كيف يجب أن نؤسِّسَ لتربية سليمة تقود إلى أمة ناهضة؟
تميَّزت حركة الشهيد القائد بنجاعتها، وصارت نجاحاتها السريعة مثارَ تعجُّب الباحثين والمراقبين، ولكن ذلك الاستغراب سيزول حين نعرِف أن المؤسِّسَ كان صادقَ التوجه مع نفسه ومجتمعه، وأن همَّه الأكبر تمثَّل في إيجادِ أمةٍ قويةٍ تثق في الله ثقة مطلقة، وهذه بعض القضايا التي اعتمدها في بناء الأمة القرآنية الإسلامية القوية بالله تعالى، من خلال معرفة الله المعرفة الصحيحة، المعرفة التي تستولي على وجدانِ صاحبها، وتحوِّلُه إلى متحرِّكٍ جادٍّ ينسجم وجدانُه وواقعُه مع معارفه.
•ولهذا كانت معرفة الله هي أولَ قضيةٍ ركَّز عليها ودعا إلى اعتبارِها جزءاً مهماً من مكوِّنات التربية الحقيقية، ففي محاضرة (لقاء المعلمين) بيَّن أن أول قضية يجب التركيز عليها هي قضية معرفة الله سبحانه وتعالى، التعريف بالله من خلال نعمه، إحسانه، شرح أسمائه، إلى آخر ما ذكره القرآن الكريم عن الله تعالى، التعريف بالله الذي يملأ وجدانَ الناس بروح المسئولية في بناء الأمة الواحدة والقوية والمنطلِقة معه تعالى.
ومحاضراتُه في معرفة الله تشكِّل الركنَ الركين الذي أوجد أمة عظيمة في اليمن، تشعُر بمعية الله القوي القهار، وتتوكل عليه، لا يضرُّها من خالفها أيا كان.
•وفي محاضرة (لقاء المعلمين) طلب ممن يريد التأثير على الناس، بأن يعي أن هناك أسبابا في الموضوع مرتبِطة بالله، بأنه هو الذي يجعل في ذلك التحرك فاعلية وتأثيرا. وأن على المنطلِق مع الله تعالى والعارِف له معرفة صحيحة أن يتحرَّكَ ثم يكِلَ الأمرَ إليه تعالى في كمال النتائج وتحقُّقِ الأهداف.
•واشترط اقتناع المتحرِّك في هذا المشروع به كمال الاقتناع، انطلاقا من الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِه﴾ (الزمر33)، يعلق الشهيد القائد قائلا: «إنها نقطة هامة جداً، نقطة هامة جداً أن تكون أنت أولَ مصدِّقٍ بما تأتي به، مصدق بما تتحرَّكُ فيه أنت»، ما لم فإن تحركه سيكون باهتا وضعيفا وغير فاعل، ولن يكون لديه الاهتمام الكافي، ولا التفاعل الجاد (آيات من سورة الكهف).
•وشدَّد على وجوب الثقة بالمنهج حتى ولو جحده الآخرون، واعتبر ذلك قضية تربوية هامة، حيث يقول في سياق شرح الآية السابقة أيضا: «هذه قضية هامة من الناحية التربوية، ومن ناحية مجال الدعوة أيضاً، أحياناً بعض الناس يُحْرِجُ نفسَه حتى لا يكاد يرى عظمة ما لديه إلا إذا آمن به الآخرون واقتنعوا به، لا، بل يجب أن تكونَ واثقاً بما أنتَ عليه حتى ولو جحد الآخرون كلهم، فلا يهزك في ثقتك بما أنت عليه» (سورة النساء – الدرس العشرون من دروس رمضان).
•وحذَّر رضوانُ الله عليه من تناوُلِ الدينِ على أنه أجزاء منفصلة، أو الاقتصار على جانب دون آخَرَ فيه؛ لأن الدين مترابِط بعضُه مع البعض الآخر، «هذا يخدم هذا، وهذه المسألة تخدم تلك، وهذه القضية تهيئ لتلك، سلوكيات، أو معتقدات، أو عبادات، أو أقوال، كلها قضايا يخدم بعضُها بعضا».
