جميل مفرح
حول رواية (عشت لأروي)، والتي تقترب صفحاتها من الـ 700، وتعد سيرة ذاتية دونها الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز عن تفاصيل دقيقة من حياته الشخصية مهنيا وإبداعيا، أتحدث في هذه التناولة الموجزة والبسيطة.. فلا يفوتني بداية أن أتساءل: كيف لم يجرؤ أحد من قبل وحتى اليوم على القول إن هذا العمل، في مجمله وتفاصيله وطريقة كتابته أيضاً، هو سيرة مهنية لصحفي أكثر من كونه سيرة حياة روائي..؟! وأعتقد من قراءتي الشخصية له بداية أنه كان يجدر تسميته (عشت لأكتب) وليس (لأروي).. نعم هو عمل لا يخلو من التشويق والإثارة، ولكن بالتدقيق الدقيق فيه نجد أنه عبارة عن ذكريات عشوائية لم ينتظمها نسق أو ترتيب زمني أو موضوعي معين.. وإنما يبدو وكأنه دفقات من السرد مرتكزة على بضعة أماكن وأعوام وأسماء لم يبارحها، كما لم يبارح طريقة سردها الخالية من الفنون الأدبية الفاخرة التي شهدها وتميز بها في ذلك الزمن السرد اللاتيني والأسباني والأمريكي والإيطالي.. وأقول حقيقة ما وجدته في هذا العمل، وإن تعارض معي الكثيرون ممن تبهرهم الأسماء الكبيرة جداً، وبالذات منها النوبلية، أن ماركيز في هذا العمل وبهذه الطريقة من السرد، قد تعمد أن يبدي دهشته ولهجته المنتصرة باستغراب لذيذ تجاه نيله جائزة نوبل كروائي.. إخفاقات متكررة وهنا يلاحظ بوضوح اعترافاته المتكررة بالكثير من إخفاقات البداية في الظهور كروائي، ثم تجزئة أعماله الروائية وتحويلها المضطر إلى قصص وحكايات، عند الحاجة لذلك، أو عندما يستدعيه الأمر أن ينشر مادة ولم تتوفر لديه المادة الصحفية، كان يلجأ لذلك بكثرة وكأنه إنما يسد فراغاً ويحاول أن يتذكر أو يفرض على نفسه وواقعه كونه كاتباً قصصياً.. أو إذا تطلبت الرغبة المشاركة في مسابقة للحصول على جائزة، بدافع حالة الفقر المدقع عاشها في مراحل كثيرة من حياته.. وإذا مررنا سريعاً على الحسابات اللفظية التي ارتكز عليها هذا العمل، والتي يستخدمها النقاد والكتاب كدلالات على حالات الاهتمام والانشغال التي يعيشها الكاتب، فقد بدا ماركيز في (عشت لأروي) وكأنه انغمس، واقعاً وأحلاماً وطموحات، في مهنة الصحافة وأحبها أكثر من حبه للرواية واندماجه الفعلي المتفاعل في السرد القصصي، فحضرت كلمات ومعان كالريبورتاج والتحقيق والتعليق والصحيفة والافتتاحية أكثر من حضور كلمات كالقصة والرواية والسرد والكتاب.. مجاملات أصدقاء وقد اعترف ماركيز في مواقع كثيرة جداً سواء صراحة أو ضمنياً بعدم اقتناعه بما كان يكتبه قصصياً، وأبدى ملاحظات كثيرة متعلقة بدرايته ويقينه شبه المطلق بتلك المجاملات التي كان يلقيها عليه أصدقاؤه وزملاؤه حول الأعمال السردية التي كان ينجزها بغير رضى تام عنها.. أنا لا أقول إن ماركيز ليس روائياً أبداً.. فلو لم يكن له سوى (مائة عام من العزلة) لكفته ليكون كذلك.. ولكن أقول من منطلق قراءتي لهذا العمل (عشت لأروي) فقط، إن ماركيز في البداية والأصل هو كاتب في الأساس ولا خلاف على ذلك وصحفي بالدرجة الأولى، وليس كاتباً وصحفياً عادياً وإنما كاتب برع في التدرج وخبر مهنته تلك، حتى صار كاتباً متمكناً، ثم عاد للسرد الأدبي أو