كرصاصةٍ تخترق القلب، جاء خبر وفاة الدكتور عبد العزيز المقالح في يوم الاثنين الموافق 2022/11/28م، لندخل حينها في ساعات صمت تشبه الموت، وعند مغادرتنا لدوائر الصمت اللاواعية سننتحب ونبكي هكذا، كما لم نبكِ من قبل، ستبدو القصيدة بلا قصيدة، وصنعاء بلا صنعاء، وستبدو اليمن بلا روح، وبلا نشيدٍ وطنيٍ يغسل وجهها ويقدمها للعالم يمناً زاخراً، ومتنوعاً.
شهدت اليمن في الفترة الأخيرة تقزّماً وتلاشياً للشخصيات السياسية، والحزبية، وتقهقراً وسقوطاً للنخب اليمنية، ليظل حارس المعنى الكبير، وأيقونة البلاد الدكتور عبدالعزيز المقالح الذي لم تغيرّه تحولات الفصول والأزمنة، ولم تنل منه نكبات السياسة وانزلاقاتها إنه الابن الفذ للجمهورية، الذي يُجمع اليمنيون على حبه واحترامه كقيمة إنسانية أكبر من كل الألقاب التي حققها بجدارة، فهو لم يكن مجرد شاعر استثنائي فقط، ولم يكن مجرد ناقد عبقري فحسب ولم يكن مجرد مؤرخ عظيم وكفى، بل كان كل ذلك وأكثر…
كان ضميرنا ووجداننا الجمعي الذي تتخلق فيه اليمن بمدنها وجبالها وأوديتها وتاريخها وأدبها، وتشرق ساطعةً كل صباح من مهجة خلاياه، ومن بين شرايينه وأوردته، هكذا كانت روحه تسكن كل اليمن وتمتد لتسكن خارطة الوطن العربي الكبير مثقفاً عالمياً وأديباً إنسانياً.
نعم لقد رحل أبونا الروحي، واليمن شاخصةً موجوعةً بين حدقات عيونه، وتحت مسامات جلده…
« في لساني يمن،
في ضميري يمن،
تحت جلدي تعيش اليمن،
خلف جفني تنام وتصحو اليمن،
صرت لا أعرف الفرق ما بيننا،
أيُّنا يا بلادي يكون اليمن».
إنه حارس المعنى الكبير الذي ثار وصال وجال وكان حاضراً وفاعلاً في تحولات اليمن الكبرى، يمشي على أصابع روحه يتحسس الضوء والبهاء ويخاف أن يجرح وردةً أو يكسر غصناً للكلام، يأتيه المجد جاثياً على ركبتيه مُلقياً بين يدية عقيق الأبجدية، ومراجين الشعر، ولآلئ الضوء فلم يزده ذلك إلا تواضعاً وتوهجاً وانفعالاً باليمن ولليمن.
بدأ حياته تربوياً في مدرسة الإيتام، وإعلامياً في إذاعة صنعاء، إلا أن حصوله على الدكتوراه في نهاية السبعينيات كان بدايةً لمسيرةٍ علميةٍ حافلةٍ بالتنوع والثراء والانجاز، فأنتج 23 كتاباً شعرياً، و33 كتاباً نقدياً ، وأنجز عشرات الأبحاث والدراسات، حصد عشرات الجوائز والأوسمة، وكُتبت عنه عشرات الدراسات والرسائل العلمية.
كان رئيساً لجامعة صنعاء، فاستقطب إلي ساحتها أشهر وألمع رجال العلم والفكر والأدب في الوطن العربي أمثال: بطرس غالي، وكمال ابو ديب، وجابر عصفور، وعز الدين اسماعيل، ….إلخ.
