المعطيات تمنح قوات الجيش فرصا لتحقيق أهدافها خلال الفترة القادمة، غير أن توجهاتها لن تكون في معزل عن مفاجآت قد تظهر في الأيام القادمة، في ظل المحاولات الهادفة إلى إحداث انشقاقات في صفوف قوات الجيش قد تغير المعادلة، وكذلك المحاولات الرامية إلى فتح قنوات دعم خارجي تعيد صياغة المعادلات الميدانية.
والدعم الخارجي قد يكون نقطة فاصلة في مسار الأزمة السودانية في حال حصلت عليه قوات الدعم السريع، فذلك سيمنحها فرصا للاستمرار في القتال لفترة طويلة، ما سيقود إلى تفاقم المعاناة الإنسانية لدى الشعب السوداني، كما سيفتح الطريق لانشقاقات في صفوف الجيش، أو على الأقل توافقات تُفضي إلى خروج حميدتي والبرهان من المعادلة السياسية كحل نهائي للأزمة.
الخيارات الصعبة
رغم الخسائر التي تكبدتها قوات الدعم السريع فهي اليوم، توجّه كل ثقلها للصمود والبقاء في مناطق تمركزها في العاصمة الخرطوم، باعتبار ذلك طوق نجاة لها من الجيش السوداني الذي فرغ سريعا من التعامل مع وحدات الدعم السريع خارج العاصمة ويعاني من صعوبات كثيرة في محاولات دحرهم من مواقع تمركزهم في العاصمة.
والتكتيك الأخير الذي اعتمدته قوات الدعم السريع في الانتشار بالأحياء السكنية في العاصمة، وضع الجيش السوداني أمام خيارات صعبة للغاية، فحرب الأحياء والشوارع والمناطق السكنية يصعب السيطرة عليها دون خسائر تكون عادة أشبه بدمار شامل يؤدي إلى نزوح هائل للسكان.
ذلك أن حرب الشوارع بالمفهوم العسكري تتطور سريعا إلى فوضى يصعب السيطرة عليها وتجعل الملف الإنساني في مقدمة الأولويات، وهو ما لا يريده الجيش السوداني في الوقت الحالي، كون حرب الشوارع والأحياء لن تكون أكثر من فخ باهظ الكلفة، سيتحمل هو مسؤوليته في النهاية تماما كما حدث في حروب مشابهة في ليبيا وسوريا وغيرها.
هذا الأمر كان واضحاً في التصريحات الأخيرة لقائد الجيش الفريق البرهان الذي أعلن مؤخراً إمكانية التفاوض مع قوات الدعم السريع في حال قررت الخروج من العاصمة لخرطوم، أو العودة إلى مواقعها السابقة قبل المواجهات وهو التصريح الذي أفصح عن صعوبات يواجهها الجيش السوداني في تحرير جيوب قوات الدعم السريع في العاصمة، ومحاولته تجنب تفاقم الأزمات الإنسانية في كونها سترتد عليه في النهاية وستمنح الدعم السريع فرصا للنجاة.
ومن غير المرجح أن تنصاع قوات الدعم السريع للمطالبات بخروجها من أحياء العاصمة، فهي تدرك أن نقطة قوتهم الوحيدة المتبقية حاليا هي تواجدهم في مناطق سكنية بداخل العاصمة الخرطوم كونها تتيح لهم الاستمرار في القتال لفترة أطول، بعد أن فقدوا السيطرة على مناطق كثيرة كانوا سيطروا عليها في اليوم الأول للمواجهات.
التدخل الخارجي
بالنظر إلى معطيات الداخل السوداني المعقد، يمكن القول إن حرب التمرد في السودان ستكون الخلطة السحرية التي يمكن أن تقود إلى حرب أهلية في بلد يختزن أهم مناجم الذهب الذي تسيل عليه لعاب العديد من الدول الكبرى، ما يجعل الأزمة هناك مرشحة للتفاقم في حال حصول تدخل خارجي لدعم قوات الدعم السريع ما سيعقد من مهمة الجيش السوداني الذي أعلن مرارا مساعيه لمنع أي تدخل خارجي في الأزمة الحاصلة اليوم.
والتدخل الخارجي ليس كله سلبياً، فهناك نوعان من التدخل: الأول إيجابي يمكن أن يعزز استقرار السودان من خلال تقديم الإغاثة الإنسانية للنازحين والفارين من مناطق القتال، وتوفير الدعم للمرافق المدنية لكي تستمر في تقديم الخدمات مثل خدمات الرعاية الصحية والمياه والطاقة، في حين أن النوع الثاني سلبي وقد يقود إلى توسيع رقعه الأزمة ومداها الزمني في حال تقديم الدعم العسكري لأحد طرفي الصراع.
لكن الحاصل في الأزمة السودانية حتى الآن على الأقل، هو غياب الدعم الخارجي الإيجابي في ظل وقف الكثير من المنظمات الدولية الإنسانية أنشطتها التي كانت تقدم خدمات إنسانية لأكثر من 5 ملايين سوداني، وعجزها عن مساعدة النازحين والفارين من جحيم الحرب.
وتبقى معطيات الأزمة في السودان الباب مفتوحا للدعم الخارجي السلبي، في ظل التدخلات المرجحة من بعض الحكومات في دول الجوار السوداني أو حتى الكيانات العسكرية في بعضها الآخر والتي لها ارتباطات خارجية عدة، وكذلك الدول الإقليمية التي شرعت في دعم قوات الدعم السريع من اليوم الأول ويتوقع أن تستمر في ذلك خلال الفترة القادمة.
هذا الأمر عبَّر عنه التحذير الذي أطلقه رئيس الوزراء السوداني السابق الدكتور عبد الله حمدوك الذي ناشد المجتمع الدولي بتبني مواقف إيجابية للدعم الإنساني، وتجنب أي تدخلات عسكرية سلبية في الشأن السوداني كون ذلك سيقود إلى انزلاق السودان لمنعطف الحرب الأهلية.
وبصورة عامة يمكن القول إن هناك مخاوف مشتركة لدى الدول المجاورة للسودان من الشمال والشرق والغرب من انتقال عدوى حالة عدم الاستقرار إليها، وأكثر من ذلك الخشية الدولية من أن تفقد الضفة الشرقية للسودان المشاطة للبحر الأحمر استقرارها بما يعنيه ذلك من تأثير على أمن حركة الملاحة الدولية في منطقة تربط بين ممرين بحريين رئيسيين هما قناة السويس وباب المندب، وبما يعنيه ذلك أيضا من تدخل مباشر لدى كبرى تحلم بالتواجد في هذه المنطقة.
وأي تدخل خارجي في الأزمة السودانية بدعم أحد طرفي الحرب لن تقتصر آثاره على السودان وحسب، بل ستمتد إلى دول مجاورة كمصر التي تواجه تحديات اقتصادية كبيرة، ما دعاها إلى التحذير من أي محاولات خارجية لاستغلال ما يدور حاليا في السودان للقيام بأعمال تؤجج الصراع.