رغم كثرة الثورات والانتفاضات التي قام بها العراقيون ضد نظام صدام والبعث، لكنها كانت تقمع بالحديد والنار والتقتيل والتشريد وبكل قسوة، وبدعم دولي وإقليمي وحتى عربي للنظام.. لتتم الإطاحة بالنظام في النهاية على يد أمريكا وبعض حلفائها، وتحتل البلد وتحاول أن تنشئ نظاما سياسيا وعملية ديمقراطية مليئة بالفخاخ..
هذا الوضع ” كواقع حال” جعل التجربة الديمقراطية العراقية تختلف كثيرا عن غيرها من أنظمة الحكم العربية، التي شهدت تحولات ما بعد الربيع العربي.. ونتيجة لما شهدته التجربة التونسية مثلا من تحولات دراماتيكية أخيرة، لربما تفقدها صبغة الديمقراطية إلا بصورة شكلية، أو الحرب الأهلية الليبية والصراع على السلطة، وعودة العسكر لحكم مصر.. تكاد تصبح التجربة العراقية، هي الأكثر حيوية وحراكا وتفاعلا، رغم كل المشاكل والتدخلات والتأثيرات الدولية والإقليمية، والخبرة التي لا يزال بعض ساسة العراق يفتقدونها، ناهيك عن النزق والانفعال والشخصنة في المواقف..
آخر ما توصلت إليه الأحزاب العراقية من طريقة للصراع فيما بينها، كانت عملية إنزال مؤيديها إلى الشارع، في بداية سعي لفرض أمر واقع، وهي خطوة لجأ إليها التيار الصدري أولا، كمحاولة لمعالجة خطأه الاستراتيجي بإجبار نوابه على الاستقالة، رغم أنهم كانوا الكتلة الأكثر عددا، وهي أيضا بطريقة ما سعي واضح نحو امتلاك القرار الشيعي، وربما الوطني من خلال تحالفاته..
منافسوه السياسيون في الإطار التنسيقي كانوا وكما يبدو أكثر دهاء منه, فهم تعاملوا معه في بداية الأمر بهدوء واضح, وسعوا لامتصاص تصعيد الصدر, بل وتناغمت تصريحاتهم كلهم في دعوته للحوار, مما سحب بساط التأييد من الصدر شيئا فشيئا.. ثم بعد ذلك صعدوا من خلال استعراض قدرتهم على التحشيد البشري قبالة أتباع الصدر, وليظهروا قدرتهم على جمع جمهور مؤيد لهم أكبر من جمهوره.. مع شعارات تدعم القضاء وتنتقد الحكومة, وهي رسالة واضحة للسيد الكاظمي, الذي كان موقفه المتماشي مع موقف التيار الصدري واضحا..
اللجوء إلى الجماهير والشارع لعبة خطيرة, فمهما تكن الجماهير متحكم بها, ورغم تأكيد الطرفين عدم وجود رغبة لديهما بإراقة الدماء, لكن حدثا صغيرا أو “طرفا ثالثا” يمكنه أن يشعل فتنة تخرج عن سيطرة كل القادة وحساباتهم, وتدخل العراق في أتون وضع متفجر لا أحد يمكنه إدارته أو معرفة نتائجه, والخاسر الأول والأكبر فيه سيكون المجتمع وخصوصا الأغلبية الشيعية فيه, لأن الطرفين ينتميان له..
سياسيا لم يعد لدى الصدر أي أوراق يمكنه اللعب بها, أمام خصومه المتمترسين خلف قانون ودستور, يمنحهم الأفضلية والشرعية بشكل واضح, ناهيك عن شعارات ومقترحات ينادون بها, تدعو للمراجعة والحوار والمواقف العقلانية, مما أكسبهم تأييدا قانونيا وشعبيا محليا ودوليا, وخصوصا أنهم تفوقوا على الصدر بطريقتهم لإدارة الأزمة, بهدوء وبعيدا عن التشنج والشخصنة والشعارات الانفعالية.. فماذا بعد تلك التظاهرات؟
كثيرون يرون أن لا حل إلا بواحد من خيارين, إما الحوار بين الطرفين للوصول لخيارات مقبولة, أو صدام مسلح سيدفع البلد لوضع خطير لا تعرف نتائجه, وهناك أطراف محلية وإقليمية تدفع بهذا الاتجاه بقوة.. الحل الأول قد يقبل رغم أن من يدعمه يعتقد أنه التيار الصدري, وبعد زمن ليس ببعيد سيتنصل منه ويتخذ موقف المعارض, بعد أنه ينتفع من مخرجاته, وبنفس الوقت سيكون الإطار التنسيقي قد شكل حكومة لكنها ستكون عرجاء لن تحقق شيئا, لكنه في الأقل سيغير قانون الانتخابات ومفوضيتها, ويكون كلا الطرفين قد حقق نجاحا سياسيا, لكن الشعب العراقي لن يناله شيء من خدمات أو تحسين واقع حاله, وسيكون هو الخاسر بجميع الأحوال.
من الواضح أن الصراع يرتكز على السلطة.. بين من يريد إدارتها أو إزالتها بطريقته, وبين من يريد أن يحافظ على النظام مع السعي لتعديل ما يمكن تعديله, والشعب ليس راضيا عن كلا الطرفين.. فهو يرى وفرة مالية من أسعار نفط مرتفعة, وهو يعيش ظروفا حياتية صعبة وخانقة جدا..
الحل لن يكون سهلا, ولن يكون مرضيا لأي طرف سياسي كان أو شعبي, لكنه في مختلف الظروف سيكون هناك مخرج يحفظ ماء وجه المنسحبين بطريقة ماء, ويتيح لهم الاحتفاظ بمكاسبهم ومناصبهم, وعلى الشعب أن ينتظر من نفسه لا من أحد آخر، أن يفهم ما جرى ويحسن الاختيار في المرة القادمة, إن كانت هناك مرة قادمة!
كاتب صحفي فلسطيني