الروائي بأدوات وقدرات، لم يعد معها ذلك الفاشل في التعامل مع اللغة وقواعدها كما كان عليه في بداية عمره.. خيانات إبداعية وهنا أيضاً يظهر اعتراف آخر في هذه السيرة بأن اللغة وفنياتها وملكاتها كانت من أكبر وأول من أضمر له الخيانات دون أن يصير ذلك الروائي الذي بدأ يفكر فيه باكراً، ويغزو أحلامه، بفعل ما عاشته الرواية في ذلك الزمن من طفرة بل طفرات لفتت انتباه الجميع في المشرق والمغرب.. كما لم ينج ماركيز من الاعتراف هنا وهناك بإخفاقه الكبير في صياغة الحوارات السردية، وبطبيعة الحال فإن هذا يحسب على أي كاتب رواية أياً كان اسمه أو كانت صفته أو صارت الجائزة التي نالها، في ظروف لا بد من كونها راجعة أو على الأقل آخذة في الاعتبار أحوال بلده الذي كان يعيش صراعات سياسية واجتماعية واقتصادية غاية في السوء تحت رقابة العالم أجمع.. وأحوال أي كاتب قد يكون قادماً من ذلك البلد.. صحفي ذكي ولكي أكون صادقاً ومعبراً عما وجدته من قراءة هذا العمل فإنني أعيد وأكرر ليس في سردية (عشت لأروي) ما يلفت الانتباه فنياً، وقد استطاع الكاتب بذكاء يحسب له أن يغطي مساحاته بسردية تقريرية بحتة مباشرة في معظم الأحيان، ومتفاوتة المتانة والأغراض أحيانا أخرى، بالإضافة إلى استجلاب مفارقات مشتغل عليها بعناء وعناية في الأحداث وأيضا في تفاصيل الحبكة وصناعة الأدوار والشخصيات، كما يفعل كاتب صحفي مقتدر وذو خبرة وكفاءة بالضبط، أكثر من أن ينجح حقيقة في تقديم حبكة فنية وبنائية أدبية يتطلبها أي عمل روائي، خصوصاً في ذينك الزمان والمكان.. نعم لقد شعرت وأنا أتعاطى مع هذا العمل بالذات بكاتب صحفي يجيد التنميط، ولكنه لا يتقن فيما بعد الفرار من النمطيات الكتابية التي يراوغ في عرضها والتعاطي معها، كائن إبداعي ماكر جدا، كانت الكتابة قدرا له، فصنع في معملها وبخاماتها وتقنياتها المتوفرة مجده.. وكفى أن يعترف بأنه استطاع أن يتحدى رهانات نفسه وأن يكسر عوائق حلمه ويدوس عليها، ليغدو روائياً.. ولكنه روائي لم يعتمد على الموهبة بشكل أساسي، فقد خانته الموهبة منذ البدايات (كما يرد في هذا العمل)، وإنما وصل إلى كل ما وصل إليه، معتمداً على الخبرة والدراية بعالم الرواية قراءة والكتابة عموماً كممارسة، وهو ما هيأ له اقتحام عوالمها وخوض غماراتها ومغامراتها، بل والتميز فيها ليغدو بذلك الإصرار الفعال والمثمر، ضمن أبرز الأسماء الروائية عالمياً.. وهو الحلم الذي حققه بجهوده الشخصية ومكتسباته المعرفية والفنية، وليس كما ذكرت بموهبته الأزلية ككاتب رواية خلق من أجلها، ليقول لنا في والبداية والنهاية أنه عاش ليحقق مشروعه وطارد غايته ليروي، حلم الروائي وأخيرا.. وبالعودة إلى العنوان ومن هذا المنطلق نستطيع أن نتماشى ونتسايق مع عبارة (عشت لأروي) بصيغتين متعارضتين وطريقتين مختلفتين تماماً إذا شئنا، فنتساءل حول هذا العنوان: ماذا يعني ماركيز..؟! هل يعني أنه عاش تلك الحياة وقضاها كاملة وهو يروي (أي عاش روائياً) أم عاشها ليحقق حلمه بأن يكون روائياً..؟ وبالنظر لأحداث وتفاصيل هذه السيرة، بالنسبة لي شخصيا، فقد بدا في اعتقادي ومقروئي أن الاحتمال الثاني هو ما يكاد ينطبق عليه.