في رواية (في ممر الفئران) (الأسطورة والواقع)

عبدالوهاب سنين

هذه الرواية منبثقة من قصة سابقة للمؤلف د. أحمد خالد توفيق رحمه الله، والموسومة بـ(أسطورة ارض الظلام) تقع الرواية في 379صفحة، صادرة عن دار الكرمة 2016م.
الرواية مليئة بالغرائبية ، وفي هذه الرواية حاول الكاتب أن يأتي بلون جديد في معالجة القمع التي تعيشه الشعوب، واتكأ الكاتب على حسه الروائي مبتكراً فكرة الظلام.
الغلاف باللون الأسود وهو يوحي بالسوداوية المتلفعة بالأحداث المطروحة التي أفصحت عنها سطور الرواية، وظلت الظلمة بلونها القاتم، حيثُ الفزع والخوف من المستقبل المظلم.
وجعل شخوص روايته يعيشون واقعاً مريراً في وسط ظلام حالك، وعالم افتراضي طوباوي، وكان الظلام نتيجة لنيزك ارتطم بالأرض.
رمز الكاتب هنا للقمع التي تعيشه الشعوب العربية، وجعل الظلام رمزاً للمتنفذين بمن فيهم الطبقة البرجوازية والأرستقراطية، واتخذ ممر الفئران موطناً تعيش فيه تلك الشخصيات، وفي ذلك رمزية أيضاً، إذ الممر في عنوان الرواية يعبِّر عن الطريق الشاق لمن أراد الاستنارة ، أما الفئران فهي تلك الشخصيات التي أظهرت معاناة المجتمع، وليس لها إلا أن ترضى بما هو حاصل ولو كان قليلاً، وأراد الكاتب أن يأتي بلون جديد في تعريف وتعرية السطوة برمتها، وإظهار العديد من المجتمعات التي تعاني من دياجير الأحلاك المعتمة، وصور ذلك تصويراً ديستوبياً، والديستوبيا : هو ذلك العالم ذو الواقع المرير، وهو مجتمع خيالي فاسد ومخيف، وكأن ممر الفئران في هذه الرواية هو المكان الذي يعيش فيه البسطاء والمغلوبون على أمرهم، وجعله واقعاً معاشاً ، والديستوبيا هي النقيض لليوتوبيا إذ اليوتوبيا هي المكان الفاضل، أو بمعنى أدق المدينة الفاضلة كالتي يريدها أفلاطون، والكاتب لديه أيضاً رواية بعنوان (يوتوبيا) والرواية التي في متناول القراء شيقة للغاية كل ذلك بسرد متماسك فيه لغة حواريه رائعة، وإن كانت الحوارات قصيرة، واعتمد الكاتب على السارد العليم، إذ جلى العديد من الثقافات الفلسفية والشعرية، وحضرت قصائد عدة لشعراء عظماء، كقصيدة (الأرض الخراب) لإليوت، وقصائد لأبي القاسم الشابي ، وقصيدة نجوان فريد النثرية ومنها :
عندما كان النور صديقي .. لما كان بوسعي
أن أتمرد .. أن أحلم .. أن أعرف أكثر
لكن الغد المذعور يقابلني خلف الأشجار المتشابكة
وبالسر يهمس في أذني.
القداحة في غلاف الكتاب لم تكن اعتباطية، إذ كانت العين لدى الشرقاوي أحد أبطال الرواية، حيثُ كان يستخدمها من وقت لآخر، وفي مرة من المرات استخدمها في المتحف المصري، وفي ذلك رمزية البحث عن النور والنهوض بالحاضر، ولو كان ذلك البحث وسط آلاف من القرون البالية.
عاشت تلك الشخصيات واقعاً مؤلماً، بعد أن كان الضوء يكحل أبصارهم، ها هم اليوم في غيابت الجب لا يرون نوراً، وظلوا يعيشون كعميان جوزيه ساراماغو، رامي وزوجته فاتن وابنه ضياء، ماهر ونجوان، الشرقاوي ومها، ومن قبلهم الدكتور مصطفى، كل تلك الشخصيات جثمت عليها الظلمة المفتعلة، من أسطورة تدعى القومندان يعيش في برج في الهيمالايا يملك العدة والعتاد، والجند الذين لا يدعون البسطاء يتنفسون، حتى في الظلام، إذ كان جميع العالم يهابون القومندان، وفي تلك السراديب نرى تلك الشخصيات وهم يلجؤون إلى تعلم تحسس الأشياء والقراءة على طريقة برايل للعميان، فهؤلاء أصبحوا من جملة العميان، ولكن كل ذلك لا يعنى العمى البصري، بل يجب على تلك الشعوب المقموعة أن تعيش هكذا كما يراد لها لا كما تريد، وليس لأحد أن يطالب بالنور والاستنارة.

