الثورة / يحيى الربيعي
مع بزوغ فجر الـ 28 من أكتوبر 2021م، تحركت بصحبة المصور والشاب المتألق زيد البكري في نزول ميداني إلى مديرية ذيبين احدى مديريات محافظة عمران ومركزها ذيبين وتتكون من61 قرية تشكل 3عزل هي “بني جبر، سفيان، مرهبة” ويبلغ عدد سكانها 35.454 نسمة وفق التعداد العام للمساكن والسكان 2014م، يمثلون 5.084 أسرة تسكن في 4.319 مسكنا.
وتقع مديرية ُذيبين في الشمال الشرقي من مركز محافظة عمران، وتبعد بحوالي (41كم عن عاصمة المحافظة، وعن العاصمة صنعاء بحوالي ويقع مركز المديرية على دائرة عرض (99.15 درجة شمالاً)، وخط طول(95.43 درجة شرقًا)، ويحدها من الشمال حرف مديرية حرف سفيان، ومن الجنوب مديرية خارف، ومن الشرق مديرية المطمة محافظة الجوف، ومن الغرب مديرية خمر وبني صريم تتكون المديرية من3 عزل هي (بني جبر، عزلة مرهبة، وعزلة سفيان اليمانية).
مقصدنا كان مقر مكتب الزراعة والري والذي يقع في مركز المديرية بعزلة بن جبر المشهورة بزراعة العنب الجبري التي تنتشر في مساحة تقدر بـ 450 هكتارا، وصلنا عند الثامنة صباحا على متن دراجتي النارية، وهناك التقينا فرسان البحوث من طلاب كليات الزراعة في الجامعات اليمنية الذين من خلالهم تعرفنا على مدير المكتب المهندس نجيب أبوضربة الذي بدوره رحب بنا، وعلى الفور انطلقنا على متن شاص استقلها في اتجاه منطقة هران نهاية عزلة سفيان باتجاه الشرق عبر طريق ترابي طويل يرتبط بجزء يسير من خط صنعاء- الجوف ثم نعود عبر طريق ترابي لمسافة لا بأس بها داخل وادي هران، وصلنا إلى قرية في وادي هران حوالي العاشرة والنصف صباحا.
تحديات وفرص
وهناك جلسنا إلى أحد المزارعين من أحفاد بلال، الذي رحب بنا في مزارعته، حيث كان ومعه مزارعون يعملون على تهيئة مساحات منها استعدادا للموسم الشتوي لزراعة القمح، بعد أن حصدوا محاصيل الذرة الرفيعة والدخن، والبقوليات.
(يحي مبارك جوبان) هو عاقل القرية وأحد المزارعين الحائزين، استقبلنا بحفاوة وشهامة اليمني المتعارف عليها في استقبال الضيوف، وهناك في محل داعم هران، استمتعنا بقليل من الوقت كثير الفائدة، حيث استمعنا إلى هذا العاقل، وهو يؤكد أن كل أبناء القرية هم من أحفاد بلاد، وأنهم جميعا يعملون ليأكلوا من عرق جبينهم في مجال الزراعة وتربية الثروة الحيوانية، فالأرض- كما حكى العاقل (يحيى) تزودهم بحبوب الذرة الرفيعة، والشامية (الرومي)، والدخن، صيفا، وفي الشتاء بحبوب الشعير والقمح (البر)، ومن كل خضرة للماشية.
وذكر العاقل (يحيى) أن الوادي إلى ما قبل عقدين من الزمن كان مصبا لغيل جار على مدار العام إلا أن مرور البلاد بسنوات عجاف أضطرهم اللجوء إلى حفر الآبار الجوفية للبحث عن الماء، وركبوا مضخات ديزل، المادة التي أصبحوا يعانون من غيابها وصعوبة الحصول عليها بسبب الحصار الذي تفرضه دول تحالف العدوان على البلاد.. لكن العاقل (يحيى) بصلابة اليمني وقوة عزيمته لم يستسلم، ولا أبناء قريته لهذه الظروف الصعبة، فرغم قساوتها إلا أن الجميع حول التحدي إلى فرصة، بل وباتوا اليوم يزرعون أكثر مما كانوا يزرعونه أيام جريان الغيل.
