حينما نذكر الصحة النفسية فنحن نعني بها ليس الخلو من الأمراض النفسية أو العصبية أو العضوية المؤثرة على الفرد، بل نقصد ذلك المفهوم الأشمل من حالة السلامة والكفاية التي تتمثل في التوافق الاجتماعي والتوافق الذاتي والشعور بالرضا والسعادة والحيوية والاستقرار بالإضافة إلى الإنتاج الملائم في حدود إمكانية الإنسان وطاقاته وليس مجرد الخلو من الأمراض.
مما لا شك فيه أن الصحة النفسية مفهوم واسع يتسع ليشمل كل الأبعاد الإنسانية سواء الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية للفرد وللمجتمع ككل، وتأتي أهمية الصحة النفسية لشموليتها لكل هذه الابعاد من ناحية، ولأن تعزيزها وتمثيلها الصحيح في الفرد ينعكس بصورة مباشرة على المجتمع من خلال علاقات الأفراد ببعضهم ومن خلال تأثيراتهم الإيجابية أو السلبية وإنجازهم الاقتصادي أو الاجتماعي، والعكس صحيح فإن اعتلال الصحة النفسية لأحد الأفراد يجعله مصدراً للضرر للمحيطين به سواء من تربطه بهم علاقات معينة أو الآخرين من حوله.
فالصحة النفسية هي خلاصة الصحة وخلاصة الاعتلال أي نتاج لمجموع الصحة الجسدية والروحية والاجتماعية ، فمثلا هنالك من الناس من يكون صحيح البدن ، وإنجازه عال في إطار عمله، لكنه يتسم بخصلة مؤثرة على المجتمع من حوله كالكذب مثلا أو الغيرة المفرطة أو الشك وعدم الثقة في الآخرين ، فلا نستطيع أن نشير إليه بأن صحته النفسية عالية حتى وإن وجدت مؤشرات أخرى، بل إنه يمتلك عدم توافق مع المجتمع ينشأ من قرارة نفسه ويؤدي إلى إحساسه الدائم بعدم الاستقرار، فهو معتل كفرد ويؤثر سلبا على المجتمع من حوله فيفسد مصالح ويفكك علاقات، فلا ينحسر التأثير السلبي لمرضه النفسي عليه فقط بل يؤثر على المجتمع من حوله ،وقد يكون في بعض الحالات مصدرا للعدوى بهذه الآفات النفسية للآخرين من حوله .
أضف إلى ذلك أن أهمية مفهوم الصحة النفسية ترجع إلى تأثيراته الاقتصادية المرتبطة بإنجاز الفرد في إطار عمله، هذا الإنجاز الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالصحة النفسية للفرد، فحين يكون صحيح النفس والبدن يظهر ذلك جليا في نشاطاته وكفاءته وإنجازه بالطاقة المطلوبة، أما حين يكون معتل النفس أو البدن، واعتلال النفس هنا اشد وأنكى، فإن إنجازه حتما سيكون ضعيفا ووقته مملا ويبذل طاقة وجهداً عالياً لينجز نشاطات من الدرجة العادية، فلا يتمكن من إنجاز ما يستحق أن يذكر أو ما هو متوقع منه في ظل حالة من الوهن النفسي .
أما من يمتلك تلك الطاقة الإيجابية وتظهر طاقته بحيوية جسمه وإنجازه بعمله وتقديره لذاته وللآخرين، فتتوج بعلاقاته الاجتماعية الصحيحة وبإدارته للمواقف والمشاكل بمهارة عالية ، فتظهر مؤشرات صحته النفسية كإجمال لما يتمتع به من مواصفات عضوية واجتماعية وسلوكية، وبالطبع لا تتضح هذه المؤشرات إلا باتباع أنشطة يومية متمثلة بعادات غذائية وسلوكيات إيجابية، كالقيام من النوم مبكرا والدوام في العمل بشكل مستمر والحماس في الإنجاز والاهتمام بالغذاء والملبس والمسكن في إطار إمكانياته المادية، وإدارة الموارد المالية بطريقة متوازنة بحسب الإيرادات والنفقات، وبقبوله للآخرين ومشاركته لهم وبقبول النجاح للفريق ككل.
بالإضافة إلى الجانب الروحي بأدائه للفروض الواجبة كالصلاة، واضف إلى ذلك العلاقات التي يمتلكها وكيفية أدائه تجاهها، كعلاقته مع أفراد بيته وعلاقته بزملائه في العمل أو في الدراسة وكم لديه صديق مقرب وكم لديه لقاءات اجتماعية، فهذه كلها تؤكد صحته النفسية أو تشير إلى وجود مشكلة في احد جوانبها .
لذا فإن الصحة النفسية تعني تمثيل كل الابعاد في الشخصية الواحدة والقصور في أحد الابعاد يظهر بوضوح في الناتج النهائي للشخصية، ويتضح جليا في المجتمع .
من هنا نستطيع الجزم بأن الصحة النفسية للإنسان هي حاصل تنميته اقتصاديا واجتماعيا وروحيا، وهي أساس تنمية المجتمع من كل النواحي وعلى كافة الأصعدة، وحينما تُرص لبن صحيحة من الأفراد فسنحصل على ناتج نهائي من البناء الصحيح لمجتمع قوي وصحيح، مجتمع متماسك وقادر على تحقيق كل التوقعات المأمولة منه .
*مدير برنامج الصحة النفسية في الصندوق الاجتماعي للتنمية