البناء السردي
كان البناء السردي للرواية متماسكاً، ولكن هناك بعض التجاوزات في ما يخص سيمياء الشخصيات ، إذ جعلها مبهمة لدى القارئ حيثُ لا علامة تميز تلك الشخصيات، كي يستطيع القارئ معرفة الشخصية معرفة سيميولوجية من أجل التفاعل معها، إذ من حق القارئ معرفة وصف الشخصية وتطورها وانفعالاتها التي تخلق رابطاً بينها وبين القارئ، إذ يقول فردناند سوسير في تعريفه للسيميولوجيا أو السيمياء: ( هي دراسة حياة العلامة داخل الحياة الاجتماعية فهي بذلك علم يساعدنا على فهم الوجود الانساني) .
والشخصية الروائية هي جزء من ذلك التعريف، بل هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأحداث، وما دامت كذلك فلا بد من وصف يجليها ويظهرها للقارئ، والغريب أن الكاتب وصف شخصية ثانوية هي شخصية الدكتور مصطفى وجعلها شخصية واضحة للقارئ، إذ وصفه بأنه قصير أصلع جاحظ العينين، ليس له أي معرفة بالتابو بل هو في ذلك الثلاثي ساذج، ومن الغريب بمكان أن يكون دكتور لا يعرف التابو الثلاثي الدين والجنس والسياسة، والغريب أن الكاتب جعله يراود فاتن ويقبلها مستغلاً حاجة طالبته إليه في التحصيل العلمي.
والذي يبدو من ذلك أن الكاتب أراد للقارئ أن يتوغل في تلك السطور، واستخراج صورة لكل شخصية من خلال الحوار والأحداث.
قسم الكاتب الرواية إلى قسمين أو بالأصح بين شخصيتين:
الأولى الشرقاوي الذي انتابه مرض فلم يجد أمامه سوى تناول أقراص منومة، وهذا كان في نظره حلا لهمومه والهروب من واقع اجتماعي متوتر.
والثانية رامي وأسرته عزة وعلياء، ومن ثم زوجته فاتن وابنه ضياء، وهذه الشخصية فيها غرائبية حيثُ شاهد رامي الدكتور مصطفى وهو يتحرش بفاتن، ثم نجد الكاتب في تكثيف متسارع يخلق رابطاً بين فاتن ورامي ويتزوجها، ولم نرى أي اشتغال على العامل النفسي في شخصية رامي، وهذا قد لا يهضم لو أسقطنا هذه الشخصية على العوامل النفسية لدى أي إنسان.
كان الكاتب بارعاً في اتخاذه الواقعية منهجاً يصل من خلاله إلى نقد سياسي واجتماعي، لذلك صور الكاتب الشخصيات بتلك الطريقة المبهمة، وأعني به الوصف كما أسلفت، واستطاع الكاتب أن يجعل القارئ يرى تلك الشخصيات بطريقة أخرى، وذلك من خلال الأفكار والمبادئ التي تسكن في نفوس تلك الشخوص، والتي يستطيع القارئ تمييزها من خلال سلوكياتها في تلك البيئة المظلمة.
الرواية توغلت في أجناس علمية وفلسفية وأدبية ، وقد أغرق الكاتب في الوصف العلمي ، وجعل الفلسفة طاغية في سطور روايته، والأمر الثالث هو تلك القصائد الشعرية الكثيفة، كل ذلك كاد أن يفقد الرواية توازنها وتصبح مجرد كتاباً في الفلسفة الاجتماعية المفعمة بالشاعرية، وربما كان التأثير الذي طرأ على الكاتب، هو كثرة انتاجه في الترجمة وخاصة الشعر.
والملفت في هذه الأجناس هو ذكر القات، حيثُ ذكر الكاتب ذلك في موضعين ص 194، وص 327 وبنفس الجملة، ومنهما على لسان ماهر أحد الشخصيات، وهو يتحدث إلى محبوبته نجوان قائلاً:
(الحب عاطفة تملك بدائية، أتضايق جداً ممن يلوكون الوهم كأنه القات)

