حتى اليوم تتحاشى النخب السياسية الدولية الحديث بواقعية عن تعقيدات عميقة في النزاع المسلح المتفجر بين الحكومة الأثيوبية وبعض العرقيات المتمردة بينما تحاول حكومة أبي احمد الحاصل على لقب «رجل النهضة والسلام» إعادة بناء التحالفات لمواجهة ما تعتبره محاولة تمرد مسلح تقوده جبهة تيجراي بمساعدة أطراف خارجية تدعم تحالف تيجراي عسكريا وسياسيا واعلاميا، متجاهلة مفاعيل وخيمة لحرب عرقية تهدد بنتائجها الكارثية وحدة اثيوبيا ودول شرق أفريقيا بصورة عامة.
الثورة / أبو بكر عبد الله
احتقانات أسرع من التسويات
يثق الأثيوبيون بجهود وساطة الاتحاد الأفريقي، أكثر من أي وساطات دولية وإقليمية أخرى، غير أن جهود السيد أوبا سانجو لم تثمر حتى الآن عن وقف عجلة التدهور.
وعلى مدى أكثر من عام كانت رقعة التباينات والنزاع المسلح تتوسع بسرعة أكبر من جهود الوساطة المتباطئة، ما جعل فرص نجاحها اليوم تتقلص إلى حد كبير بل يمكن القول إنها ربما وصلت إلى طريق مسدود يهدد بشبح الحرب الأهلية.
لا سبب لذلك سوى تجاذبات الشروط المسبقة التي طالما راهنت على مفاعيل البروبغاندا الدعائية ومفاجآت اللحظة الأخيرة، وهي ذاتها من انتجت اشتراط متمردي التيجراي وحلفائهم استقالة آبي احمد قبل أي حوار في مقابل تمسك الحكومة الفيدرالية بالذهاب للحرب للقضاء على المتمردين أيا كان الثمن.
بالمقابل تبدو الجهود الاميركية التي يقودها جيفري فيتمان ضعيفة للغاية، فهي تأتي في وقت توصف فيه العلاقة بين الحكومة والأثيوبية والولايات المتحدة بأنها في أسوأ حالاتها، في ظل ضغوط امريكية ودولية كبيرة على حكومة آبي احمد على خلفية اتهامها بانتهاكات لحقوق الانسان ومنع وصول قوافل الإغاثة الإنسانية إلى إقليم تيجراي، الذي تؤكد الأمم المتحدة أن أكثر من 400 ألف من سكانه باتوا على شفير المجاعة.
وقد أضاف قرار البرلمان الأثيوبي وحكومة آبي احمد تمديد حالة الطوارئ والاعلان عن خياره الوحيد المتمثل بمواجهة التمرد بحرب مصيرية، تعقيدات جديدة للمشهد حفزت قوات تيجراي التحرك نحو الأقاليم الشمالية المجاورة لإخضاع المزيد من المناطق للتحالف المناهض للحكومة بالقوة تمهيدا للزحف نحو الطرق الرئيسية المؤدية للعاصمة لحصارها، وبما يتيح لحلفائهم الأورومو إمكانية التقدم نحو العاصمة محمولين بخيارين إما استقالة آبي أحمد أو اقتحام العاصمة واسقاط الحكومة بالقوة.
هذا الأمر دفع الحكومة الأثيوبية إلى التمترس بالعاصمة في محاولة لبناء تحالفات جديدة بعدما افلحت الحرب الدعائية في ارباك النخب الأثيوبية وحكام بعض الأقاليم ودفعتهم لاتخاذ ترتيبات إنقاذية كلها تشير إلى المضي نحو حرب أهلية تهدد بتفكك الاتحاد الفيدرالي الأثيوبي.
إنجازات كبيرة
لا يبدو أن لدى آبي احمد دوافع عرقية في هذه الحرب، فمنذ اختياره لمنصب رئيس الحكومة من قبل الائتلاف الحاكم عام 2018م، تلقى الأثيوبيون القرار بكثير من التفاؤل، إذ أنه كان أحد كوادر الائتلاف المنحازة لمطالب الشعب الإثيوبي والأكثر حماسا لبرامج الإصلاح السياسي والاقتصادي، كما بدا من اليوم الأول مستوعبا للديناميات المتحكمة في تشكيل الواقع السياسي الإثيوبي وتحدياته واحتياجاته.
وخلال عامين من ترؤسه الحكومة الفيدرالية، نفذ آبي أحمد العديد من الخطوات الإصلاحية التي قوبلت بترحيب كبير على المستويين الداخلي والخارجي كما قدم نموذجا جيدا في احترام التعدد في إطار الدولة الفيدرالية، ورفع أسماء الجبهات الإثيوبية المسلحة من قائمة الإرهاب وسمح لها بالعودة للانخراط السلمي في العملية السياسية، كما أطلق سراح العديد من المعتقلين ورفع حالة الطوارئ ناهيك بقيادته مصالحات داخلية وأخرى خارجية انهت حالة الحرب مع أريتريا المشتعلة منذ 1998م، ونال بموجبها جائزة نوبل للسلام.
