تتابع الأنباء المقلقة بوتيرة مكثفة وملفتة عن أحوال مفزعة وأهوال مرعبة لفظاعات مروعة تحدث هنا في العاصمة صنعاء وتحديدا داخل السجون. أنباء مخيفة تحقنك بجرعات مستفزة، تجعل أعصابك منفلتة، وتحرض روحك المنهكة على الصراخ والانتفاضة، فتقرر الوقوف على الحقيقة مهما كلف الأمر من مشقة، وهذا ما حدث معي، فإذا بها حقيقة مفاجئة، ومخالفة للمتوقع، محبطة ومبهجة في آن معا !!.
حقيقة واقع السجون (الإصلاحيات) في نطاق سلطة المجلس السياسي، كما بدت لدى زيارتي يوم الأحد برفقة إعلاميين وحقوقيين وناشطين للإصلاحية المركزية (السجن المركزي) بالعاصمة صنعاء؛ كانت محبطة لمن يبثون تلك الأنباء ويتحدثون عن تلك “الأحوال المفزعة”، ومبهجة لمن سعوا إلى تقصي الحقيقة من داخل الإصلاحية.
شخصيا سبق لي أن دخلت السجن المركزي زائرا لزميل منتصف التسعينيات. لكنها المرة الأولى التي أطوفه بكامل مرافقه. توقعت مشاهدة عنابر قذرة مكدسة بسجناء شعث غبر ثيابهم رثة ولحاهم مهلهة وصدورهم عارية عليها آثار مروعة جراء “التعذيب الوحشي” وفقا لتلك الأنباء الكثيفة والصورة التي تُمعن في رسمها وتعميمها.
لكن المفاجأة لي وجميع المشاركين في هذه الزيارة المباغتة إثر مطالبة تجمع الحقوقيين والإعلاميين والناشطين أمام بوابة السجن؛ أن واقع الحال بالداخل كان بخلاف تلك الصورة النمطية التي ارتسمت في الأذهان وانطبعت في الوجدان، فالعنابر وملابس النزلاء كانت نظيفة، وتكاد لا تميز بينهم والزائرين إلا ببطاقة زائر!.
الأكثر إدهاشا لي – على الأقل – هو أن السجن المركزي (الإصلاحية المركزية) الذي يظهر من الخارج في العاصمة صنعاء وغيرها قلعة مخيفة؛ بدا من الداخل مدينة مكتملة المظاهر.. شوارع، مسجد، مدرسة (كلية وجامعة)، ملاعب، حدائق، مخبز، مستشفى، معامل، مشاغل، ورش، مزارع، ومنازل ممثلة في عنابر نوم النزلاء !!.
قد يتفاجأ كثيرون وربما لا يصدقون أن نزلاء السجن توفرت لجميعهم فرص عمل يكسبون منها دخولا فوق المتوسطة، يعيلون بها أسرهم. نعم فقد تعلم النزلاء حرفا متنوعة واكتسبوا مهنا تشمل النجارة والحدادة والخياطة وإنتاج الجلديات والطباخة والزراعة وتربية الماشية، بل إن أحد الأطباء المحكومين بقضية إفلاس مستشفاه صار طبيبا في مستوصف السجن!.
بدا لنا أن إدارة السجن وقيادة مصلحة التأهيل والإصلاح لا تفوت أي فرصة سانحة في هذا. حتى أن ملابس السجناء عند انتقالاتهم إلى المحكمة لحضور جلسات الاستئناف والطعن؛ أرست المصلحة مناقصة حياكتها ( 1000 زي) على السجناء العاملين في معمل الخياطة داخل الإصلاحية بقيمة 2.5 مليون (بواقع 2500 ريال للزي) حسب رئيس المصلحة!.
كذلك أسِرّة السجناء، كانت مصنوعة من حديد خفيف سهل الكسر، فتعاقدت المصلحة مع النزلاء العاملين في ورشة الحدادة على إنتاج 1000 سرير من حديد متين الخامة وفرته لهم. وبالمثل ورشة الألمنيوم بعد توفير المصلحة آلة ثني وتشكيل حديثة وآلة نحت النقوش إلكترونيا لورشة النجارة؛ ازدهر إنتاجهما تصميما وتنفيذا وجودة وبيعا بأسعار مغرية!.
الحال نفسها في مخبز ومطعم الإصلاحية النزلاء يعملون فيهما بعقود عمل مقابل رواتب شهرية تحمي أسرهم من التشرد والضياع أو الوقوع فريسة للذئاب البشرية ومنتهزي الفقر والعوز. حتى الحليب والألبان وغاية توفيرها ذاتيا، قادت إلى استحداث مهنة تربية المواشي (100 رأس) ومهنة زراعة الذرة والأعلاف أيضا!.
على أن الأبهج، هو أن مدرسة الإصلاحية تحوي معامل كيمياء وفيزياء وحاسوب!، وتضم صفوفها هذا العام 148 طالبا بمختلف مراحل التعليم العام (محو أمية) و120 طالبا في الصف الثالث ثانوي، يٌضاف إليهم 20 طالبا جامعيا و 3 طلاب يحضرون الماجستير ويسعون لنيل الدكتوراه اقتداء بزميل سابق لهم، نالها قبل إنهاء محكوميته.
الزيارة التي استدعت حضور رئيس مصلحة التأهيل والإصلاح اللواء عبد الحميد المؤيد، وسمّاها إعلام وزارة الداخلية “زيارة تفقدية نفذها رئيس المصلحة”؛ شملت أيضا سجن النساء، وكان واقعه أيضا بخلاف ما تتداوله وسائل إعلام ومواقع إخبارية تابعة لتحالف العدوان والموالين له. وجدناه منظما ونظيفا، تحرسه شرطة نسائية، ويتواجد فيه كبينة اتصالات!.
لاحظنا، حين دخلنا سجن النساء بعد إشعار النزيلات بزيارتنا؛ إنشاء روضة تحوي ألعابا لاستقبال أطفال النزيلات، ومشغل خياطة، ومعمل إنتاج للبخور، بدعم صندوق الأمم المتحدة للتنمية. وتوقعت أن تكون الزيارة فرصة لشكوى النزيلات، لكنهن نفين تعرضهن لمضايقات أو “حالات انتحار”. وأكدن “استعادة كرامة فقدناها خارج السجن”.
الملاحظات والانطباعات كثيرة. دعتنا لتأمل أن تكون الحال نفسها بجميع المرافق التابعة لمصلحة التأهيل والإصلاح. من جانبه أكد رئيس المصلحة هذا، وحين سألته عن مصير السجينات اللاتي أنهين محكومياتهن وتعذر خروجهن لتبرؤ أهاليهن منهن، زف لنا بشرى قرب افتتاح دار إيواء لهن، وتواصل تزويج من حالفهن النصيب عبر المحكمة.