لا أدري إلى متى يبقى الرابط بين الحياة السياسية والموت في هذا البلد العزيز (لبنان) وكل من له به شبَه ينذر بخطر تحكم تجار السياسة والدين بمصير اللبنانيين باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحويل شعار العيش المشترك إلى موت مشترك وبقاء مقولة: ( قوة لبنان في ضعفه ) سيفٌ مسلط على رقاب من ينشد العيش عزيزاً كريماً في لبنان وكل بلد يحكمه تقاسم السلطة على أساس طائفي أو حزبي !!، هذه المقولة الأعجب في تأريخ السياسة والفلسفة والمنطق والدين والأخلاق يحاول بها أصحابها تضليل الشعب اللبناني والتشكيك في أهمية إعداد القوة بل والترويج للضعف كمصدر للقوة ليس بمعنى التعايش بين الأضداد :(القوة والضعف ، الخير والشر) وإنما بمعنى استسلام القوي للضعيف وإسقاط حق المقاومة من قاموس الحياة السياسية والاجتماعية.
ومعلوم أن راعي الترويج لهذه الأكذوبة هو راعي وموجه تمويل الطائفية السياسية، وهو من يشكك مباشرة وعن طريق وكلائه في جدوى المقاومة التي حققت ما لم تحققه الجيوش العربية مجتمعة المأسورة بالانتهازية السياسية منذ زُرع الكيان الصهيوني وبالمقاومة امتزج الجَمال بالشموخ.
وتعتمد صناعة الطائفية أو التطييف السياسي في أي بلد على الاستعداد الذاتي أولا ثم العامل الخارجي وبقدر تخلف المجتمعات ومستوى انحطاطها الثقافي تكبر وتصغر قابليتها للتعصب الذي ينتج الصراع ، ومن يقرأ التاريخ بعناية يجد أن أكثر الدول والدويلات والتكوينات قابلية لانتشار وباء الطائفية هي تلك التي احتلها وأدارها المستعمر البريطاني والفرنسي وأعاد تقسيمها وتقاسمها بناءً على ما عرف بمعاهدة (سايكس بيكو) 1916 المعبرة عن مستوى المهانة التي وصلت إليها الدول والدويلات التي قُسِّمت (تركة الرجل المريض ) أو الدولة العثمانية والتي حَكَمَت باسم الإسلام أغلب بلدان العالمين العربي والإسلامي وأجزاء من أوروبا وآسيا وأفريقيا من 1281 إلى 1924 لتتحول إلى غنيمة للدولتين ، وسبب انهيارها بتلك البساطة إلى جانب الفساد قيامها على دعوى الحق الإلهي واعتمادها على الغلبة بالسيف عن طريق الغزو والفتح ، وتوريث الحكم وفي سبيل ذلك ارتكبت أبشع الجرائم ، ومعلوم أن الإسلام إنما يقوم ويزدهر بالحرص على الحرية والعدالة ، وقد ترك للناس حق تنظيم حياتهم ومعاملاتهم بما يحقق مصالحهم المشروعة التي تتطور بتطور الحياة ، ولم يقيدهم بنظرية سياسية متفق عليها لكن الطامعين والطامحين في السلطة حاولوا ويحاولون تحويل نعمة إبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً إلى نقمة لينشغل المسلمون بالانقسامات والحروب التي ما تكاد تتوقف في مرحلة أو دولة حتى تنشب في أخرى.
وبذور محنة الطائفية والصراع على السلطة بدأت باكراً أي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ويصعب إن لم يستحيل الفصل بين العوامل الداخلية والخارجية المهيئة لصناعة الطائفية السياسية اليوم واستخدامها في تدمير الشعوب ، ولكنها كانت ولا تزال أحدُّ أنياب انتقال المستعمر الغربي من الاستعمار المباشر باستخدام القوة إلى غير المباشر باستخدام الوكلاء وأمراء الطوائف من تجار السياسة والحروب ، ولعل في قصة لبنان مع الطائفية منذ بدأت بصورة ممنهجة أوضح الأمثلة عن تأثيرها على الحياة السياسية بصدور الدستور العثماني أو النظام الأساسي ونظام الملل في 1876،ويرى بعض الباحثين أن صدوره كان بهدف منع التدخل الغربي وتكثيف فرنسا وبريطانيا ضغوطهما على الإمبراطورية العثمانية الآفلة بذريعة الحفاظ على حقوق الأقليات ليتبين في ما بعد أن قرار عصبة الأمم عام 1920 بوضع لبنان تحت الوصاية قد استغل لتكريس التقسيم الطائفي للسلطة ضمن بدايات الاستخدام غير المشروع للشرعية الدولية لتصبح دعوى المساس بحقوق الطوائف مبرراً للتدخل المعيق لقيام دولة لبنانية مستقلة مبنية على أسس وطنية علمية تحقق العدالة.
وقد كانت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975م التي استمرت إلى العام 1989م من ثمار الشحن الطائفي ، وبعد تحقيق أهدافها في تدمير لبنان سارع صناع الإرهاب بتوجيه ممول حماية بذوره ( السعودية ) باستضافة ما أسمي (اجتماع الطائف) بين أطراف الفتنة من أحزاب وطوائف مُمَوَّلة والهدف المعلن هو إنقاذ لبنان أما غير المعلن فهو إنقاذ الطائفية ، وإسكات وتهميش كل صوت يدعو لاستبدالها بنظام وطني ليبقى السباق على السلطة مشكلة دائمة ، فهل كان اختيار مدينة الطائف محض صدفة ومن سخرية القدر أم أن صناع الطائفية هم من يسخرون من العقل العربي ومن الزعماء الذين ينتمون إلى العروبة شكلاً ويضيعونها مضموناً ؟؟!!؛
وفي ظل كل هذه القتامة ينبغي الإشارة إلى أن حزب الله منذ تكوينه ومع كونه حزبا دينيا كان الأحرص بين الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية على الدعوة المستمرة للتخلص من محنة المحاصصة الطائفية وتبين عزوفه عن التشبث بالسلطة و تنازله عن مقاعد نيابية وحكومية من حصته الدستورية لحلفائه من المستقلين والأحزاب الأخرى ، ويرجع ذلك إلى ما تتمتع به قيادة الحزب من إحساس عال بالمسؤولية الوطنية والدينية والتاريخية وتغليب البعد الإنساني على البعد المذهبي ، وإدراكها بأن الطائفية السياسية أساس الفكر الإرهابي لأنها تستبدل معلوم المواطنة بمجهول ووهم الانتماء الطائفي والخلاصة أن دعوى امتلاك الحق الإلهي مصدر رئيس للكوارث والحروب في العالم الإسلامي ولا حياة لأي بلد تحكمه الطائفية السياسية.
(لا تكذبنَّ فإن فعلت فلا تقل * كذباً على ربُّ السماءِ تكسُّبَ
وإذا انتسبت فقلت إني واحدٌ * من خلقه فكفى بذاكَ تنسُّبَ
روحٌ إذا رحَلَت عن الجسدِ الذي * سَكَنَت به فمآله أن يرسُبَ)
(أبو العلاء المعري)