في عام 2014، أثناء احتدام المعارك قبل سقوط عمران بيد أنصار الله، نشطت الدبلوماسية العربية والدولية لمعرفة هل ستسقط عمران بيد أنصار الله؟ وماذا بعد سقوط عمران؟
وكان نشاط تلك الدول ذا مسارين: مسار للقاء بالسياسيين أصحاب القرار؛ والمسار الآخر مع الناشطين والشخصيات الاجتماعية. وقد صادف أني كنت ممن التقى ببعض المعنيين بالملف اليمني في الإدارة الأمريكية حينها، أخبرتهم أن عمران ستسقط وأن بعد عمران ببساطة صنعاء. بدا كلامي صادماً لهم وبلا أساس، وفقاً لما كان ينقل لهم من الأطراف السياسية الفاعلة وكذا من الناشطين حينها. بينما لم أكن أبني كلامي على آمال أو أوهام؛ بل على حيثيات واضحة كان جميع الفرقاء السياسيين في الوطن يفرون من القراءة الموضوعية لوقائعها إلى اصطناع أكاذيب وأوهام ما لبثوا هم أنفسهم أن صدقوها وجعلوا منها مسلمات ينقلونها إلى الجهات الخارجية.
قبل تلك المعارك بأشهر، التقيت في قاهرة المعز عاصمة مصر العربية مجموعة من مشائخ ما يسمى طوق صنعاء. وكان الجامع بينهم هو بغض الحوثي الذي امتد إلى كل الهاشميين، مما جعلني محور انفعالهم باعتبار الأصول والنسب (السلالة). حينها حاولت فهم ما يدور بحكم أن هؤلاء المشائخ هم عليّة القوم وهم من يقرر مصير صنعاء، أقله وفق ما يخبرنا به التاريخ القديم والمعاصر. وسرعان ما جاء الرد من أحد الشيوخ الحاضرين حين سألت: طيب لماذا لا تحاربونهم؟ فكان رده أن القبيلة تستطيع مواجهة أي عدو “خارجي” لا ينتمي للقبيلة؛ لكن أصعب شيء مواجهة “أبنائنا”، أي أبناء القبيلة الذين التحقوا بالحركة الفتية (أنصار الله) عن قناعة واعتقاد. وأردف قائلاً: أن الحوثي أصبح قادراً على أن يحارب أي قبيلة بأبنائها وأنه بذلك أضعف دور مشائخ طوق صنعاء؛ بل شمال الشمال، وأصبح الطريق معبداً له للذهاب إلى أي مكان والمسألة مسألة وقت.
في نفس تلك الفترة كان هناك جدل الأقاليم مشتعلاً في الوسط السياسي وفي الشارع، وكانت الفكرة الأساسية من مشروع الأقاليم الستة هي إعادة تقاسم السلطة بين المتقاسمين السابقين لها وتم اختيار المحافظات وفقاً لذلك المعيار. فقد كان ترتيب المناطق والحدود يؤدي إلى أن يكون بعض الأقاليم للمؤتمر وشركائه حصرياً وأخرى للإصلاح ومشتركه حصرياً. إلا أن طرفاً صاعداً كان هناك، لا يمكن تجاهله؛ وهم أنصار الله الذين ابتكر لهم العقل السياسي للدولة العميقة، أو العقيمة، ما يسمى بإقليم آزال ليكون سجناً كبيراً وحجراً سياسياً لتلك الجماعة. وكان ذلك المشروع مبنياً على فرضية أنهم سيقبلون بذلك وأن هذا يفوق رغبتهم ويفوق قدراتهم وإمكاناتهم ومشروعهم. وتم التسويق لذلك المشروع وتلك الكذبة حتى صدقها مروجوها رغم الرفض التام والواضح لأنصار الله. بل ذهب صناع تلك الفكرة أو الكذبة لإقناع العالم بأن ذلك هو الحل؛ وأن أنصار الله “وقعوا” عليها ومقتنعون بها، وأن هذا أكثر من أمانيهم ومشاريعهم! وسقطت عمران…
بعد أشهر قليلة من سقوط عمران، سقطت صنعاء وسط ذهول الجميع.
وكان منبع الذهول هو أنهم صدقوا كذبهم أو مشاريعهم ومبادراتهم، وأنها مقنعة للآخر، وأنها “الحل”، حتى والحوثي يخبرهم بالفم المليان أن ذلك لن يكون.
