لعلَّ من شاهد فيلم المُتسول وهو يحكي قصة ذلك الريفي الذي سافر إلى المدينة للعمل، ثم يتحوَّل إلى مُتسول مُحترف بعد أن يقع بيد عِصابة تَحترف هذه المهنة سَيُدرك أن ما وَرَد من أحداث في ذلك الفيلم قد جسّدت الواقع الرّاهن بِتفاصيلِه، هذه الظاهرة (التسول) التي انتشرت في الآونة الأخيرة بشكل لافت تُؤكد أن من امتهنوا هذه العادة ليسوا مجموعة أفراد يطلبون مَدْ يد العون من المُجتمع لغرض الحاجة الملحة وحسب، بل إنّها شَبكات وعِصابات مُنظّمة تَعمل وفْق نظام مُتسلسل بمهام محدّدة لكل عضو ينتمي إليها، وفي أماكن مَدروسة بِعناية وبأساليب نفسيّة تُدرَّس باحترافية لاستدرار عطْف المُجتمع وجني الكثير من الأموال !! الواقع والأرقام أثْبتت ذلك، وبِصرْف النّظر عن شريحة هي بالفعل مُحتاجة للمساعدَة سيّما في ظِل ما خلَّفته آلة العُدوان من أضْرار نَتَجَ عنها في بعض الأحيان فُقدان رب الأسرة، أو عاهات أُنْتِجت بِفعل الصّواريخ والقنابل التي حوّلت البعض إلى عالة نتيجة بتْر أحد أطرافه، أو تعرّضه إلى مَرَض يجْعله غير قادر على الإنتاج والعمل، أو بفعل خسارة البعض رأس مالِهِ وكُل ما يَملك نتيجة الحالة الاقتصادية وما تعرَّض له البَلَد من عُدوان شرِس وحِصار جائر، هذه الشَّريحة هي من تّستحق رعايتِها وإعانتها من قبل الدولة والمجتمع، وإعادة تأهيلها نفسياً ومَعنوياً ومادياً في سبيل إعادتها إلى ما كانت عليه كعناصر مُنتجه لا تُشكِّل عِبءاً على الدولة أو المُجتمع، والإشكال هنا قد لا يقع على عاتق هذه الشَّريحة التي لا تجِد مانِعاً من العَمَل والإنتاج، إنما يَقَع على عاتق تِلك العِصابات والشّبكات التي اسْتمرأَت مُمارسة هذِهِ العادة القَبيحة، وجَعَلت منها مِهنة تُدُرْ عليها الكَثير من الأموال في الوقت الذي لا توجد لديها أي موانع جسدية أو صحيّة تَحول بينها وبين العَمل، وهذا بحد ذاته يُعَد إشْكالاً كَبيراً لهُ آثار سلبية على البَلد من الناحية الاقتصادية كوْن هذه الشّريحة لا تُقدِّم أي انتاج، وفي الوقت ذاتِهِ تُشجِّع الكثير من عناصر المُجتمع للانخراط في ذلك النّشاط، لأنها ترى أن ما سَتحصُل عليه من عوائِد التسوُّل أسْهل وأكْبر بكثير من ما سَتحصُل عليه بواسطة الجُهد الذهني أو العضلي حتى وإن كان على حساب كرامتها، وللأسف أن ذلك شجّع الكَثيرين من ضُعفاء النُّفوس للاتجاه إلى هذه الحيلة وصَنَع منهم عالات على المُجتمع تسبَّبت بأضْرار خُطيرة على الاقتصاد الوطني وعلى الناتج القومي المحلي .