أسس ورأس مركز الدراسات والبحوث، وكتب في أكثر من صحيفة ودورية ومجلة يمنية وعربية بصورة يومية وأسبوعية وشهرية، كما كتب وقدم لإذاعة صنعاء وتلفزيون الجمهورية اليمنية العديد من البرامج الثقافية والرمضانية، ورغم كل هذا النشاط والاتقاد الفكري والأدبي والنقدي والعملي الذي يعتمل في عقل ووجدان هذا الرجل/البحر، الذي يمنح السماء ألوانها الآخاذة، ويقيم علاقة تجاذب حميمية مع قمر المعرفة لتضطرم الأمواج بين ضلوعه وحناياه، وتجري بنشاطٍ دائب نحو أرض الروح مُشكّلةً طين الإبداع وصلصال المحبة، وبرغم كل هذا إلا أن الدكتور المقالح في الواقع شديد الهدوء، أنيق الروح، هامس الصوت، زرين الإيقاع.
أشرف على جيل كامل من الأكاديميين اليمنيين، كما تبنّى الأجيال الشعرية اليمنية، ورَعَى أصواتها الإبداعية الشعرية، والقصصية، والروائية بمختلف مشاربها وتنوعها، وما كان ليتم له ذلك لولا أنه استطاع وبحنكة أن يحقق المعادلة الصعبة في تكوين علاقة إيجابية بين المثقف والسياسي، مكنته من رعاية وتشجيع المشهد الثقافي اليمني، وبما لا يجعل منه مثقفاً مؤدلجاً تابعاً للسلطة.
إذا كانت لصنعاء سبعة أبواب، فإن لليمن بابين كبيرين هما عبد العزيز المقالح وعبدالله البردوني والذيَن من خلالهما عَبَرَ اليمنيون والعالم إلى دلالة اليمن الثقافية والتاريخية والفكرية.
يقول ناقد سوري: عندما علم أبي أني أشدّ رحالي إلى اليمن قال لي: إذا وصلت اليمن ووجدت البردوني والمقالح، فارجع فإنك قد وجدت اليمن كله. شاعر عربي آخر يقول: كنت أتمنى أن أزور اليمن، لأتعرّف على مدنها وتاريخها، لكني عندما قرأت دواوين المقالح عرفت اليمن وتجولت في مدنها وأسواقها.
في سنتي الجامعية الثانية 98م، قمت بزيارة الدكتور وتشرفت بلقائه في مكتبه بجامعة صنعاء، وفي هذا المكتب يقبع الشعر كله، ويتجلّى في التماعة عينيه، في صوته الدافئ والرصين، وفي تلويحة أصابعه التي تعزف أوتار الأبجدية وتسكب القصائد.
أمامك المقالح العظيم إذاً ، ستشعر به يمشي على أصابع روحه يتحسّسُ الضوء والورد والشعر، وكأنك في معبدٍ سبأيٍ تشتمّ فيه بخور الفكر والأدب، تتصاعد من ثنايا الكتب والأدراج، وبرغم تواضعه الجمّ وتقاسيم وجهه الحانية، إلا أن للدكتور المقالح هالةً عاليةً تغمر من يتحدث إليه فتجعلك ممغنطاً وواقعاً في مجالٍ ضوئيٍ أكبر من قدرتك البصرية على تهجّي اللون والظلال.
عرفته بنفسي وكنت قد نشرت سابقاً عدداً من قصائدي في صفحته بصحيفة 26 سبتمبر، استقبلني وكأني أحد الأسماء المهمة في الساحة، وأنا الذي كنتُ وما زلتُ ألثغ وأتأتئ وأحبو بالقرب من بوابة الشعر …ناولته مجموعة من قصائدي،
يا دكتور: إذا كانت محاولاتي هذه ترقى إلى مستوى الشعر فانا أطمح منكم بمقدمة لها، وفي حقيقة الأمر كنت أطمح فقط إلى لقاء الدكتور والتعرف عليه وما حكاية القصائد والمقدمة إلا مدخلاً لائقاً لذلك ليس إلا، أبدى الدكتور إعجابه وتشجيعه بما أكتب، ثم ودعته وانصرفت من مكتبه والأرض لا تتسع لخطواتي، كنت أمشي في طرقات السماء.. وأفتتح فضاءات للبهجة والبهاء.
