الظهور القوي للصين في معادلة الصراع الروسية- الغربية بمقترح التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية على أنه استهدف وضع مبادئ دولية، إلا أنه قدم مؤشرات على كارثة وشيكة باحتمال تطور الصراع في أوكرانيا إلى حرب كبيرة قد تطال بآثارها العالم، في وقت تتسارع فيه الأزمة بين موسكو والولايات المتحدة متجاوزة كل الخطوط الحمراء.
الثورة / أبو بكر عبدالله
لم يعد الحديث عن حرب عالمية وشيكة على خلفية التداعيات الخطيرة للصراع في أوكرانيا محصورا في خانة التحليل السياسي، فالدول المتصارعة باشرت تحركات عملية تنذر باقتراب اندلاع هذه الحرب وسط رسائل تهديد متبادلة بين رئيسي أقوى دولتين نوويتين في العالم روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
مؤخرا كانت حالة الحرب حاضرة بقوة في الخطاب السنوي للرئيس الروسي فلاديميير بوتين أمام الجمعية الفيدرالية للاتحاد الروسي والذي أكد فيه أن العالم يعيش تغييرات جذرية وأحداث تاريخية تواجه فيها روسيا خطرا وجوديا، جعلها تستعد للتعامل مع احتمالات تحول الصراع إلى مواجهة عالمية، بما في ذلك قرار بتعليق مشاركة روسيا في معاهدة الأسلحة الاستراتيجية والهجومية مع الولايات المتحدة والاستعداد للقيام بتجارب نووية إن قامت الولايات المتحدة بإجراء تجارب مماثلة.
ولم يكن خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخير من العاصمة البولندية وارسو، بعيدا عن الدائرة الساخنة فقد اعتبر في خطاب هجومي أن الرئيس بوتين فشل في تحقيق أهدافه، مؤكدا التزام واشنطن الاستمرار بدعم أوكرانيا في مواجهة العزو الروسي، بما يمنع روسيا عن تحقيق انتصار في الحرب، فيما اعتبر تصعيدا خطيرا للتوتر بين البلدين قد يؤدي إلى تداعيات كارثية.
والاتهامات المتبادلة التي تصدرها هذه المرة الرئيسين بوتين وبايدن بما أفصحا عنه من رؤى تجاه الحرب والصدام الوشيك بين القوتين، أرسل إشارات عن مستقبل قاتم، ليس فقط في أوكرانيا، بل لكل أرجاء العالم، خصوصا بعد أن تعهد بوتين مواصلة الجهود العسكرية حتى النصر، في مقابل تعهد الرئيس بايدن بأن روسيا “لن تنتصر”.
أصداء هذا التلاسن الخطير ظهرت في الداخل الأمريكي عبر المرشح الرئاسي للانتخابات الأمريكية القادمة دونالد ترامب الذي اتهم منافسه الديموقراطي جو بايدن وإدارته بالجنون كونهما يسيران بالعالم نحو حرب عالمية ثالثة ” معتبرا الخطوات التي يتخذها بايدن فيما يتعلق بأوكرانيا تدفع بشكل ممنهج وبدون وعي بدفعنا نحو ما يمكن أن يصبح قريباً حرباً عالمية ثالثة”.
مقترح صيني للتسوية
وسط هذه التجاذبات التي أثارت قلقا عالميا، الصين بقوة على خط الأزمة بمباشرتها أول تحركات صينية على مستوى رفيع للتوصل إلى تسوية سياسية بين روسيا وأوكرانيا في المبادرة التي سلمتها إلى موسكو وكييف الأسبوع الماضي ورحبت بها روسيا وسط تحفظ أوكراني.
اختارت بكين الذكرى الأولى للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لإعلان فحوى رؤيتها للحل السياسي للأزمة، مفصحة عن مقترح من 12 نقطة حمل عنوان ” موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية” كان أشبه بمبادئ عامة تقوم على أساسها المفاوضات المباشرة بين كل من روسيا وأوكرانيا، مقدمة فيها مقاربات سياسية وأمنية تحاكي الأسباب الجذرية للأزمة.
المبدأ الأول في المقترح الصيني أكد على ضرورة احترام سيادة كافة الدول على قاعدة أن “جميع الدول متساوية، بغض النظر عن حجمها أو قوتها أو ثروتها”، ووجوب تطبيق القانون الدولي بشكل موحد والتخلي عن المعايير المزدوجة ونبذ عقلية الحرب الباردة.
أما المبدأ الثاني فقد أكد على عدم إمكانية ضمان أمن دولة ما على حساب أمن الدول الأخرى، أو ضمان الأمن الإقليمي من خلال تعزيز الكتل العسكرية وتوسيعها” في إشارة إلى التوجه الأوكراني قبل الحرب للانضمام إلى حلف “الناتو” والضمانات الأمنية التي كانت روسيا طالبت بها قبل شنها عملياتها العسكرية في أوكرانيا، ليؤكد على أهمية “احترام المصالح المشروعة والهواجس الأمنية لجميع البلدان ومعالجتها بشكل مناسب”.