وعندما سألناه عن إمكانية استخدام منظومات الطاقة الشمسية كبديل عن مادة الديزل، أكد العاقل (يحيى) أن الثقة بالله وحدها هي من يصنع المستحيل، منوها “لأننا نؤمن بأن ربنا هو الزارع، وإنما علينا سوى الحرث، والتسوية، والذري، فقد زرعنا عقر، وجابت محصول أوفر، وإذا توفر المادة سقينا وجاء المحصول دبل”، وقال: “أما حكاية المنظومات الشمسية، فما من إمكانية للاستفادة منها في هذه المنطقة، لأنها شبه حارة طوال العام، وهذا يضطرنا إلى الانتظار حتى تغيب الشمس، ونبدأ بالري حتى الفجر، كي لا تحترق المحاصيل، والطاقة لا تعمل سوى أوقات تواجد الشمس”.
وتطرق العاقل خلال الدردشة معه إلى مهارة المزارع اليمني في انتخاب بذوره (الصيب- كما يطلق عليها) من أصل كل ما يزرع، حيث يتم البحث قبيل موسم الصريب (الحصاد) عن أفضل السنابل في الحبوب ويتم حصادها أولا، ثم توضع في مكان منعزل عن بقية الحصاد كي يتم فرزها بعملية (خبيط) خفيفة تحافظ عليها من أي ضرر، ثم يتم نسفها على مهب الرياح (غربلتها)، فالاحتفاظ بها في أماكن وأوعية مخصصة لحفظ البذور، أو تركها في سنابلها إلى ما قبل موسم الذري.
وفي ختام جلسة الدردشة، أكد المزارع (يحيى) أن التدخلات الكيمياوية من تسميد وبودرة هي المسؤولة عن تفشي العديد من الأمراض والأوبئة في المحاصيل التي لم تكن توجد في زمن ما قبل استخدامها، مضيفا أن البذور المحسنة هي الأخرى كانت تأتي محملة بالأمراض، محتملا أن تكون محسنة على استهلاك أصناف من الأسمدة والمبيدات، وأن مثل هذا التحسين لا يخدم في الأصل سوى منتجي هذه المدخلات، وبالتالي فإن الفائدة التي يتحصل عليها المزارع جراء هذه التدخلات كانت ضئيلة.
وأمل المزارع في وزار الزراعة والري، والهيئات البحثية ومؤسسة اكثار البذور اسناد المزارعين بقالب توعوي عن كيفية العمليات الزراعية السليمة والوقاية من اهم الامراض التي تصيب محاصيل الحبوب مثل (الأصداء) واتباع الأساليب الأقل ضررا عند قيامهم بعمليات تحسين البذور.
الأهم من ذلك كله، أننا خرجنا رغم هذه التحديات بانطباع منقطع النظير عن تجربة زراعية رائدة، وقصة نجاح مضمونها تحقيق الاكتفاء الذاتي، وأبطالها هم أحفاد بلال حائزين وشركاء يعملون في مجال الزراعة على امتداد وادي هران سفيان اليمانية، فتحية لأولئك الأبطال الأشاوس في ساحات وميدان الجبهة الزراعية والنضال التنموي.
عدسة الكاميرا
في الأثناء التي دارت فيها الدردشة مع العاقل (يحيى) كانت الحراثة المجتمعية التي ارسلت من وحدة الحراثة لقلب وتسوية وحراثة الأرض استعدادا لموسم الذري الشتوي لمحصول الشعير والقمح متوقفة عن العمل بسبب عطل طارئ استدعي لإصلاحه مهندس الوحدة الذي بدوره حضر عند حوالي الساعة الـ 11 صباحا وباشر على الفور في اصلاح العطل.
لم يسعفني الوقت لتحري ما حدث للحراثة، لأن عدسة كاميرا الزميل المصور (زيد البكري) التقطت مشهدا رائعا لأحد الآباء، وهو يتحايل ابنته الصغيرة لأخذ رضيع صغير الماعز منها كي يبيعه لأحد الجزارين.. المشهد استوقفنا جميعا، بل وجرنا إلى داخل سيناريو فلاشة رائعة كانت الطفلة فيها بطلة المشهد، حيث رفضت قطيعا أن تسمح لأبيها ببيع صديقتها الصغيرة من الماعز.
تمسك الطفلة بصديقتها الصغيرة من الماعز شد الجميع إلى التدخل لمساعدتها، حيث انطلق فارس تنموي من أبناء المحل مباشرا توعية الأب بمحامد الإنصات إلى إلحاح أبنته عليه بعدم التفريط بصغير الماعز، حتى أن الأب اقتنع في البداية وترك لأبنته حرية الانطلاق بذلك الصغير.. لكنه سرعان ما تراجع عن قراره، ولحق بأبنته لينتزع منها تلك الصغيرة، ويرمي بها إلى بين يدي الجزار قائلا: ما بش معي مصاريف، مخاطبا ابنته من أين أدي لك ولأمك مصاريف؟ ما بش معنا غير هذه الصغيرة من الماعز نبيعها، وعلى الفور استلم من الجزار 5000 آلاف ثمن تلك الرضيع من الماعز، وحاول المضي نحو مقضى غرضه من الفلوس ضاربا بنصائح الجميع خلف ظهره كأنه لم يسمعها، لكن المفاجأة حصلت حين انطلقت الطفلة بسرعة الصاروخ خلف ذلك الجزار، فانتزعت من بين يديه صغيرتها ولاذت بالفرار.
انتهى المشهد، وأزف معه وقت الظهيرة، ما اضطرنا إلى العودة من حيث أتينا، وعلى طريق العودة لاحظت عن يميني وجود مزرعة شاسعة ومترامية الأطراف، فيها العديد من النوبات، فسألت المهندس نجيب عنها، فكانت الإجابة بأن هذه هي مزرعة حكومية تتكون من 20 هكتارا، وفيها تزرع العديد من محاصيل الحبوب، والفواكه، والخضروات، والبقوليات.
الجمعية والتعاقدية
وأثناء زيارة مساحات الأراضي الزراعية المعدة لتدشين زراعة القمح للموسم الشتوي في عزلة شوابه برفقة مدير مكتب الزراعة بالمديرية م. نجيب أبو ضربة وعضو الهيئة الإدارية للجمعية رضوان حوايجة، لاحظنا المزارع (هادي محمد هادي) من أحفاد بلال، مستظلا تحت شجرة.. علامات التشاؤم والضيق بدت واضحة على ملامح وجهه.. الفضول دفع بي وكان معي حينها مدير الزراعة بالمديرية م. نجيب أبو ضربة بصحبة مجموعة من مزارعي المنطقة نحو سؤاله عن سبب ما هو عليه؟ الرجل ما صدق أن وجد من يشاركه همه، فانطلق يتقارح: الظروف زي الزفت.. رديت عليه: ما المشكلة، خليها على الله؟ فأجاب بحرقة: عدوان وحصار يمنع عنا المشتقات النفطية، والأسمدة والمبيدات، والبذور، وتجار مستغلين الظروف حولوا شيء سوق سوداء وهات يا سلخ.
للمزارعين، وسوق بورة، كم اشكي لك.. سألته: وماذا عن الجمعيات؟ ردا مقاطعا باستغراب، وكأنه سمع شيئا كان مفقودا فوجده، فتساءل: أي جمعية؟ وأين هي؟ وما الذي “عاتسوي لنا”؟
رد عليه م. أبوضربة مدير الزراعة بالمديرية بتعجب: أو ما قد سمعت (يا حاج) بأن هناك جمعية زراعية تعاونية تتشكل في المديرية؟ لم يجبه المزارع على اعتبار أن الأسئلة مسبقة، فواصل المدير أبو ضربة.. هذه الجمعية سوف تعمل على تنظيم العمليات الزراعية من خلال أدوار في مواسم زراعة المحاصيل الزراعية بما يضمن تسويقا ناجحا ومجزيا، وقبل هذا هي من سيتكفل بتوفير جميع المدخلات للمزارعين من بذور وأسمدة، ومبيدات وبأسعار مخفضة ومناسبة، كما ستعمل على توفير كل ما تتطلبه العمليات الزراعية من توجيه وإرشاد وتوعية.. تساءل المزارع: ومن أين لها هذا كله إذا كانت الدولة بحولها والقوة “مش قادرة توفر شيء”؟
رديت عليه: من الأسهم والاشتراكات التي سيقوم بتسديدها المساهمين فيها من مزارعين ومواطنين ومستثمرين من أبناء المديرية؟ تساءل: وكيف؟ فقلت: سيتم جمع رأس مال للجمعية عبارة عن أسهم قيمة السهم الواحد 5000ريال و 1000 اشتراك، وكل واحد من المساهمين حر في الاشتراك بالأسهم الذي سيقدر عليه.. ويتم فتح حساب في البنك، وبرصيد هذا الحساب ستضمن الجمعية لتجار المدخلات قيمة المدخلات التي سيتم توريدها إلى مخازن خاصة بالجمعية وتضمن الجمعية عملية فحصها والقيام ببيعها على المزارعين الميسورين بأثمان منخفضة، وكذلك تقديم المزارعين المعسرين المدخلات على هيئة قروض محسنة بنفس أسعار البيع النقدي، إلى حين الحصاد الذي ستتحمل الجمعية مسؤولية تسويقه وخصم مستحقات التجار من قيمة المبيعات.
أحد مزارعي عزلة شوابه وهو (المزارع رضوان حوايجة) شارك في النقاش بصفته عضو اللجنة التحضيرية للجمعية قائلا: أن الجمعية هي من ستتولى القيام بجميع المعاملات سواء مع تجار المدخلات أو مع الجهات الرسمية في الحكومة أو في الهيئات والمؤسسات العامة أو إبرام عقود التسويق مع الأسواق المحلية، وإن شاء الله الخارجية من أجل إيجاد برامج زراعية موجه تستوعب مبيعاتها حاجة السوق بما يضمن توفير أسعار مجزية للمزارعين.
وأضفت قائلا: كما أن الجمعية تضمن حماية المنتجات المحلية من التزييف والغش من كل الأيدي العابثة التي تحاول محاربة المنتج المحلي، كما تسعى الجمعيات إلى حماية الأراضي الزراعية وتربتها ومن المبيدات والأسمدة الكيماوية المهربة التي تفسد التربة، وتسبب إهلاك الحرث، وتصيب المستهلك بأمراض فتاكة كالسرطانات والفشل الكلوي وغيرها من الأمراض، علاوة على ذلك تسعى الجمعيات إلى تحسين المنتج المحلي وضمان جودته وتسويقه داخليا وخارجيا، وستسعى الجمعيات إلى بناء مجتمع واعي ومتماسك متمكن اقتصاديا واجتماعياً، وهناك الكثير من مزايا التسهيل التي تقدمه الجمعية للمزارع.
المزارع (هادي) كيّف، وتغيرت ملامح وجه العبوسة بملامح رضاء مقرونة بابتسامة عريضة، وانطلق متسائلا؟ وما هي المزايا الأكثر من هذا؟
يرد عليه المدير أبو ضربة قائلا: هناك الزراعة التعاقدية؟ قرح المزارع في وجهه متسائلا: وما هي هذه الزراعة التعاقدية؟ رد عليه: الزراعة التعاقدية هي عملية تسويق مسبقة لمنتجات المزارع من المحاصيل الزراعية، بحيث يقوم مستوردي المنتجات الأجنبية من التجار بالتعاقد مع الجمعية- مثلا- على زراعة 2000 طن من القمح لهذا الموسم، على أن يقوم التاجر بتقديم المزارعين قيمة المدخلات الزراعية من بذور وأسمدة ومبيدات وخلافه على أن تضمن الجمعية إيفاء المزارعين بتوفير الكمية المطلوبة.. والجمعية تقوم بدورها بالتعاقد بتوزيع الكمية المطلوبة على عدد المزارعين المساهمين في عضويتها كل حسب أرضه وقدرته الإنتاجية، وبهذا يكون المزارع قد ضمن بيع محاصيله قبل زراعتها.. والزراعة التعاقدية يتم تمويلها عن طريق عملية تخفيض فاتورة الاستيراد، فبدلاً من ان يتعاقد التاجر اليمني مع المزارع الهندي أو الصيني وغيرهم من المزارعين الخارجيين يتعاقد مع المزارع اليمني.
هز المزارع (هادي) رأسه إيذانا منه بقبول الفكرة، وسرعان ما أطلق تساؤله المتلهف: وأين هي هذه الجمعية نساهم؟
تصوير : زيد البكري