منابر إسلامية:منبر جامع الاسطى.. جمال التصميم وروعة الإبداع

الثورة/رؤية وتصوير/ عادل عبدالاله العصار
يعتبر منبر مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أول منبر في الإسلام، وبحسب بعض المؤرخين فقد صنعه رجل يُدعي كلاب كان في خدمة العباس بن عبدالمطلب، في السنة السابعة للهجرة ويتكون المنبر المصنوع من خشب الأثل من ثلاث درجات، الأولى والثانية منها لصعود رسول الله والثالثة لجلوسه، وارتفاعه ذراعان وثلاثة أصابع، وعرضه ذراع واحد.
وفي الوقت الذي يشير تاريخ المنابر إلى أنها بدأت بداية بسيطة جداً ومتواضعة جدا، إلا أنها لم تلبث أن انطلقت سريعاً -مع عصر المساجد الكبرى في المدن الرئيسية- وقد تفنن المسلمون في صنع المنابر وأبدعوا، حتى أصبحت إحدى المجالات التي أظهرت تذوقهم الجمالي وقدرتهم على الإبداع بل وغدت معلماً بارزاً من معالم المسجد ومحط إعجاب الدارسين لعناصره، المتتبعين لفن العمارة الإسلامية.
لوحة ثلاثية الأبعاد
يعد منبر جامع الاسطى في حي الجراف بالعاصمة صنعاء واحداً من أروع المنابر في المدينة إن لم يكن أكثرها جمالاً وروعةً على الإطلاق لما ينفرد به من مميزات وإبداعات مثلت بحد ذاتها خلاصة التصميم الهندسي للمنبر الإسلامي.. وهذه المميزات نوجزها في التالي:
1 – المنبر الذي ترونه في الصورة والذي قام بتصميمه وتنفيذ العمل فيه المرحوم الحاج أحسن قاسم الاسطى رحمة الله عليه لم تبدأ عملية وضع تصاميمه الهندسية بعد استكمال بناء المسجد كما هو حال المنابر في بقية المساجد بل بدأت مبكرا منذ وضع التصميم الهندسي للمسجد وتحديدا تصميم بناء الواجهة الشمالية للمسجد «القبلية› حيث تم البناء على أساس تكوين نافذة مغلقة «مغفرة» تتوسط جدار القبلة، عمقها 80 سم تقريبا وبطول لا يقل عن ستة أمتار وبارتفاع مساو تقريبا لارتفاع بناء المسجد وبأسلوب ومقاييس تجعله متناسقا مع طول جدار المسجد البالغ 25 مترا.
2 – تم تصميم المنبر ليكون أشبه بمكتبة مثبتة داخل الفراغ المخصص في الجدار دون بروز سنتيمتر واحد من المنبر في بيت الصلاة وبهذا التصميم تحول المنبر إلى جزء من الجدار وكأنه ليس أكثر من لون وطلاء أو لوحة تشكيلية ثلاثية الأبعاد تم رسمها في واجهة القبلة لتمنح شكلا وصورة جمالية للديكور الداخلي للمسجد.
3 – روعيَّ عند تصميم المنبر ربطه جماليا بكامل مساحة جدار المسجد فتم تصميم نوافذ مغلقة «مغفرات» على يمين المحراب تساوي حجم المنبر مخصصة كمكتبة لحفظ المصاحف وقد تم تنفيذ الأعمال الخشبية فيها بأسلوب غاية في الدقة جعلها تبدو امتداداً للمنبر في جدار المسجد، وتتكون المكتبة من ثمان نوافذ –مغفرات- مغلقة بأبواب خشبية على شكل طابقين يفصلهما أربع مغفرات بلا أبواب تتساوى في ارتفاعها مع ارتفاع الدرابزين في المنبر وتبدو وكأنها امتداد له.
تفاصيل المنبر
بوابة خاصة لدخول الخطيب تقع في الجهة اليمنى بإرتفاع 170 سم وعرض لا يقل عن 70 سم وتفتح للداخل وتشكل بحد ذاتها لوحة فنية غاية في الجمال لما تحويه من نقوش وزخارف دقيقة تتضمن آيات قرآنية منحوتة على الخشب، تقع كل آية داخل إطار، ويختلف كل إطار عن الآخر من حيث المساحة والزخارف المنحوتة فيها بشكل بديع، وقد اختيرت الآيات المنحوتة بما يتفق مع دور ووظيفة المنبر، حيث نقشت في الإطار الذي يعلو الباب الآية: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أما الإطار الثاني، فنقشت فيه الآيتين: { وَلَا تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ.. وَمَا یُلَقَّىٰهَا إِلَّا ٱلَّذِینَ صَبَرُوا وَمَا یُلَقَّىٰهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِیم}.
