قبل فترة زمنية تزيد على ثمانية عشر عاما سطع نور المسيرة القرآنية من جبال مران الشامخة في محافظة صعدة العريقة ليضيء حنادس الظلام الحالك ويهتك ستار عصر الظلمات المتأمرك, حيث تفاجأ الجميع بظهور هذه المسيرة التنويرية التي وضع مداميكها وأقام صروحها علم من أعلام أهل البيت النبوي الطاهر في زمن التيه والضياع والخنوع والاستسلام, فقدَّم روحه إلى جانب الكثير من أصحابه المخلصين وأقاربه المؤمنين في سبيل الله ونصرة للمستضعفين حتى رسموا بدمائهم الزكية مسار الأمة نحو الحرية والاستقلال والكرامة, فكانت روح ذلك العلم وهو الشهيد القائد السيد حسين بن بدر الدين الحوثي والذين آمنوا معه، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ونالوا وسام الشهادة، فكانوا جسور هذه الحرية وهذا الاستقلال وهذه الكرامة وهذا الصمود والعنفوان وهذا الشعب الأبي المتماسك والمتلاحم في ميادين الشرف والجهاد والاستبسال بذلوا أرواحهم سلام الله عليهم ثمنا لما نحن فيه من العزة والشموخ.
نعم لقد ظهر نجم آل محمد صلى الله عليه وعليهم بظهور الشهيد القائد حسين بدر الدين- سلام الله عليه- فانقسمت العواطف والمواقف بين مؤيد ومعارض ومتحير يتابع مجريات الأحداث وينتظر العواقب, وبعد مضي كل هذه الفترة الزمنية من عمر هذا المشروع النهضوي الرائد اتضحت للجميع -عدا من في قلوبهم مرض وعلى أبصارهم غشاوة – جدوائية التحرك المبكر للشهيد القائد -رضوان الله عليه- وصوابية نظرته القرآنية في تشخيص الواقع فأبناء المسيرة القرآنية اليوم وعلى رأسهم السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي- حفظه الله تعالى ونصره- هم الحصن الحصين والسياج الواقي للشعب اليمني العزيز الثائر الذي يتعرض لعدوان عسكري غاشم وحصار اقتصادي ظالم من قبل التحالف الصهيو أمريكي وعملائه وخدامه من ملوك الفساد وأمراء الظلم من عرب أمريكا واسرائيل المطبعين الخائنين والخانعين.
فهيا بنا لنعود قليلا إلى ظروف مرحلة التكوين ورجالها لنقرأ بعض ما يكون من حياة السابقين العظماء لنستلهم من قبسات سيرتهم الإيمانية الصادقة ومسيرتهم القرآنية المباركة ما ينوِّر البصائر ويوقظ الضمائر كي نعمل جاهدين على مواصلة المشوار حتى النصر سيما ونحن نرى بشائره تلوح في الأفق كل يوم، وتنكشف الحقائق جلية مع كل صباح لتؤكد صحة ما كان يحذر منه ويقوله الشهيد القائد من دسائس ومؤامرات الأعداء تجاه يمن الإيمان والحكمة بشكل خاص وتجاه الأمة الإسلامية عامة. ولعل في شعر المجاهدين الأوائل فرسان البيان وأبطال الميدان ما يعبر عن أحداث وأشخاص ومؤامرات تلك المرحلة المفصلية أبلغ تعبير، ما يجعل القارئ الكريم مندهشا منبهرا من رؤية أولئك العظماء لواقعهم ومستقبلهم وكيف استطاعوا أن يوظفوا قرائحهم الشعرية لتشعل مصابيح البصيرة وتفجر براكين الثورة في وقت انشغل فيه الكثير من شعراء الأمة وأدبائها الكبار بتطريز معلقاتهم الغزلية الماجنة ورواياتهم الرومانسية الساذجة ولم يلتفتوا إلى الكتابة الفنية المؤثرة والمعبرة عن هموم وآلام الأمة الإسلامية المغلوبة والشعوب العربية المنكوبة.