ودعا المقترح إلى وقف القتال وتحلي الأطراف بالعقلانية وضبط النفس، دون إغفال الموقف الأمريكي الغربي الداعم لأوكرانيا بالسلاح حيث دعا إلى عدم صب الزيت في النار، وعدم السماح بمزيد من التصعيد وخروج الأزمة الأوكرانية عن السيطرة.
ومن جانب آخر فقد تضمن المقترح الصيني مبادئ أساسية للحد من اندلاع حرب نووية، من خلال الدعوة إلى الحفاظ على المحطات النووية ومواجهة الهجمات المسلحة على المنشآت النووية السلمية، ودعم “الدور البناء” الذي تلعبه الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تعزيز أمن المنشآت النووية، وأكثر من ذلك التقليل من المخاطر الاستراتيجية وعدم جواز استخدام الأسلحة النووية أو شن حرب نووية، ومكافحة استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها وغيرها من أسلحة الدمار الشامل.
ومع دعوته إلى استئناف حوار مباشر بين موسكو وكييف في أسرع وقت، وإطلاق مفاوضات للسلام باعتبارها السبيل الحقيقي الوحيد للخروج من الأزمة الأوكرانية فقد حمل المقترح مبادئ لحل الأزمة الإنسانية تلزم العمليات الإنسانية «بمبادئ الحياد والعدالة» وتفادي تسييس القضايا الإنسانية، وحماية المدنيين والأسرى، والالتزام الصارم بالقانون الإنساني الدولي وعدم استهداف المدينيين والمواقع المدنية، وحماية حقوق الأسرى وإعادة الإعمار بعد النزاع، مؤكدة استعداد الصين للمساعدة والقيام بدور بناء في إعادة الإعمار في منطقة الصراع في مرحلة ما بعد النزاع.
وتضمنت البنود الأخيرة من المقترح القضايا التي تهم الصين والمجتمع الدولي والتي تشمل منع الانتشار النووي والتخلي عن فرض العقوبات أحادية الجانب، ورفض إساءة استخدام العقوبات الأحادية في سياق النزاع الأوكراني، كونها لا تساعد في حل الأزمة، فضلا عن دعوتها ضمان استقرار سلاسل الصناعة والإمداد، ومعارضة تسييس النظام الاقتصادي العالمي واستخدامه كسلاح.
وبصورة عامة لا يبدو أن المقترح الصيني الذي عبر عن موقف بكين من الأزمة ومفاعيلها، وهي المواقف التي طالما أعلنتها بكين ضمن موقفها المحايد من الملف الأوكراني ولا سيما في دعوتها إلى احترام سيادة الدول بما في ذلك أوكرانيا، والدعوة إلى الأخذ في الاعتبار مخاوف موسكو الأمنية.
الموقف الغربي
من الساعات الأولى لإعلان الخطة الصينية للتسوية بدا الموقف الأمريكي معارضا استنادا إلى رؤية واشنطن السياسية التي ترى في الصين وسيطا غير نزيه في ملف الأزمة الأوكرانية، ما فسر تصعيدها باتجاه الصين باتهامها المباشر بمحاولة تزويد روسيا بأسلحة فتاكة لمساعدتها في حربها العدوانية في أوكرانيا وتهديدها بأن ذلك سيكون له عواقب على العلاقات المستقبلية بين واشنطن وبكين.
وبخلاف ذلك بدا الموقف الأوروبي متباينا، حيث أبدت بعض الدول الأوروبية استعدادا للمشاركة في إنجاح خطة التسوية الصينية بما في ذلك سويسرا التي أعلنت استعدادها استضافة أي مفاوضات ثنائية بين روسيا وأوكرانيا، في حين شكك الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير في إمكانية أن تلعب الصين دوراً بناءً من أجل السلام في أوكرانيا، قائلاً إنّ «أي اقتراح بنّاء يقرّبنا من سلام عادل هو موضع ترحيب غير أنّه لا يزال من المشكوك به أن تكون الصين، القوة العالمية، ترغب في لعب مثل هذا الدور البنّاء».
حصل ذلك في الوقت الذي كشفت تقارير غربية أن كل من الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني أبلغا الرئيس الأوكراني زيلينسكي بشكل مشترك أن كييف بحاجة إلى بدء النظر بمحادثات سلام مع روسيا.
أما الموقف الأوكراني فقد بدا متماهيا مع الموقف الأمريكي الغربي المعارض، خصوصا بعد إعلان الرئيس زيلينسكي أن على الصين أن تضمن مغادرة روسيا أراضينا، وهو تصريح انطوى على رفض كييف لأي تسويات لا تتضمن انسحاب روسيا من الأراضي المسيطر عليها منذ بداية العملية العسكرية، ناهيك عن تصريحات وزير الخارجية الأوكراني علق على خطة السلام الصينية بالتأكيد على أن خطّة السلام التي اقترحتها كييف والمؤلفة من 10 نقاط تبقى «الأولوية الأولى».