ويتصل الباب بـ درابزين مزخرف بالنحت والتخريم، يتوسط المنبر بشكل مائل يربط بين الباب وتاج المنبر المتمثل بالبلكونة المخصصة لوقوف الخطيب، وهو يثمل لوحة فنية في غاية الدقة والجمال وتحاكي في تفاصيلها روعة فن الزخرفة الإسلامية، ويعلو الدرابزين فضاء مفتوح موازٍ مساوٍ له في الطول والارتفاع ومسقوف بمثلت خشبي قائم الزاوية تلاصق قاعدته الخزانة التي تعلو الباب ويقع رأسه عند قاعدة القبة التي تعلو منصة المنبر، ويتكون من حشوات «طبلات» خشبية مرئية تحوي الكثير من الأشكال الهندسية المنحوتة والبارزة.
تماثل وإبداع
ـ خزانة تعلو بوابة المنبر وهي لا تقل عن الباب جمالا وروعة من حيث الزخارف المنحوتة والتي تضمنت ثلاث آيات من سورة فصلت تم توزيعهما على إطارين منفصلين، وتماثلها خزانة تعلو باب المنبر تقع تحت البلكونة المخصصة لوقوف الخطيب يمتد فضاءها الداخلي إلى تحت الدرابزين، لكنها تختلف عن الخزانة الأولى من حيث تفاصيل الزخارف والمساحة والتي تشير إلى أن تصميمها تم على أساس أن تكون متناسقة مع منصة الخطيب كامتداد لها، وقد احتوت على زخارف لا تقل روعة وجمالا عن زخارف الباب، كما تضمنت زخارفها لوحة بديعة احتوت على نقش كتابي يشير إلى اسم باني المسجد وتاريخ البناء المؤرخ بسنة 1405».
منصة الخطيب
تعد منصة المنبر التي يقف عليها الخطيب البروز الوحيد في فضاء المسجد، وهذا البروز يجعل الخطيب مرئيا من كل جنبات المسجد ويمكن المصلين من رؤية الخطيب من مختلف الزوايا، وقد تم تصميم المنبر بشكل رائع احتوى الكثير من التفاصيل التي مثلت بحد ذاتها خلاصة فنون أعمال النجارة والنحت على الخشب والتي اشتملت على زخارف تتضمن آيات قرآنية وأبياتاً شعرية تم نقشها بأسلوب غاية في الروعة والجمال وتتناسق مع تفاصيل الدرابزين والخزانة التي يقف عليها وتجعله امتداداً لهما، وقد تم اختيار أماكن وضع نقوش الآيات القرآنية والأبيات الشعرية بدقة عالية ترتقي بقدسية الله سبحانه والقرآن الكريم، ويمكننا ملاحظة ذلك في النقش الذي يقع أسفل المنصة عند أقدام الخطيب ويحمل أبياتاً شعرية تقول:
سبحان من لو سجدنا بالعيون لهُ … على شبا الشوك والمحمى من الإبر
لم نبلغ العشر من معشار نعمتهِ … ولا العشير ولا عشرا من العشر.
وتعلو منصة «المنبر» قبة يعلوها هلال وتحاكي القباب الإسلامية، وتقف على أربعة أعمدة خشبية منحوتة بطريقة رائعة.
جماليات
عند صعود الخطيب إلى المنبر يمر من أمام المصلين في الصف الأول ويظهر كواحد من المصلين، لكنه بعد دخوله المنبر وإغلاق الباب عليه يختفي وكأنه غادر المسجد «بيت الصلاة» ثم يظهر ليبدو وهو يصعد نحو المنصة ببطء وكأنه دخل جوف المنبر وأصبح جزءاً متحركاً امتزج بتفاصيل اللوحة المثبتة في جدار المسجد.
المنبر من تصميم وتنفيذ باني المسجد الحاج أحسن قاسم الاسطى وأشترك في عملية التنفيذ عدد من النجارين المحترفين وفي مقدمتهم عبدالرزاق حسن الاسطى، وقد استخدمت في صناعة المنبر أجود أنواع الأخشاب والمتمثلة في خشب الطنب اليمني والذي كبار نجاري صنعاء في كتاب (فن الزخرفة الخشبية في صنعاء) الصادر عن المركز الفرنسي للدراسات، بأنه الأفضل على الإطلاق واعتبروه سيد الخشب لما يتمتع به من مميزات تجعله يدوم لمئات السنين والاحتفاظ بقوته وجماله ولا تصيبه الآفات التي تصيب الأخشاب ولا يتضرر بالرطوبة والماء والشمس وعوامل التعرية.

قد يعجبك ايضا