وفي الجانب الاقتصادي شرع بخطوات جريئة حققت نجاحات كبيرة في مكافحة الفساد وقيادة مشاريع اقتصادية كبيرة وجذب الاستثمارات بعد قرارات قوية بالانتقال باقتصاد أثيوبيا إلى اقتصاد السوق، وخصخصة العديد من الشركات والمصانع المملوكة للدولة الاثيوبية من عهد النظام الاشتراكي بما فيها مؤسسة الاتصالات والطيران الأثيوبي، وغيرها من الخطوات التي كان لها أثر واضح على الوضع الاقتصادي في اثيوبيا منحته بجدارة لقب «رجل النهضة الأثيوبية الحديثة».
اخطاء قاتلة
ورغم التأييد الواسع الذي حظي به آبي احمد تجاه ما حققه من إنجازات انعكست بتحقيقه فوزا كاسحا في انتخابات ????م إلا أن الازمة مع تيجراي قادته لأخطاء وضعت مستقبلة السياسي في المحك، يتصدرها الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الاريترية بحق آلاف المدنيين في تيجراي، واجمعت الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية على انها كانت وحشية وترقى الى جرائم حرب. قبل خمسة أشهر من الآن أراد آبي احمد حسما سريعا للازمة فاستعان، بصديقه سياسي افورقي لدعمه ببعض القوات الاريترية للقيام بالدور الذي يصعب على الجيش الاثيوبي الاتحادي القيام به.
لكن التركة الثقيلة للعداء التاريخي بين اريتريا وسكان تيجراي أخرج الوضع عن السيطرة مع ارتكاب القوات الاريترية انتهاكات وحشية بحق المدنيين اشعلت النقمة في كل اقاليم اثيوبيا.
هذا الملف أضعف الى حد كبير حكومة آبي احمد، بل وأشعل مخاوف واسعة بإمكان تورطه في جرائم مشابهة مستقبلا ما دعا بعض العرقيات البعيدة عن دائرة الصراع الى تبني مطالب تيجراي بالإطاحة بحكومته.
وبمواجهة حقائق موثقة وضغوط دولية، اعترفت حكومة آبي احمد متأخرة بهذه الجرائم واعلنت انها شاركت في التحقيقات التي اجرتها الامم المتحدة، كما اعلنت اجراء تحقيق داخلي، الا أن خطأ آبي أحمد الفادح بجلب القوات الاريترية – العدو اللدود للتيجراي جعل بعض الاقاليم ينظرون اليه بصفته ديكتاتور محتمل كما عزز القناعات بأن الاصلاحات التي يقودها لم تكن سوى ذرائع سعى من خلالها الى تصفية خصومه السياسيين.
زاد من ذلك أن القوات الاريترية استمرت بالتواجد على الاراضي الاثيوبية رغم اعلان حكومته انها انسحبت في وقت سابق، ما جعل الولايات المتحدة ودولاً أوروبية تدعوها الى مغادرة الاراضي الاثيوبية فورا وتلاها فرض واشنطن عقوبات على شخصيات من الجيش الاريتري والحزب الحاكم ضالعة بجرائم حرب في تيجراي وتلويحها بأنها قد تفرض المزيد من العقوبات على الاطراف الداعمة للحكومة او جبهة تيجراي على السواء.
كان المجتمع الدولي محقا في اهتمامه بالملف الانساني في هذه الدولة الموبوءة بالنزاعات العرقية، ففي حروب العرقيات الاثيوبية لا حدود للوحشية؛ وذلك تماما ما فسر فرار 5 ملايين اثيوبي الى السودان ومناطق اخرى في حرب، يعتقد الاثيوبيون انها لم تبدأ بعد.
إخفاقات سياسية
في مفاعيل الأزمة المشعلة، كان اللافت اتهام حكومة آبي احمد متمردي التيجراي وحلفاءهم بتلقي دعم خارجي، رغم عدم وجود أي دليل مقبول يثبت حصول التحالف الذي تقوده جبهة تيجراي على دعم خارجي للإطاحة بالحكومة.
وما هو واضح في المشهد الاثيوبي هو الإرث الثقافي لبيروقراطية الإقطاع الطاغية على الثقافة السياسية الأثيوبية المتجذرة منذ الاستعمار وتعمقت أكثر في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، ثم مارسها أكثر حكام اثيوبيا في مرحلة تالية وفق معادلة منح الحاكم امتيازات اقتصادية وسياسية لرموز عرقيته المحيطين به للتحكم بمفاصل الحياة اليومية للدولة والشعب، مقابل ولائهم المطلق والدفاع عن حكمه بكل الوسائل الممكنة، دون الاكتراث لمخاطر الإطاحة بالدولة والنظام.