الحبكة
كانت الحبكة غامضة وهذا هو ما يميز الحبكة، وإن كانت الرواية قد سُبقت بمثل هذه الحبكة إذ ليست بالحبكة المتفردة والجديدة، ولكن كما سبق هي مسبوقة وإن لم أبعد عن الصواب ففيها تمازج وبعض اقتباسات من رواية 1984 لجورج أورويل.
ولكن المثير في هذه الرواية هو حرفية إسقاط مسار الرواية على الواقع، والكاتب حين اختار هذه الحبكة في العالم المظلم، كان ذلك دافعاً لكثرة الوصف العلمي ، ومنها التعامل بتحسس الأشياء على طريقة برايل، ووصف العوينات التي كان يرى بها رجال الشرطة لأولئك البؤساء، الذين لا يستطيعون الرؤية بسبب الظلمة، وهذا إخبار عن تلك التكنلوجيا.
وكل ما يهمنا هو أن الحبكة أكثر ارتباطاً ببنائها، والشخصية الرئيسية لم تتحدد ملامحها وهو الشرقاوي إلا في نهاية الرواية، وهذا الغموض زاد الحبكة تجانساً مع مجريات الأحداث، وبذلك أجد الحبكة صورة بناء المجتمع تصويراً محمكماً، وإن كان ذلك التصوير فنتازياً أو فيه قبس من الطوباوية، ولكن الواقع هو المراد في هذه الحبكة الموحية بتصوير الإنسان المهدور في المجتمع، والمستلب من تلك الايدلوجيا القمعية.

المكان
اتخذ الكاتب مكاناً افتراضياً، وجعل الأحداث تدور في ذلك المكان، وفيه تعيش شخصيات الرواية وفيه مسرح لتلك الشخصيات، وهو من الأماكن المغلقة ذلك السرداب التي عاشت فيه تلك الشخصيات، والمكان في الرواية فيه رمزية حرفية من الكاتب، حيثُ اتخذ مكاناً بناه الكاتب في خياله، وجعله سرداباً مظلماً دستوبياً يعج بالصراع بين تلك الشخصيات.

خاتمة الرواية
الكاتب اختار نهاية غير متوقعة وهذه حرفية رائعة، أن القارئ يتوقع حدثاً كان ينتظر حدوثه، ولكن الكاتب أتى بحدث خلاف توقعات القارئ، حيثُ كان الرفاق في ممر الفئران، حين استطاعوا الخروج من تلك الظلمة ، أرادوا الخلاص من القومندان ويفاجأ الجميع بأن القومندان عبارة عن وهم، ويفاجئنا الكاتب أيضاً بانضمام الشرقاوي مع النورانيين، والتخلي عن رفقاء الظلمة والتبليغ عن مخططاتهم، وأصبح الشرقاوي هو المختار والمنقذ، وأولئك الثوار لقوا حتفهم بسلخ جلودهم وإبادتهم إبادة من لا يرحم.
الرواية شيقة للغاية وأدعو كل من له اهتمام بالرواية لقراءتها.

قد يعجبك ايضا