•وأكّد على أن من الأسس في هدي الله أن تقوم الهداية على أساس بناء الأمة الواحدة، هدى من الله بالشكل الذي يبني أمة واحدة.
•وطلب من العاملين في إرشاد الناس أن يبنوا فيهم هذا الشعور، الشعورَ بالمسؤولية، وأن يغرِسوا فيهم هذه المسؤولية. وعليهم أن يثقوا أن الله حين قال: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ﴾ وضع منهجا متكامِلا لتكوّن الأمة، من خلال ثنائية (المنهج والأعلام). وركّز الحديثَ بأنه يجب على المعلِّم والمرشِد أن يرسِّخ في المجتمع الذي يتحرَّكُ فيه روحَ المسؤولية بالتحرُّك الجادِّ مع الله عز وجل، وفي بناء الأمة الواحدة والقوية، وأنهم مسؤولون، وأن يعملوا لدينهم، وأن يكونوا أنصارا لربهم، وأن يكونوا حركيين.
•وأرشد إلى وجوب التركيز على قاعدةٍ مكانيةٍ محدَّدةٍ في بداية العمل الحركي لتكون نموذجا يُحْتَذَى لحالة الهدى الواقعي، ومنها يكون الانطلاق وتصبِح النموذج المثالي للآخرين للانجذاب إليها والانشداد نحوها، كما فعل الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة حين جعلها قاعدة يُنْطَلَقُ منها لتكوينِ مجتمعٍ مسلمٍ.
وقد حاول الشهيد القائد أن يجعل من منطقة مرَّان قاعدة للانطلاق، ونموذجا للاحتذاء انطلاقا من هذا التوجُّه التربوي؛ حيث دعا إلى تجمُّعٍ واحدٍ، بمعنى أن يكونوا متوجِّهين توجُّها واحدا، قيادتُهم واحدة، موقفُهم واحد، توجيهُهم واحد، وعلّل قضية الهجرة في الإسلام بأنها جاءت لتكوين القاعدة الإسلامية الأولى، والمجتمع الإسلامي النموذج.
•واشترط بأن يكون المتحرِّك مع الله على فهمٍ بقضية أن يكون قدوة في ما يطرحه، مستدلا بقول أمير المؤمنين عليه السلام: (من نصّب نفسه للناس إماما فليبدأْ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبُه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلِّمُ نفسِه ومؤدِّبُها أحقُّ بالإجلال من معلِّمِ الناسِ ومؤدِّبِهم)، محذِّرا في هذا السياق من أنَّ الغلطةَ تفرِّع غلطات؛ ولهذا لا بد أن يكونَ المعلِّم على فهمٍ كبيرٍ وعلمٍ كافٍ في مجالِ تحرُّكِه.
•وأوجب رضوان الله عليه تقديمَ الدين على مثاليَّته وكماله، وحذّر ممَّا اعتبره خطأ كبيرا، من تقديم نصفِ الدين أو بعضِه، وترك البعض الآخر بحجة استحالة أو صعوبة تنفيذه، وشدّد على أهمية تقديمِه كاملا غيرَ منقوص حتى لو تصوَّر البعضُ أنه لا يُمْكِن تطبيقُه في الواقع، وعلل ذلك بأنه لكي يظهر للعباد أنه لا يوجد في الدين تقصيرٌ، ولا خللٌ، ولا قصورٌ، ولا إغفالٌ. وفي الوقت نفسه بين أن القرآن الكريم يعطينا الإذنَ باستخدام العبارات والأساليب البديلة، إذا صعب استخدام أساليب أو عبارات محددة.