بعدها كنت أحضر مقيله الكبير في مركز الدراسات والذي كان يعجّ بعشرات الأدباء والكتاب اليمنيين والعرب والأجانب، إلا إنني للأسف لم أعد لزيارته بصورة ثنائية ومتعمدة إلا في العام 2003م، حيث زرته للسلام عليه في مكتبه بمركز الدراسات والبحوث والذي بادرني بالسؤال فيما إذا كنت قد شاركت في جوائز رئيس الجمهورية، فأجبته: بنعم، فما كان منه إلا أن نادى على مدير مكتبه محمد الشرفي وطلب منه أن يعطيني محضر جائزة رئيس الجمهورية حيث كنت أحد الفائزيَن بالجائزة التشجيعية في مجال الشعر وقيمتها مائة ألف ريال، بينما الجائزة الرئيسية كانت من نصيب الشاعرين العزيزين جميل مفرح وأحمد الشلفي -في حينه كان لا يتم الإعلان إلا عن الفائزيَن الرئيسييَن فقط- وفيما يبدو أن الدكتور ورفاقه في الجائزة كانوا يضغطون لتشمل الجوائز كل الفائزين، حيث طلب الدكتور من مدير مكتبه تحرير رسالة إلى وزير الشباب حينها عبد الرحمن الأكوع يخاطبه فيها بتسليمي مبلغ الجائزة مائة ألف ريال من صندوق رعاية النشء بوزارة الشباب.
وفي العام 2005م سلمت مجموعتي الشعرية الأولى إلى لجنة الكتاب بوزارة الثقافة في عهد الوزير المثقف خالد الرويشان، حيث أقرّت هذه اللجنة طباعة ديواني الشعري ودواوين شعراء شباب آخرين في إطار صنعاء عاصمة للثقافة العربية، وبعد أن استلمتُ مجموعة من نسخ ديواني من وزارة الثقافة، ذهبت إلى الدكتور عبد العزيز المقالح وأهديته نسخة من ديواني الأول «خِلْسَةً نغادرُ أصدافَنا».
ـ ولأن الدكتور يتمتع بذاكرة قوية جداً تلتقط أدق التفاصيل ـ فقد استذكر قائلا: أنت زرتني في العام 98م. قلت له: نعم، قال: ولكنك لم تعد مرةً أخرى، قلت له انشغلت يا دكتور بالدراسة، حيث فهمت من كلامه أنه كتب مقدمة للديوان ولكني لم ارجع إليه وأتابعه، ليكتب بعدها بأسبوع دراسةً واحتفاءً كبيراً ، في صحيفة 26 سبتمبر في عددها رقم 1203 والصادر يوم الخميس الموافق 2005/6/9م، تحت عنوان «المعلمي والعرشي.. شاعران شابان في طريقهما إلى مدن الشعر» رحّب فيه بمجموعتي الشعرية، وبمجموعة الصديق والشاعر العزيز فؤاد العرشي، لقد قلّدنا الدكتور عبد العزيز المقالح وساميَن غالييَن أنا وزميلي فؤاد، بل لقد حمّلنا وحمّل الجيل كله مسؤوليةً كبيرةً تجاه الشعر.
الرحمة والخلود للرجل/البحر الدكتور عبد العزيز المقالح والذي بحق كان أديباً موسوعياً استثنائياً عابراً للعصور والأزمنة، وأكاديميةً ثقافيةً يعتمل فيها كل هذا الزخم والإبداع…
وهنا لا أجدُ أصدق من هذه المقطوعة الصغيرة التي كتبتها وأنا في الثانوية ـ أيام الدهشة الأولى والإنبهار البكرـ ولا أعرف الدكتور حينها إلا من خلال ما أقرأه في منهجنا الدراسي وفي كتبه هنا وهناك:
سيّدُ الفاتحين،
إمامُ الذين يصلّونَ
في معبدِ الشّعرِ
صلاةَ التهجّدْ
يداهُ تُشعّانِ جسراً
من رحيقِ النّدى
على ضفافِ المدى
ما تبقّى لنا
من المجد،
والسدّ،
وتاريخ تُبّعْ.