وشاعرنا الذي سنتحدث- بصورة موجزة -عن حياته العلمية والأدبية ومسيرته الإيمانية والجهادية، هو الشاعر والكاتب المثقف بثقافة القرآن وأعلام الهدى، الشهيد محمد أحمد ملفي الرزامي – رحمه الله- صوت صدح بالحق في زمن غيبت فيه الحقيقة ووضعت العقول تحت مقصلة الزيف وسيف شهر في وجه الباطل في مرحلة استحكمت فيها قبضة الاستكبار وعمت القلوب حالة الهزيمة والرعب فإلى هناك.. إلى رياضه الغناء، وبساتينه الوارفة، ، لنقتطف ما أمكن من ثمارها وزهورها، من حياته الحافلة:
نشأ شاعرنا الشهيد على العز والإباء مذ نعومة أظافره وتربى على حب العدل وكراهية الظلم, ولما بلغ مرحلة النضج والكمال واتسعت مدراكه واكتملت عناصر عبقريته ونبوغه نهض بمسؤوليته الدينية ثائرا في وجه الطغيان ومناصرا لقادة الحق والرشاد وأعلام الهدى والإيمان، فهو شاعر وأديب وكاتب ومفكر إسلامي من الطراز الأول طبع بصماته في صفحات الخلود.
كان حريصا على جمع قصائده مكتوبة على الأوراق.. وبعد الحرب الأولى التي شنها النظام السابق العميل الخائن على الشهيد القائد -رضوان الله عليه- مستهدفا وأد مشروعه النهضوي الخالد ضاعت قصائد الشاعر العلامة الشهيد وقد استطاع الأستاذ المحقق الأديب ضيف الله حسين الدريب الحصول على بعض الأوراق-والتي كان لابن أخي الشهيد دور مهم في الوصول إلى هذه الدرر الجهادية لتكون في متناول المحقق الدريب, وعلى ضوء هذه المادة الأدبية الفريدة كتب المحقق الفاضل دراسة تحليلية لشخصية شاعرنا المجاهد الشهيد وظروف النشأة الأدبية التي ساهمت في صياغة شاعريته الثورية الرافضة للعبودية والذل والمناهضة للعنجهية والظلم وعرض العديد من قصائده التي تعبَّر عن شموخه وكبريائه واستشعاره للمسؤولية الرسالية تجاه دينه ووطنه .
وهذه سطور ذهبية تقدم للقارئ الكريم البطاقة الشخصية لهذه القامة الأدبية الاستثنائية:
الاسم : محمد بن أحمد بن جابر ملفي الرزامي الوادعي الهمداني.
اللقب :أبو شيماء.
محل الميلاد :نشور.
تاريخ الميلاد :1973م.
كنيته :أبو ثائر.
كانت بداياته الدراسية في منطقة نشور بمدرسة الإمام علي -عليه السلام- ثم أكمل دراسته الثانوية في مدينة صعدة ليلتحق بعدها للدراسة في معهد المعلمين وتخرج عام 1993 / 1994م دبلوم معلمين وبعدها واصل دراسته الجامعية وحصل على بكالوريوس لغة عربية من جامعة صعدة واستقر عمله في التربية حتى استشهاده, ولم يكتف بالدراسة في المدارس الحكومية النظامية بل أقبل على طلب العلوم الشرعية يغترف من مناهل الهدى وينابيع الحكمة، ففي منطقة الحمزات درس العلوم الدينية على يد السيد العلامة /يحيى بن عبدالله راوية وكذلك السيد العلامة /يحيى بن حسين الحشحوش, وعيَّن آنذاك مدرسا رساليا و مسؤولاً ثقافياً بمركز الأنوار المحمدية بمديرية نشور.