•ودعا إلى أسلوب التذكير باعتباره أسلوبا تربويا قرآنيا، تذكير الجيل المعاصر بالأجيال السابقة، وما حصل لهم، وهو أسلوبٌ استخدمه مؤمنُ آلِ فرعون، واعتبر هذا الأسلوب منهجا للناس يسيرون عليه، وذكر أن هذا مادة واسعة في القرآن الكريم، ورصيد كبير جدا على حدِّ وصفه.
ثم تساءل في حينه حين كانت تموج العراق بعد احتلال الأمريكان لها بالطائفية والتفجيرات والتخريب والتدمير عن أثر الحرب على العراق، تساءل: لماذا لا يبحث اليمنيون عن هذه القضية؟ وماذا لو كان مصير اليمن في يوم من الأيام مصير العراق؟ ولم لا يخافون أن يكون مصيرُهم مصيرَ أولئك؟ وهو تساؤل نجد اليوم حاجتنا إليه، لا سيما بعد شن العدوان السعودي الأمريكي حربه على اليمن، ونتمنى لو أخذت الأمة بذلك التساؤل على محمل الجد في حينه.
•وحثَّ على إرشاد المعلّمين والمربِّين بأنه حين يكون هناك تراجُعٌ أو انتكاسة في مسيرة الحركة أو في أحد منعطفاتها فعليهم أن يربوا الأمة بأن ذلك ليس هو آخرَ التاريخ، ولا آخر المطاف، كما حصل للمسلمين في حنين وأحُد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وطلب من المعلِّمين والمرشدين أن يفتحوا باب الأمل في الله عند الناس عند أيِّ تراجُع أو انتكاسة، وأن يرشِدوهم إلى الرجاء فيه تعالى، وأن بعد العُسْرِ يُسرا.
•وأرشدَ تربويا إلى التعامل السليم مع الشباب الطموح، الذي يُبْدي طموحا ونزوعا نحو القوة، والفتوة، والرجولة، باستثمار ذلك النزوع والطموح وتوظيفه في المنهج الصحيح، وفي المكان الصحيح.
يقول: «إذا رأيتَ شابًّا فيه طموحٌ وإباءُ ورجولةٌ فأرشِدْه أين يجب أن تكون هذه النفسية، ودُلّه على أن يعبِّد نفسه أولا لله، وقد رسم الله لنا منهجا نكون فيه عظماء وكبارا، وأقوياء، وأشداء، وفي نفس الوقت رحماء في ما بيننا، متصافِحين، متآخين، متعاوِنين»؛ مستدلا بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي دجانة (لقاء المعلمين).
•وشدّد على أن تكون علاقة الحاكم بالأمة بالشكل الذي يسمو بها، قال رضوان الله عليه: «فيجب أن يكون الحكم للناس بالشكل الذي يسمو بهم، يكون متناسبا مع تكريم الله لهم، وليس بالشكل الذي يحطُّهم، ويقهرُهم، ويُذِلُّ نفسياتهم» (سورة المائدة – الدرس الثالث والعشرون من دروس رمضان).
•ودعا إلى عدم السماح للقدوات السيئة في المجتمع بأن تمارس دورها التخريبي، حيث اعتبر «من العوائق التي شخَّصها القرآن وجودُ شخصية سيِّئة ضاغطة مثل شيخ أو متنفِّذ، هنا القرآن تحدَّث عن قوم نوح، ونوح رسم لك طريقة التعامل مع هذا النوع من الشخصيات، فتحاول أنت أن لا تسمَح لهذه الحالة أن تظهر في المجتمع» (لقاء المعلمين).
•ودعا كما تقدَّم إلى تربية الأمة تربية إيمانية، تربية جهادية، حيث قال: «في هذه المرحلة الأمة أحوج ما تكون إلى تربية إسلامية»، التربية التي تجعلهم يشعرون بما يعانيه إخوتهم المسلمون المظلومون في أقطار الأرض (في ظلال دعاء مكارم الأخلاق – الدرس الثاني).