هذا الواقع الذي يتحاشى آبي أحمد الاعتراف به، أنتج أزمات مركبة، مع اخفاق آبي احمد في معركة الاستقطابات التي كانت تتفاعل بوضوح في المشهد وقادته إلى مواجهات مع العديد من العرقيات الاثيوبية المؤثرة في المشهد السياسي والعسكري، كما أخفق في كسب العديد من العرقيات الصغيرة التي اخذت هي الأخرى، في ظل حمى التمردات المسلحة، تطالب بحكم ذاتي في مناطقها وأدى ببعضها إلى اعلان الانخراط في التحالف الذي تقوده جبهة تحرير تيجراي أملا في حكومة جديدة تؤمن مصالحها.
ومن جانب آخر فإن التحركات التي قادها آبي احمد لإعادة تشكيل تحالفاته لا تزال تعاني من مناطق ضعف كثيرة، كما ان سياساته القديمة في الحد من نفوذ بعض العرقيات، كما حصل مع دعمه للنفوذ السياسي لعرقية الامهرا على حساب نفوذ التيجراي، لم يغير كثيرا في المعادلة العسكرية، في حين أن صراعه مع عرقية الأورومو التي ينتمي اليها واعلانه التخلي عن عرقيته أضعف توازن القوة، ما جعل النيران تشتعل على بعد 400 كيلومتراً من العاصمة.
سجال البروبغاندا
في مقابل مشهد محتقن تبدو فيه العرقيات المتمردة في وضع قوي، فإن الحكومة الأثيوبية تؤكد أن «الجماعات المتمردة» ليست لديها أرضية سياسية أو شعبية كما يصوره الإعلام، وما لديها فقط هو «بروبغاندا دعائية» تروِّج أكاذيب في السيطرة على المناطق وتوسع التحالفات المناهضة للحكومة.
هذا المشهد عبَّرت عنه بوضوح وزيرة الاتصال الخارجي في الحكومة الأثيوبية سلاما ويت كاسا
التي قللت كثيرا من شأن المخاوف من اقتحام العاصمة أديس ابابا وإطاحة حكومة آبي احمد بالقوة، إذ أكدت أن الحكومة لم تقم حتى الآن بأي هجوم عسكري على المتمردين، مشيرة إلى أن الدعاية الحربية للمتمردين قالت في الماضي أكثر مما تقوله اليوم، بينما الشعب الأثيوبي يدعم بقوة الحكومة الفيدرالية المنتخبة ويعمل الآن كل ما في وسعه للدفاع عنها وعن اثيوبيا الموحدة.
كما اعتبرت مغادرة البعثات الدبلوماسية والأممية للعاصمة، اجراء اعتيادياً نتيجة حالة الطوارئ، وأن الشعب الأثيوبي يحمل السلاح للدفاع عن الحكومة الفيدرالية وباشروا إجراءات اعتيادية لحماية مناطقهم وبلادهم بشكل عام والطرح الرسمي للمشهد الحاصل في الساحة الأثيوبية، يبدو واقعيا أكثر قياسا بالبيانات والتصريحات النارية التي يطلقها الطرف الآخر أو ما تسميه الحكومة «بروبغاندا» والذي يتحدث بلغة عدائية صلبة عن السيطرة الكاملة للتيجراي وحلفائها وتخلي الأقاليم عن الحكومة الفيدرالية وانضمامهم لتحالف تيجراي وقرب محاصرة العاصمة واقتحامها.
ذلك أن التأمل في تقاطعات المشهد الأثيوبي يعطي نتيجة بأنه ليس من السهل على الأقاليم الأثيوبية ذات العرقيات المختلفة ان تقبل الانخراط مع أي تحالف عسكري قد يهدد وجودها أو يدفعها نحو المجهول، كما لا يمكن التكهن بقبولها أي تحالف قد يهدد الدولة الاتحادية الفيدرالية على المدى القريب.
لكن المرجح أن عدم قدرة الحكومة الفيدرالية السيطرة على المشهد العام بتداعياته السياسية والعسكرية سيقود، مع استمرار أمد الحرب، إلى تآكل الحكومة الفيدرالية أو على الأقل حدوث انقسام في البرلمان الاتحادي، ما سيقلل فرص صمود النظام القائم حاليا.
وفي شأن السجال الحاصل حول إمكان التفكك السريع للدولة الإثيوبية واعلان اقاليمها الانفصال، فإن معطيات التركيبة العرقية في هذا البلد، تجعل من سيناريو الانفصال أمرا بعيدا في المدى القريب، بالنظر إلى مواقف العرقيات الكبيرة المؤيدة للحالة الاتحادية الفيدرالية، وخصوصا قومية الأورومو والأمهرا وعفار وهراري وبني شنقول وغيرها من القوميات المؤيدة للحالة الفيدرالية القائمة.
هذا الموقف تؤيده كذلك الكثير من العرقيات الصغيرة المتناثرة في الخارطة الديموغرافية الأثيوبية والتي اختارت النأي بنفسها عن تحالفات الحروب، وتأييد الدولة الفيدرالية والجيش الاتحادي استنادا إلى تجاربها القديمة التي ترى أن حروبا كهذه لن تنتهي عند طرف منتصر وآخر مهزوم، بل ستقود حتما إلى توالد حروب منفلتة في إطار الصراع الأزلي بين الأقاليم الأثيوبية على الاراضي والموارد والمياه.