بعد سقوط صنعاء شاعت في الوسط السياسي كذبة جديدة مفادها أن مطلب “الحوثي”، الذي لم يطلبه أبداً، هو ميناء ميدي، وأنه في حال ضم ذلك الميناء إلى إقليم آزال ستنتهي الأزمة وسيعود إلى صعدة وأن موضوع الأقاليم هو الحل المقنع لكل الأطراف السياسية؛ بل أن حجم المبالغة في الكذب بلغ حد إشاعة أن ذلك مطلب شعبي ستحميه الجماهير!
في تلك الفترة زرت الرئيس هادي أثناء إقامته الجبرية في منزله بمعية مستشاره الأستاذ ياسين مكاوي. وأثناء الحديث قال هادي أن كل الشعب يدعمه وأنه يستطيع حل هذه الأزمة بخمس دقائق إذا وافق أن يمنح إقليم آزال ميناء ميدي!!
كان كلامه صادماً لي إلى درجة جعلتني أذكره أنه في الإقامة الجبرية وأن أنصار الله هم من يحكمون صنعاء وميدي والحديدة تحت أيديهم؛ بل أن الجماهير التي يعتقد أنها تدعمه يخرجون بمئات الآلاف في صنعاء نفسها دعماً للحوثي وأنه لم تخرج حتى مظاهرة من خمسة أفراد في مسقط رأسه “الوضيع” للمطالبة ليس بالأقاليم وإنما حتى بإطلاقه من إقامته الجبرية. وكان في الناحية المقابلة الأستاذ ياسين مكاوي يغمز لي بعينيه الاثنتين وبفمه ويؤشر بيديه حتى أصمت. وفجأة تدخل ليؤكد كذبة أن الجماهير مع مشروع الأقاليم وأن ميناء ميدي هو الحل. وبدا لي أن الرئيس ومستشاره مصدقان كذبتهما تلك حد الثمالة، بل حد الانتحار الفعلي وليس السياسي فقط.
بعد هروب الرئيس هادي إلى عدن، وأثناء اندلاع المعارك في معسكر الأمن المركزي فيها، بات واضحاً أن الجيش واللجان سوف يهاجمون مقر هادي هناك، وأنه لا يستطيع حماية عدن بل لا يستطيع حتى حماية نفسه. وقد اتصلت بأحد المقربين منه لعل وعسى نستطيع عمل شيء يحقن الدماء، فصُدِمت بالرد الذي كان مضمونه أن الرئيس كان يمكن أن يتنازل عن ميدي في السابق؛ أما اليوم فلن يقبل بأقل من دخول صعدة؟!!
التاريخ يتكرر، والتكرار يعلم “الشطار”، كما يقال؛ إلا أن ما نشاهده بأم أعيننا اليوم يقول العكس. وفي حين يكرر العالم أسئلة عمران في مارب، وماذا بعد مارب؟ تأتي المبادرة السعودية التي تتحدث عن المرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية + مخرجات الحوار + القرار 2216) لتعيدنا إلى مربع “ميناء ميدي” وإقليم آزال؟!
السعودية (وهي الشاكي اليومي للمجتمع الدولي جراء القصف الصاروخي لعاصمتها وأهم مواردها ومصالحها، وهي من يستدعي العالم لحمايتها) تسير بنفس نهج “الشرعية” منذ ماقبل دخول عمران في مناشدة العالم التدخل لحمايتها وتسوق مشاريع ومبادرات بهنجمة الضعيف وبمنطق “اكذب ثم اكذب حتى تصدق نفسك” وتمضي بجدية مدهشة وصادمة لإقناع العالم أن مبادرتها هي الحل المقبول للجميع، ودليلها في ذلك تأييد “الشرعية” من فنادق الرياض لها!
ما لم تدركه السعودية في مبادرتها -التي هي مجرد تكرار منذ ما قبل عمران، وإن اختلفت أسماء المناطق التي في المبادرة أو التي تسقط في يد أنصار الله منذ حصار عمران في 2014 إلى حصار مارب اليوم، وما بينهما- أن الواقع قد تغير جذرياً وبشكل شامل، وأن سؤال ماذا بعد مارب؟ قد يصبح غداً ماذا بعد جيزان؟ على سبيل المثال. فالسعودية التي تهرب بأوهامها من الحقيقة والواقع عبر تلك المبادرة، لم تقدم أي جزرة؛ كما أنها لم تعد تملك العصا!
وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تستوعبها المملكة اليوم أو، بثمن أغلى، غدا.
Prev Post
Next Post