•وحين نكون في مواجهة الأعداء لا بد أن نتحلى بالوعي والحصافة، والاهتداء إليهما لن يكون إلا بالقرآن الكريم، بالإضافة إلى التحرك الجاد في مواجهتهم حتى ولو بالحديث عن مؤامراتهم، حيث قال: «هذا أرجوه من كل شخص أن يتحرك فيه، كل شخص يتحرك فيه، هذه نقطة أعتقد مهمة» آيات من سورة الكهف).
ومع ما تقدم فإن هذه النقاط ليست سوى محاولة بسيطة في الإبحار في كثير من المعالجات التربوية التي قدمها الشهيد القائد في محاضراته.
نتائج وتوصيات
بعد هذا العرض، يتضح:
– أن للشهيد القائد رؤية تربوية واضحة وناجحة أيضا، وأنه أولى موضوعَ التربية بالتوضيح والتبيان وبكثير من التأصيل، وأنه عمل بهذه الرؤية على أرض الواقع، فاكتسبت الرؤيةُ الأصالةَ والواقعية، وصارت نموذجا يمكن الاهتداء بها في طُول وعَرض بلاد المسلمين.
– كما تبيَّن أن الارتباطَ بالقرآن الكريم والثقة المطلقة بما عند الله، والشعور بمعيته لعباده المخلصين المجاهدين، تعطي صاحبَها تربية فاضلة، وتصنع منه شخصية مؤثرة، وتضفي على تحرُّكه الخيرَ والبركةَ والنجاحَ والتوفيق والسداد.
– وظهر أنه فكّر في شؤون الأمة، وحاول إيجادَ الحلول لمشاكلها المستعصية مستهديا بالقرآن الكريم، وتميَّز على كثيرٍ من المفكرين والمنظِّرين بأنه تواكبت تنظيراته مع واقعٍ هو أحدثَه، ووضعٍ هو أسّسه، وبالتالي فتلك التنظيرات والرؤى قابلة للحياة والانطلاقة، وتعطي القوة على تحدي قوى الشر في العالم، وإنكار شرورها، ثم حققت هذه الرؤى نجاحات كبيرة وتغييرات مهمة واستراتيجية على أرض الواقع.
ولهذا يوصي الباحث بـ:
– إجراء المزيد من الدراسات في أدبيات هذه الحركة بشكلٍ عام، ومقاربةِ صيغِها الحضارية، وتوضيحِ الملتبِس منها، وتوجيهِه بحسب الروحِ الحضارية العامَّة للمشروع، وتحتاجُ للتعمُّق فيها بقراءاتٍ موضوعيةٍ مُنْصِفة، حيث لا زالت أدبياتُ هذه الحركة بِكرًا، وكثيرٌ من التفاصيل في فروعها قابلة للتشكُّل والنقاش والحوار.
– دعوة التربويين في العالم الإسلامي إلى الإفادة من هذه الرؤية التربوية التي أحدثت تغييرا واقعيا كبيرا في غضونِ سنواتٍ قليلة وفي ظل ظروف كثيرة معيقة، ودعوتهم لا سيما في اليمن إلى ربط الناشئة خصوصا وطلاب الجامعات والدراسات العليا خصوصا بمشروع الأمة الواحدة والقوية، وأن يكونوا أنصارًا لله تعالى.
– تكثيف مادة القرآن الكريم والثقافة الدينية ومعرفة الله في المناهج المدرسية والتعليمية الأساسية والجامعية، والعمل على جعلها روح التربية والتعليم وتثقيف الطلاب بالثقافة القرآنية الجامعة والفاعلة، وأساسا لجميع أنواع التربيات الخاصة، ومنها التربية الوطنية لكي تنعكِس عليهم انتماء ومعرفة ووجدانا وهدفا وغاية وواقعا وسلوكا.
– تشجيع الدراسات العلمية في العكوف على القرآن الكريم ودراسة منهج القرآن وأساليبه ووسائله واستخراج المزيد من الوصايا والآداب التربوية، والاهتداء بها في جميع مجالات واقع الإنسان اليمني خصوصا والمسلم عموما.
وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.