يقرر بوتين بدء عملية عسكرية هجومية ضد أوكرانيا فتتوالى المواقف المنددة بتلك الخطوة قبل أن تتحول إلى تضامن شبه عالمي مع أوكرانيا ضد الهجوم الروسي.
بالتأكيد أن الجميع تابع حالة استثنائية اتحد فيها الغرب لتحقيق هدف واحد هو دعم أوكرانيا وما يتطلبه ذلك الدعم بحسب وجهة نظر العواصم الغربية من اتخاذ مواقف متقدمة باتجاه فرض عقوبات على روسيا ومحاولة عزلها عن العالم واستهدافها إعلامياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً لتبلغ التحركات الغربية ذروتها بالحديث عن فتح باب التطوع لمن أراد أن ينتقل إلى أوكرانيا لقتال جيش بوتين.
ينطلق الغرب من تحركهم المضاد لروسيا ليس لأن الأوكرانيين أبناء عمومتهم أو أن أوكرانيا حليف قوي ضمن عائلتهم العنصرية بل لأن بقاء أوكرانيا خارج النفوذ الروسي ضمن الصراع الجيوسياسي مع موسكو أمراً مهماً للغرب الذي أصبحت له مصالح متعددة في هذا البلد المهم وبالتالي فإن هذا التضامن الواسع مع أوكرانيا لا ينطلق من اعتبارات إنسانية أو مصير مشترك أو أهداف وسياسة وتوجه واحد بل لأن أوكرانيا على أبواب الدب الروسي ويعمل عليها الغرب منذ انهيار الاتحاد السوفياتي لتصبح دولة معادية لروسيا، وهنا يتمثل دورها المرسوم لها في تشكيل جبهة متقدمة تؤدي في نهاية المطاف لتحقيق هدف إضعاف روسيا، ناهيك عن أسباب أخرى تتعلق بثروة أوكرانيا ومواردها الطبيعية.
تُرى ماذا لو فعل العرب مع فلسطين ما يفعله الغرب اليوم مع أوكرانيا؟ وماذا لو تحرك العالم الإسلامي نحو المقاطعة الشاملة للعدو الإسرائيلي وأعلن تضامنه مع الشعب الفلسطيني من خلال تقديم الدعم المعنوي والمادي هل كان المشهد سيتغير؟
بالتأكيد سيتغير فما يجمع العرب والمسلمين عامة بفلسطين أكبر بكثير مما دفع الغرب للتضامن مع أوكرانيا فمن التاريخ الى الجغرافيا والى المقدسات ناهيك عن التهديد الوجودي الذي يمثله الكيان الإسرائيلي على مختلف الشعوب العربية والإسلامية وهنا بات من الضرورة أن نتعامل مع فلسطين كجبهة متقدمة يتوجب علينا جميعاً الانخراط في دعمها وتعزيزها بمختلف السبل وبشتى الوسائل ولتكن التجربة الغربية مع أوكرانيا بداية حقيقية لقراءة واقعنا، فما نحتاج اليه ليس بالضرورة التحرك العسكري أو استخدام القوة بل قد تؤدي خطوات التضامن الفعلي مع فلسطين والمقاطعة الفعلية للكيان الإسرائيلي الى نتائج كبيرة جداً على صعيد المواجهة، فهذا الكيان يحاول التمدد والاندماج في محيطه ولا يمكن أن يحصل على ضمانات البقاء دون أن يصبح ضمن بيئة قابلة لوجوده وهو ما يعمل من أجله منذ عدة عقود.
نعم لم يقرر الغرب شن الحرب العسكرية ضد روسيا غير أنه اتجه الى تفعيل أسلحة أخرى ويتجه الى تفعيل المزيد منها في قادم الأيام ومع ذلك لم يتجه العالم الإسلامي نحو استخدام بعض أدواته في سبيل تشكيل موقف موحد ضد الكيان الذي يحتل أرضاً لا زلنا نؤمن أنها فلسطينية من النهر إلى البحر ولا زلنا نؤمن أن صراعنا الحتمي هو مع هذا الكيان ومن يقف خلفه.
ورغم ما يجري اليوم من تطورات ملفتة إلا أننا نجد أن الكيان الإسرائيلي يواصل تقدمه على طريق التطبيع مع الأنظمة العربية وما كان محرماً قبل عدة عقود أصبح اليوم متاحاً، فمن كان يتوقع أن نشهد هذه الحالة من التطبيع الثقافي والاقتصادي والسياسي وصولاً إلى حالة التحالف العسكري والأمني، وبالتأكيد أشير هنا إلى الغزو الإسرائيلي لدول الخليج لا سيما الإمارات والبحرين وقريباً السعودية اذا ما وضعنا في الاعتبار حديث ابن سلمان عن الكيان كحليف محتمل في المستقبل.