كان له حضوره الزاهي وموقعه الراقي فهو الفارس المغوار الذي لايشق له غبار والمربي الفاضل الذي يترك أثره النافع حيثما حل وارتحل, والأديب الشاعر البليغ والخطيب المفوه الفصيح فحيثما حل ترك بصماته بطلاقة لسانه وبهاء طلته ورونق بسمته، فهو ذلك الليث الهصور على الطغاة والمتجبرين والأب الحنون للبسطاء والمستضعفين.
ولما أطلق الشهيد القائد – رضوان الله عليه – مشروعه القرآني وصدع بصرخته في وجه المستكبرين كان شهيدنا من أوائل المستجيبين لداعي الحق والهدى مسخِّرا كل إمكاناته ومستنفرا جميع طاقاته في سبيل نصرة المشروع القرآني ومفاهيمه الإيمانية العظيمة.
ولأنه المتحدث اللبق فقد كان الناطق بلسان الشهيد القائد في عدة مواطن بتكليف مباشر من قبل الشهيد القائد وفي ذلك ما يعبِّر عن مستوى ثقة القيادة القرآنية الرشيدة بكفاءة وعبقرية هذه القامة الإيمانية الفريدة .. نعم لم تقف المواقف الجهادية لشاعرنا الشهيد عند حد ثورة الحرف وجهاد الكلمة، بل حمل السيف والقلم معا وترجم ملاحمه البيانية إلى مواقف ميدانية لا تزال خالدة خلود قصائده التي كتبها بدمه الطاهر ومداده الثائر، فهو من الأبطال الميامين الذين سطروا أروع ملاحم التضحية والفداء في الحرب الأولى.
كان الشهيد الشاعر حريصاً على تدوين كل ما يكتبه في جميع المناسبات، فلما بدأ الشهيد القائد مشروعه القرآني هاجر إليه تاركاً كل موروثاته خلفه في بيته بمنطقة الرزامات عند زوجته المجاهدة الوفية التي حرصت على جمع كل ما لديه من الموروثات الشعرية والقصص المسرحية ومعاملاته وشهائده ووثائقه الهامة وقامت بنقلها إلى بيت أبيها قبل بداية الحرب بأيام، فلولاها لتم إحراق كل ما كتبه الشهيد لأن السلطة الظالمة أحرقت غرفة الشهيد بما تحتويه أثناء اقتحام قرية الرزامات في الحرب الثانية، وكان الشهيد قد أخذ معه أحد الدفاتر الشعرية ليكتب كل جديد فيه بمنطقة مران حيث مقر هجرته عند الشهيد القائد أثناء ما كان السيد يحاضر الناس ويعلمهم هدى الله، وبالتالي فقد حرص الشهيد على أن يستوعب كل جديد يسمعه من السيد وهو يقوم بالإشراف على حراسته.
وكان يحاول ان يترجم ما يسمعه إلى قوالب شعرية مختصرة لتوعية الجماهير بالطريقة الزوملية.
وكان سريع المبادرة فلا يكاد السيد ينتهي من إلقاء أية محاضرة إلا وقد صاغ زاملا عليها وبادر لنشره في أوساط الحاضرين، وعلى سبيل المثال ما صاغه شعريا وحفظه الناس ما كتبه عن الحواريين بعد أن تحدث السيد عن الحواريين الذين استجابوا لعيسى – عليه السلام – حيث قام الشهيد بعد نهاية المحاضرة بكتابة هذا الزامل:
يا سيدي مثل الحواريين نعلي الصوت
إذ قال عيسى منهم أنصاري إلى الرحمن؟
ها نحن أنصارك برفع شعار حتى الموت
في صف واحد رص بانرتص كالبنيان.
ومثل هذه الزوامل التي كتبت في مران قبل الحرب وأثناء الحرب وتعرضت للضياع حرص على جمعها وتتبعها بعض من رفقاء دربه وعلى رأسهم الأخ عيسى جابر – ابن شقيق الشهيد- وكذلك الأخ ضيف الله الدريب الذي قام بتحقيق وتنقيح ديوان الشهيد الذي يحمل عنوان (ولاء الصادقين) حتى أخرجه إلى النور بصورته النهائية المتداولة في أيدي الناس فجزاه الله خيراً وكتب الله أجره وأجر كل من حرص على جمع موروثات هذا الشهيد الشاعر الأديب.
