شهدة أمتنا خلال الفترة 1973-1990م تكريس خطاب) شيطنة الثقافة القومية) وقيمها وتكريس الثقافة القطرية كثقافة بديلة بعد أن أقتنع أصحاب القطري بأن المشروع القومي فشل بنكسة 1967 م والوحدة العربية فشلت قبل ذلك بفشل الوحدة المصرية _السورية وبالتالي لاشي اسمه الفكر القومي، وخلال هذه الفترة راحت الأنظمة القطرية تكرس ثقافتها وخطابها وتتمترس عند حدود سايكس _بيكو..؟!
وبرزت خلال هذه الفترة القطرية قوى الإسلام السياسي التي راحت تنخر الوعي الجمعي العربي قطريا وقوميا بمفردات فكرية وثقافية طمست بها ومن خلالها الهويتين القومية والوطنية رافعة شعار (الإسلام هو الحل)، ويا ليت انها كانت مؤمنة بهذا الشعار الذي اتخذته مجرد جسر يقربها من مفاصل الأنظمة والقوى الاجتماعية المؤثرة دون أن تغفل ربط خطوط تواصلها مع العديد من الجهات الخارجية، فكانت بسلوكها أكثر)ميكافيللية، من ميكافيلي) وبقدر (شيطنتها للقيم القومية والوطنية) طالت إساءتها القيم الإسلامية، وقدمت إسلاما مشوها لا علاقة لديننا الحنيف، فكانت أن جاءت بما لم تأت به الحملات الصليبية، وسلوكيات سلكتها لم يسلكها حتى (علوج هولاكو(..؟!
خلال العقد الأخير من القرن الماضي كانت (جماعة الإخوان) هي القوى المهيمنة في الشارع العربي وحاضرة بقوة في مفاصل العديد من الأنظمة، كما هي الحاضر الفاعل في مفاصل المجتمعات العربية المتأثرة بخطاب الجماعة والمنساقة خلفها عاطفيا..!
خلال هذه الفترات حدث ما يشبه عقد (زواج مسيار) بين الجماعة والأنظمة فشكلوا معا تحالفا ضد خصومهم من القوى الوطنية والقومية التي تعرضت على يد هذا التحالف لكل صنوف القهر والتنكيل، إلى أن دنت لحظة التخلص من دور ومكانة (الدولة الوطنية) أو بالأصح -الدولة القطرية- بكل مقوماتها ومشروعها الثقافي بعد أن أدركت بعض المحاور الخارجية أن الدولة الوطنية تشكل خطراً أيضا على مصالحهم إذا ما تمكنت من الحفاظ على استقرارها وتحقيق تقدمها التنموي والحضاري، وامتلكت قرارها المستقل، فكان العقد الأخير من القرن الماضي بداية رحلة تفكيك) الأنظمة الوطنية ( وكانت- الجماعة -للأسف هي الأداة لتحقيق هذه الغاية وهي تفكيك الدولة الوطنية واختراق بنيتها الاجتماعية من خلال بوابة الانفتاح والتحولات الديمقراطية، ورغم أن الديمقراطية ببعدها الحضاري هي غاية تتطلع إليها الشعوب والمجتمعات الحرة ومنها شعوبنا العربية، غير أن هناك من جعل الديمقراطية في مجتمعاتنا (تتأركس) وتؤدي دورا عكسيا يقوم على تمزيق النسيج الاجتماعي، ولا تلبي أحلامه وتطلعاته..
قد يكون المشهد السوداني اليوم بتداعياته وأطيافه التراجيدية يختزل مأساة الأمة التي شكلتها ممارسات)جماعة الإخوان) التي اندفعت بكثير من الحماس لقيادة (قطار الأحداث) التي شهدتها الساحات العربية عام 2011 م بصورة مباشرة، فيما مقدماتها غير المباشرة كانت قد بدأت عام 2003 م بالغزو الأمريكي للعراق، وان كانت السودان اليوم تحصد ثمار زراعة (جماعة الإخوان) كأخر محطة لقطار الأحداث بعد تونس، ومصر، وسورية، وليبيا، واليمن، وان كانت مصر بحكم تماسك جيشها قد أفلتت من (فخ التفكك والانهيار) واقتصرت تحدياتها في بضعة جيوب إخوانية حاولت اتخاذ جغرافية (سيناء) نقطة إزعاج للدولة والنظام والجيش في مصر الذي تمكن بيقضته وكارزميته وعراقته المؤسسية من تجاوز هذا الفخ، غير أن مصر تدفع اليوم الثمن بطريقة أخرى وهي المنغصات الاقتصادية التي تواجهها مصر كوسيلة لتطويعها بعد أن تجنبت حروباً اجتماعية كما هو الحال في بقية الجمهوريات العربية التي كانت تشكل بجيوشها وأجهزتها وخطابها وتطلعاتها مصادر إقلاق لمن يرغب في رؤية هذه الجمهوريات فاشلة، جيوشها منهارة، ومجتمعاتها ممزقة، من أجل سهولة تطويعها والسيطرة على جغرافيتها وإخضاعها لخدمة مصالح جيوسياسية ليس لدول المنطقة وشعوبها وأنظمتها مصلحة في ذلك..!
والمؤسف أن _جماعة الإخوان _لعبت دورا محوريا في تشكيل أطياف هذه التراجيديا التي تعيشها الأمة، ومعها الأنظمة القطرية التي لم تكن أقل انتهازية من انتهازية الإخوان التي خاضت مع هذه الأنظمة أو بعضها _للأمانة _معترك قام على مبدأ -الكذاب ضحك على الطمّاع- وهو المبدأ الذي عنون تحالف السادات مع الإخوان، وانتهى بمصرعه على أيديهم بعد أن لقبوه بـ(الرئيس المؤمن) لكنهم قتلوه حين طلب منهم قتله، والمشهد اليوم تتوالى أطيافه وتبرز (بصمات الجماعة) أكثر وضوحا، في كل أحداث الأمة، غير أن الأسوأ في المشهد هو غياب القيم العربية والإسلامية والقومية والوطنية وحتى الإنسانية في أبسط صورها عن كل تداعيات الأحداث وعن ذاكرة وسلوكيات رموزها وأدواتها..!