قدْ يظُن البَعض أنّنا نُبالغ بهكذا طرْح وأن هذه الظاهرة قد لا تَستحق كُل هذا الحديث، أو أنّها لا زالَت في حُدودها الطَّبيعية، لكن الأرقام تُؤكد أنّها في المُستقبل القَريب ستَتَحوَّل إلى عُشْب ضار سَيدْفع المُجتمع والدُّولة أضعافاً مُضاعفة لمُعالجته، والبَحْث عن حلول لاستئصاله، إن لم يتم الحَدْ من تكاثُرِه بأسْرع وقت مُمكن قبلَ أن يسبق السيف العذل، فما يمكن أن توجد له حُلول اليوم بإجراءات عمليَّة وعلميِّة تَحُد من انتشارِهِ قدْ يصْعب حله مستقبلاً، لذلك على الحكومة والمجتمع المدني ألا يقفا موقفْ المُتفرِّج إزاءَ هذه الظّاهرة الخَطيرة التي بدأَت تتَّسِع رُويداً رويدا، وعليهما مُكافحتِها بِشتّى الطُرُق والوسائل، وعلى الجهات المَسؤولة مُراجعة وتَحديث القوانين التي تَحد من انتشار هذه الظّاهرة، وتَفعيل عمل الهيئات المسؤولة عن مُكافحة التسوُّل للوُصول إلى نَتائج مَلْموسة حقيقيِّة تَتَطابق مع الواقع بعيداً عن الحُلول التّرقيعية التي تُرحِّل المشكلة دون أن تُحلها، وخيْر الطُّرق هي مُعالجة جُذور هذه المُشكلة عن طَريق إعادة تأْهيل هذِه الشَّريحة بِما يَجْعلها قادِرة على الإنْتاج وإدماجِها في سوق العَمل، والتوجُّه الوطني نَحْو المَشاريع القَوْمية العِمْلاقة التي يُمكن أنْ تَسْتوعِب أَعداداً كَبيرة مِنها بِحيْث يَستفيد الاقتصاد الوطني من طاقاتِها، وكذلك نَشْر الوَعي المجتمعي بِمخاطِر هذه الظّاهرة على البَلَد من نواحي عدّة لا سيّما النّاحية الاقتصادية، والتأكيد على رسالة ديننا الحَنيف الذي حثّنا على العَمل مصداقاُ لقوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) صدق الله العظيم، واقتداءً بِقول نبيِّنا الكريم عليهِ وعلى آلهِ أفضل الصّلاة والتّسليم (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) صدق رسول الله، وهذا هو جَوهر الدّين والغاية التي خَلق الله الإنسان من أجلها وهي العمل وعمارة الأرض، كوْن الله عز وجل مَيِّزهُ عن بقيِّة المَخلوقات بالعَقل .
التسوُّل ظاهرة سِلبيَّة، ومَرَض اجتماعي خَطير يَجْرف مَعَهُ جُزْءاً كَبيراً من قُدُرات مَهدورة كانَ بالإمكانْ تَأْهيلها والاستفادة مِن طاقاتِها في مَجالات عِدّة لا سِيما الجانِبْ الزّراعي في ظِل تَوجُّه البَلد اليوم للزّراعة والإنْتاج لتَحْقيق الاكتفاء الذّاتي، فَمشْروع قَومي واحِدْ في المجال الزِّراعي أو الحَيواني أو السّمكي كَفيل باستيعاب آلاف مِنْ شَباب وشابات لا توجد لديهم أي علّة تُعيقهم عن العمل شَريطة تأهيلهم وتَوعيتهم وإدماجهم في سوق العمل بَعْد تطبيق سيادة القانون عليهم، هنا سنَضْرب عصفورين بِحجر واحد بالتخلص من هذه المُشكلة ثم بِتحويلها إلى فائدة، وليْسَ أجْمل من مُجتمع يَعمل ويُنتجْ ويَأكل من عرق جَبينه بعيداً عن مَدْ يد العوْن للآخرين، وشوارِع و تقاطُعات خالية من تَجمُّعات المُتسوِّلين الذين يَعكسون مَنْظراً غير حضاري يُسيء إلى البلد وسُمْعتِه. .
*رئيس الجمعية اليمنية لحماية وتشجيع الإنتاج المحلي.