وكان من مواقفه المشهودة والتي رواها الشاعر المعاصر والصديق الوفي للشهيد الشاعر المجاهد /هادي حسين الرزامي، حيث قال في مجمل حديثه :
«عندما أرسل علي عبدالله صالح سيدي يحيى بدر الدين ومجموعة معه إلى سيدي حسين قبل الحرب الأولى بأسابيع وقال لهم «قولوا لحسين بدر الدين يجاوب الرئيس ويحضر معكم إلى صنعاء وإلا فسأرسل له قوماً ما ترحم يأتوا به مكلبشاً بالقيود»، فقال لهم سيدي حسين «قولوا له لا جديد لدينا وهو على علم بذلك نحن فاتحين مجلسنا للخاص والعام ونثقف بثقافة القرآن وكل شيء مكشوف وليس لدينا أي شيء نعمله في السر ومن خلف الكواليس فكل شيء عندنا مكشوف والتقارير ترفع للرئيس من أتباعه أولا بأول وإذا أراد أن يرسل إلينا من خاصته من يتثقف بالقرآن ويوافيه بكل شيء فلا مانع ، فمجلسنا مفتوح والقرآن للجميع، وأنا سأذهب إلى صنعاء بنفسي حينما تتهيأ الظروف فابلغوا الرئيس بذلك وقولوا له بأننا لسنا أعداءه ولسنا نعمل ضده ولا ضد أي عربي أو مسلم في أي مكان كان» ..فقالوا يا سيدي حسين إن الرئيس متخوف من هذا العمل وقال إما أن تأتي إليه أو أنه سيرسل إليك بقوم لا يرحمون أحدا ولا يخافون الله.
فقال السيد سلام الله عليه:
«ونحن سنواجههم بالله وبقوم لا يخافون في الله لومه لائم».
وأثناء هذا الحديث بين السيد حسين وبين وفد الرئيس أو الرسل الذين أوفدهم كان الأخ الشهيد محمد ملفي الرزامي حاضرا باعتباره مسؤول الحراسة التابعة للسيد الشهيد القائد عليه السلام.
فاتصل بي الأخ محمد ملفي وأخبرني بالموضوع فاقشعر بدني وتحركت جميع غرائز النخوة والقبيلة والمروءة والدين والقيم والإباء والأنفة والموالاة والمعاداة.
فأخذت القلم والدفتر وكتبت مقطوعة شعرية نارية صادقة الوجدان والمشاعر في خلال دقائق ونقلتها إلى الجوال وأرسلتها للأخ محمد ملفي وهو في مران وكنت ساعة سماع الخبر وكتابة القصيدة في مديرية كتاف أعمل مدرِّساً في إحدى المدارس الحكومية وكنا جماعة في المركز الصيفي لتعليم القرآن وعلومه وكان لازال العمل جارياً في ذلك المركز حيث كان فراشه عبارة عن كراتين وأكياس وكانت المداكي من اللبنات والحجارة.. وتقول الأبيات:
ها يا محمد قل لسيدي كل عضو فداه
وشعارنا مرفوع دايم
والموت لحمر من جراملنا لكل عداه
ما عندنا إلا موت حايم
وأنا مسلِّم من معه معبر فيتقناه
ما عادها ساعة سلايم
إما حياة بعز وإلا فقش في لجباه
نرخص لسيدنا الجماجم
واحنا رجاله في الشدايد ضد من عاداه
بأرواحنا نفدي ابن هاشم
قولوا لمن هدَّد حسين البدر يا ويلاه
يا من نوى بالشر نادم
يا كون يا دنيا اشهدي عن ناس تتولاه
لجله تعادي كل ظالم
معه معه في برها والبحر بعد خطاه
على هدى الله والملازم
هذا علم واختاره الله للزمن واهداه
يا محوج الأمة لقايم
ما هو عدو الشعب والدولة قسم بالله
ولا ارتكب ذنب وجرايم
عدونا أمريكا وإسرائيل ياعيباه
نطيعهم في قتل عالم.
الشاعر/ هادي حسين الرزامي
تاريخ القصيدة / قبل الحرب الأولى بأسابيع
عام / 2004م بعد خروج الوفد من عند السيد حسين مباشرة.
وهذه القصيدة الرزامية تتصدر الولاء والفداء والاستعداد للتضحية في سبيل نصرة الحق وفي سبيل الدفاع عن المشروع القرآني
وفيها تجسَّد البذل والمضي قدما برا أو بحرا وفيها أيضا الوعي بعظمة الشهيد القائد والإدراك التام للعدو الحقيقي أمريكا وإسرائيل.
وإياكم نطلع على إحدى قصائد -الشهيد الشاعر- البديعة والتي يقول مطلعها:
زحـفـًا إلى حوضِ المنايا نُورِدُ
فالموتُ في ساحِ المعاركِ أحمدُ
نسقي العدا أو نستقيه بعزةٍ
إنَّ المنايا شمَّرتْ فاستشهدوا
هيا اصعدوا قممَ الشموخِ وقارعوا
فالعزُّ قلبٌ صامدٌ ومهندُ
أو فاصمتوا حتى المماتِ وطأطئوا
فالذلُّ إنْ رَكِبَ الفتى يستعبدُ
ودعوا الخيولَ فغيرُكمْ أولى بها
ما كلُّ مَنْ ركبَ الخيولَ يُسَوَّدُ
اليومَ ينحازُ الجبانُ بجبنِهِ
ويقومُ فينا الفارسُ المستأسدُ
اخترْ فنارُ الحربِ نادتْ أهلَها
والجبنُ نادى أهلَه أنْ يصعدوا
دربانِ فاسلكْ واحدًا وارضَ بهِ
كلٌّ إلى ما يرتضيه سيعمدُ
مَنْ لم يقمْ للقدسِ وهي تهزُّهُ
بِـصـراخِها فلما سواها أَقْعَدُ
من لم يُثِرْهُ العرضُ ثورةَ ضيغمٍ
فهو الأذلُّ الصاغرُ المستعبدُ
ولكلِّ فرعٍ أصلُهُ سيضمُّهُ
وأصولُنا دينٌ بناهُ محمدُ
..
في هذه القصيدة استنهاض للهمم ودعوة صادقة للتحرك الجاد وتخيير بين حياة الذل وحياة الإباء والشموخ
وإسراء نحو القبلة الأولى التي جعلها المعيار والمحك لأصحاب الغيرة والحمية من غيرهم ..والقصيدة قوية ومعبِّرة وزاخرة بالألفاظ المجلجلة ومزدحمة بالصور الفنية والجمالية من تشبيهات وكنايات واستعارات بالغة الجمال:
«زحفا إلى حوض المنايا»
«المنايا شمرت»
«قمم الشموخ»
«العز قلب صامد»
«أصولنا دين بناه محمد»
نحو الحمى جُزْ بنا وانخ به الرُّكُبا
وامدد لنا نحوه يا صاح ما نضبا
أيام قد سلفت ما زلت أذكرها
دومـًا وأطلبها عودًا ومرتقبا
في تربة كم نمت للوصل نامية
وكم سـرى بيننا للود ما طلبا
ما كنت أحسب نار البين ترقبنا
ولا العواذل إذ لم أبتغ السببا
فأصـرمت بيننا ريح الوشاة يدًا
وقطعت بيننا الأيام ما وجبا
حيِّ الديار التي كنا بمربعها
وفي قصيدة القدس نجد الشاعر يقف على الاطلال وبلغة رقيقة بديعة رقراقة تنساب جمالا وتسيل عذوبة وتحترق حبا وشوقا لتلك الفاتنة الجميلة التي سلبت اللب واستوطنت القلب وتعمقت في الوجدان واستحوذت على المشاعر، فإذا كان الناس يذهبون في عواطفهم كل مذهب، فشاعرنا متيَّم بالقدس يكتفي بحبها عن كل حب ويستنكف عن جمال الدنيا وزخرفها وعن كل من أعماهم هذا الزخرف، فَلِمَ فنسوا أو تناسوا واجبهم الأقدس في حب القدس وبذل الروح قربانا لله ودفاعا عن قبلتهم الأولى؟
وفي هذه القصيدة يحلِّق في سماء المجاهدين ويرسم بريشة المحب صورة بيضاء ناصعة مشرقة لكل الأحرار والثائرين والسائرين في درب الأقصى ويطوف بنا في سماء روح الله الخميني الذي مد للقدس يدا وأفرد لها جناحا وهام فيها عشقا، ويسترسل في الحديث ليصل بنا إلى نصر الله في لبنان والمقاومين في الأرض المحتلة، وفي هذا الطواف تجاوز حدود الزمان والمكان والطائفية والمناطقية والعرقية والقومية، فالقدس هي قضية كل مسلم حر شريف.
وفي طيات القصيدة ينزف حرفه دماً شوقاً للجهاد وينزف حرقة وأسى وهو ينادي العروبة والعرب الذين وهنت قواهم وخارت عزائمهم وتلاشت قوتهم وأغمدوا سيوفهم في وجه الغاصب المحتل ليشهروها في وجوه إخوانهم العرب والمسلمين.
وإليكم أعزائي القرَّاء زنبقة شعرية للشاعر الشهيد محمد ملفي وهي بعنوان «نقطة على السطر» .. في محراب الوصي، عيد الغدير السعيد 1421هـ:
كم ذا التمني والمنى أحلامُ
وجميل ظنك في الهوى أوهامُ
كم للهوى من مدنفٍ ومعذبٍ
غدرت به الأحلام والأيامُ
لا اليأس أقنعه بجرم نوالهم
ووصالهم قالوا عليه حرامُ
خذ ما استطعت من الزمان فما له
أمنٌ وحاذرْ فالهوى إيهامُ
لله كم أسبى وكم ألهى وكم
أفنى وكم في قيده ضـرغامُ
فدعي التدللَ أقـصـري يا هذه
إن النفيس يحوطه [الإسلامُ]
وخذي بعيدًا عن مضاربنا فما
عندي لممشوق القوام قوامُ
قالت: تكابر في الهوى إن الهوى
فضح المحبَّ و[فاضت الأقلامُ]
قلت: الهوى في أعظمي وبأضلعي
لسواك والحب القديم هيامُ
قالت: أراك متيَّـمًا في حبه
قلت: الحياة بدونه إظلامُ
وفي محراب الوصي يتضح عظيم حب الشاعر للامام علي – عليه السلام – وتتبين ثقافته الواسعة والعميقة وإلمامه بالتاريخ الإسلامي المحمدي الاصيل.
والقصيدة ملحمة حوارية بديعة في غاية السلاسة والبيان والبلاغة والتسلسل والإبداع، حيث يستهل الشاعر قصيدته بأبيات رقيقة تنبض حبا وتتدفق شوقا لأمير المؤمنين – سلام الله عليه – ويقف على الاطلال كقصائد الشعر الجاهلي ويتخيل أن هناك من تحادثه، فشطر فيه السؤال وشطر يتضمن الإجابة وقد تأثر شاعرنا بالقصيدة المشهورة: للصاحب ابن عبّاد: (قالت فمن صاحب الدين الحنيف أجب
فقلت أحمد خير السادة الرسل…) .