وفي الأخير، لطالما تحدثنا عن سلاح المقاطعة غير أن هذا السلاح رغم أهميته لم يخضع للتجربة العملية في كل البلدان الإسلامية وفي نفس الوقت كون العدو كان يعمل على محاربة من يرفع هذا الشعار ويضغط باتجاه إلغاء إجراءات المقاطعة من الدرجة الثالثة حتى الأولى وبما يسمح للكيان اغراق أسواقنا بمنتجاته ولو اضطر إلى استخدام اسم بلد آخر فوق كل منتج حتى لا نعرف أن هذا المنتج صنعه العدو.
نلاحظ أمراً آخر يتعلق بالمقاطعة الثقافية، فما اتخذه الغرب خلال الأيام الماضية لم يتوقعه أحد لا سيما أولئك المنبهرين بالثقافة الغربية الذين تشكلت لديهم صورة مثالية عن الغرب كنموذج في العدالة والإنسانية وحقوق الإنسان واحترام الرأي الآخر والحرية والديمقراطية .. هذه الشعارات لم يلتزم بها الغرب أنفسهم في تعاملهم مع أزمة أوكرانيا، فقد وصل بهم الأمر الى طرد الطلاب الروس من جامعاتهم ومقاطعة الأفلام الروسية وفرض إجراءات على المشاركات الرياضية الروسية العالمية وبلغ حد الإجراءات الاقتصادية بأن قررت الكثير من الشركات إيقاف خدماتها في روسيا ولا تزال العقوبات مستمرة لتشمل كل المجالات من الاقتصاد إلى الإعلام والثقافة والمجتمع والرياضة والترفيه وغيره.
ومن خلال ما سبق، هل نتذكر جميعاً كيف كان الغرب يعترض على أي دعوات لمقاطعة الكيان الإسرائيلي ويرى إلى كل من يدعو إلى ذلك من البلدان العربية أو الحركات أو حتى الشخصيات على أنه يعادي السامية وينتهك حقوق الإنسان ويضرب عرض الحائط بمبادئ الحرية وقبول الآخر؟.. أين قبول الآخر وأين حرية الإعلام مما جرى خلال الأيام الماضية ضد روسيا؟ ولماذا لم نجد صوتاً واحداً يحاول تذكير واشنطن وأخواتها السبع في أوروبا بما كنا نسمعه ليلاً نهاراً من شعارات الحرية والديمقراطية؟ وأين هي حقوق الإنسان الروسي وهو ينظر إلى معظم العائلة الماسونية قد تنمرت ضده وكشفت عن وجهها القبيح في مواجهته دون أن تترك له فرصة ليتنفس ولو من موقع إخباري على الإنترنت أو صفحة على الفيسبوك أو تغريدة على تويتر.
تُرى هل يكفينا ما حدث خلال الأيام الماضية كي نعرف أن هذا الغرب المتوحش والعنصري لا يمتلك أي قيم مثالية وإنْ رفعها أمامنا ولوّح بها ضدنا ولا يلتزم بأي أخلاق وإن ادعى الامتثال لها ولا ينظر إلينا إلا كما ينظر للروس اليوم مع فارق القوة بين موسكو الصاعدة وعشرات العواصم الإسلامية التائهة في عالم لم نعد نحتاج للمزيد حتى نفرق فيه بين الخير والشر ولم نعد نحتاج للمزيد من العلم حتى نعرف أنفسنا بهويتنا ونميز بينها وبين ما يصدره الغرب إلينا من شعارات كاذبة وعناوين خادعة، فحين ندرك ذلك لن نقول نحن أرباب أوطاننا ولفلسطين رب يحميها بل سنتجه عملياً نحو التضامن مع فلسطين دون أن نلقي بالاً لتحركات الغرب الذي سيسارع إلى إعادة تصدير أكاذيبه إلينا حتى يحول بيننا وبين واجباتنا الجهادية المتمثلة في التضامن مع فلسطين ومقاطعة الكيان الإسرائيلي الذي لم يعد يشكل تهديداً لفلسطين وشعبها المظلوم بل يتهدد كل الشعوب في المنطقة وكل البلدان، وأن نستفيق اليوم خيراً من أن نصحو غداً على الأقل في تخفيف تكلفة المواجهة الحتمية، فما قد نخسره اليوم سيكون أقل بكثير مما سيتوجب علينا تقديمه غداً حين يكون هذا العدو على أبواب مدننا خاصة بعد أن فتح له التطبيعيون الجدد حدود بلدانهم وصاروا أقرب إلى تل أبيب منه إلى القدس وإلى الهيكل المزعوم منه إلى قبة الصخرة متناسين أن منطق القوة يتعرض للتصدع حينما يتكشف للجميع حقيقة هذه القوة وعلى ماذا تقوم، وهو ما يحدث معنا اليوم ونحن نتابع السقوط الفاضح للقناع الغربي، وذلك سيكون مقدمة لصحوة تستند إليها الأمة في تحركها القادم.