فرص الوساطة الصينية
كان واضحا أن الصين التي اختارت منذ بداية الأزمة موقف الحياد، انتظرت لمدة سنة حسم أي طرف للحرب في أوكرانيا، غير أن التداعيات التي اتخذت مسارا تصعيديا بتوسع الحرب الأوكرانية إلى حرب عالمية دفعتها للتحرك الدبلوماسي لتلافي مخاطر قد تمس الصين بصورة أو بأخرى، من خلال خطة استهدفت في المقام الأول تبريد المناخ الساخن.
ذلك أن الخطوة الصينية لم تكن متعلقة بالنزاع الروسي الأوكراني فقط، فلدى بكين حسابات من جانب الولايات المتحدة خصوصا بعد التدهور الشديد في العلاقات بين البلدين والتلميحات الأمريكية بالتدخل المباشر ضد الصين في حال استمرارها بدعم روسيا أو تهديد تايوان.
وتدرك الصين من جانب آخر أن التحذيرات والاتهامات المتبادلة بين موسكو وواشنطن، ستلقي بآثارها على العلاقات الصينية الأمريكية التي تدهورت بصورة كبيرة بعد حادثة المنطاد الصيني، وبلغت ذروتها بعد التقارير الصينية التي تحدث عن زيارة مرتقبة للرئيس الصيني في إبريل أو مايو المقبل إلى موسكو وهو اللقاء الذي أعاد إلى الأذهان لقاء القمة الذي جمع الرئيسين الصيني والروسي قبيل الحرب الأوكرانية وأفضى إلى إعلان مشترك عن شراكة استراتيجية بلا حدود بين البلدي.
والمؤكد أن المقترح الصيني سعى إلى دفع الدول الأوروبية للمشاركة في هذه الجهود وفقا لمبادئ «المساهمة في السلام وفقا للقانون الدولي» و «تعزيز الأمن المشترك» الذي تعتبره الدول الأوروبية أولوية، وحظي مؤخرا بدعم فرنسي مباشر عبرت عنه الصين وفرنسا في لقاء جمع وزير الخارجية الصيني في ميونخ بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والذي قالت الرئاسة الفرنسية إنهما عبرا عن الهدف نفسه المتمثل في المساهمة في السلام وفقا للقانون الدولي.
ويبدو أن الصين تحاول تلافي تداعيات قد تطاول بكين بعد القرار الأممي غير الملزم الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة وتضمن توافقا دوليا على «عزل موسكو» بمطالبته بانسحاب «فوري» للقوات الروسية من أوكرانيا، ودعوته إلى سلام «عادل ودائم» في ظل التوقعات بأن يؤدي هذا الموقف إلى رفع الولايات المتحدة ضغوطها على الصين.
عقبات على الطريق
والمؤكد أن المقترحات الصينية لتسوية الأزمة الأوكرانية أرادت وضع مبادئ تريد بكين أن تكون بمثابة قوانين للتعاطي معها في الأزمات المستقبلية، خصوصا وأنها قد تضطر لمواجهتها مستقبلا في قضية جزيرة تايوان.
ويبدو أن مهمة الرئيس الصيني ستركز على هذه القضية كأولوية خلال الزيارة المرتقبة له إلى موسكو وهو ما يفسر التوجسات الأمريكية من هذه الزيارة المرتقبة للرئيس الصيني إلى موسكو المقررة في مايو المقبل والتي تخشى واشنطن أن تفضي إلى النتائج ذاتها التي افضى إليها لقاء القمة الذي جمع الزعيمين الروسي والصيني العام الماضي.
هذه الخلفية هي من دعت واشنطن إلى التصعيد تجاه الصين بالاتهامات التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي للصين بأنها تدرس تقديم أسلحة لروسيا، وهو ذات الموقف الذي عبرت عنه نائبة الرئيس الأمريكي كاملا هاريس والتي حذرت في مؤتمر ميونخ للأمن الأسبوع قبل الماضي بأن زيادة الدعم الصيني لروسيا في أوكرانيا لن يؤدي إلا إلى «مواصلة القتل وتقويض النظام القائم على القواعد».
وبعيدا عن الضغوط الأمريكية الغربية، فإن التقديرات تشير إلى عقبات أخرى ستواجهها بكين، وفي المقدمة حاجتها لممارسة ضغوط على روسيا للقبول بتسوية متوازنة من الجانب الأوروبي ومقبولة من الجانب الأوكراني، وهو الموقف الذي كانت الصين تتجنبه خلال الفترة الماضية.
وبصورة عامة فقد وضعت الصين نفسها بهذا المقترح أمام امتحان صعب يقتضي منها ممارسة ضغوط قصوى على الجانب الروسي للمضي بخطة سلام تتعامل بحياد مع المطالب الروسية والغربية، كون أي انحياز سيعني المغامرة الخطرة بعلاقتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية.