إن روحانية المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – تشهد أماكن الخير والصلاح ومجالس العلم والذكر ،وتفيض على هذه الأماكن بالمنح الخيرية، وتغدق على أهلها وأصحابها الاطمئنان والسكينة والنورانية، فيزداد المحبون له -صلى الله عليه وآله وسلم- حباً وعشقاً وتفانياً وقرباً ، ولهذا تراهم يلهجون بذكره فيزدادون وجداً من حلاوة سكره ، فهم مولوعون بذكر اسمه ، منجذبون لكتابة رسمه على جباههم، ليس هذا فحسب، بل وعلى الحيطان وواجهات المنازل والعمران، وعلى المركبات، وعلى جدران أزقة الحارات، بل تكاد ترى رسم اسمه على الهواء إذا ما صفت النفوس وكانت كلها نقاء..
ومن يشاهد سماء صنعاء في هذه الأثناء ، فسيعلم يقيناً أن روحانية المصطفى متجلية في كل ذرة من ذرات الهواء ، تتنزل على كل قلب كان لها وعاء ..
فروحانيته -صلى الله عليه وآله وسلم- ليست مقيدة بل مطلقة ، ولها حضورها الأكمل عند المحتفلين به، الفرحين بقدوم ذكراه، العاشقين لجمال طلعة محياه ، الذين عبَّروا عن حبهم وفرحهم وتعظيمهم لنبيهم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بكل مظاهر الحب والفرح والتعظيم ، كما هو الحاصل من خلال ما نشاهده في المدن اليمنية التي تكتسي وتتدثر هذه الأيام بقشيب اللون الأخضر ، وكل من رأى هذا المظهر ينتابه الوجد وتغمره الروحانية، ولا يكاد يمسك نفسه من البكاء لشعوره بحضور روحانية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكأنه قد بُعث من جديد..
ولا غرابة من ذلك ، فإذا كانت روح المؤمن الشهيد غير مقيدة في عالمها البرزخي –كما في الحديث (1)-, بل تسبح حيث تشاء ، فكيف بروح النفس الأكرم والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؟! ..
فروحه أكمل الأرواح، ولذلك هي أكمل في الحضور والشهود ، والدليل على ذلك أن الإنسان المؤمن إذا دخل المسجد ينبغي أن يُسلِّم على رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم –. وفي التشهد في الصلاة كذلك يُسلِّم على رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – عملاً بالأحاديث الواردة, منها حديث: « إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك ..»(2) وإذا كان كذلك, فهل السلام يكون على غائب ؟!.
إذاً ماذاك السلام إلاَّ على حاضر يشهدك ويسمعك, فتوجَّه إليه بكليتك وناجه بحاجتك، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)[النساء : 64]
فجاءوك فعل ماض يقتضي الاستمرار في حياته وبعد وفاته والمجيء هنا لا يعني الإتيان إليه, بل يعني التوجه والإقبال عليه كمثل قولي: (فلان سافر إلى الله) ومعنى أنه اتجه إلى الله في سلوكه وطاعاته، ولا أدلُّ على ماقلناه من قوله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[النساء :100] . فلم يقل إلى الله وإلى الرسول؛ لأن المقصود التوجه والإقبال.
فإذا كنت مستشعراً القرب المحمدي من باب ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ..)[ الحجرات :7]
وأردت أن تناجيه ، فقدم صدقة بين يدي نجواك إن لم يشق ذلك عليك .
ياأخا الأشواق هذا المصطفى
بث شكواك له وانتحبِ
…الهامش……..
– (1) ” سنن النسائي “:[ 180/4] برقم (2073) باب ” أرواح المؤمنين ” قلت : وإذا كان الله تعالى أخبرنا عن حياة الشهداء كما في آية البقرة : (154) وفي آية آل عمران (169) فلا شك أن حياة النبي – صلى الله عليه وآله – أعلى رتبة وأفضل جهادا من الشهداء فهو أولى بهذه المزية
(2) رواه مسلم في ” صحيحه ” [494/1] برقم (713) ، باب ” ما يقول إذا دخل المسجد “.