فمضى على منوالها، وتتفوق عليها في السرد البديع والولاء الصادق والحب العميق لأمير المؤمنين وآل بيته، وهكذا تمضي بنا القصيدة في سياق مفعم بالحب العلوي وتحلق بنا في سماء عظمة الإمام وجلاله وتبحر بنا في محيط فضائله وخصاله فتلتقط اللآلئ والدرر، ولا تقتصر على المديح؛ بل تطرقت لمظلومية أهل البيت بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ونختم باقتنا الشعرية الجميلة بقصيدة عذبة الحروف وللقارئ أن يستخلص منها روائع إبداعات الشاعر وهي بعنوان. «دموعٌ على شطِّ الفرات «في عاشوراء 1421هـ:
محمومةٌ مِنْ حُزْنِها تتحدَّرُ
بالدمعِ عَيْنٌ ليسَ غيرَكَ تُبْصِـرُ
رأتِ الطفوفَ فسالَ دمعُ شؤونها
جمرًا يخدُّ على الجبينِ ويحفرُ
إنْ أغمضتْ فعلى مصائب فاطمٍ
أو أيقظت فلكربلاء ستنظرُ
وَلْهَى تنازعُ حزنَها وجراحَها
أَعَنِ الحسينِ وأهله مُتَصَبّـرُ
وبنعمةِ النسيانِ تسلو إلْفَهَا
إلَّا ليومِ الطفِّ دومـًا تمطرُ
سكبتْ دموعَ العينِ فيه قصائدًا
عبرى وحزنـًا كلَّ يومٍ يكبرُ
إنْ شابتِ الأعضاء شبَّ ضـرامُها
تدعو لثارات الحسين وتنصـرُ
لم تبك إلا من مصابٍ فادحٍ
يبكي النبي له ويبكي حيدرُ
وتصوغ من آلامها شهب الردى
لعـنًا على مَنْ قاتلوك وأوزروا
لعـنًا يظلُّ على الزمان يصيبُهمْ
ويصيبُ مَنْ في حبِّهم قد أضمروا
يا ابنَ النبيِّ وفيك أُحْني هامتي
حُـبًّا واجثو في ثراك أعفّرُ
وأهيم في عليا سماك وطهرها
وسمو روحك راهــبًا أتفكّرُ
وأغض طرفي عند ذكر جلالكم
فرقًا وإجلالًا لكم وأكبرُ
فلأنت أسمى من مديح قريضنا
ولأنت أكبر أن يحوطك دفترُ
ولأنت أعلى أن تصوغ مسامعًا
للمادحين وكل سمعك أطهرُ
أو بعد مدح الله يرجو مادحٌ
شأوًا يفيض على علاك فيظهرُ
إني على طرق البيان مدربٌ
الُحرُّ ( طوعي ) والفصيحُ أُحَبِّـرُ
فإذا سموتُ لذكركمْ ينتابني
خوف الجهول وحالتي متحيرُ
مترددٌ والشعرُ عَبْدُ يراعتي
ماذا عسـى مثلي يقولُ ويذكرُ
وأخاف لو قيست محبتنا لكم
فيما نقول فحبنا لك أكبرُ
فإذا أتيت به فمنكم ورده
أنتم به جدتم وعنكم يـحـضـر
أنتم أثرتم بالمواجد حرة
فأتى إليكم بالمواجد يزخرُ
عذرًا فما أنا بالمديح أزيدكم
شـرفًا وإني من بذلك أفخرُ
هو واجبٌ ملقىً علىّ بيانه
إن قلت أوجر أو سكت سأوزرُ
إني أتيتك والحياء يلفني
وجميل قولي في ولاك يعبّرُ
في يومك الدامي الذي تبكى له
أفق السماء جزعًا وتبكي الأبحرُ
يا ويح قلبي يا بن حيدر والردى
من كل صوب بالمنية يقطرُ
والطيبون [ تجرَّعوا نارَ الظما]
والصحب صـرعى والعدا قد كشـروا
وأمية السوداء ترسم عارها
بدماء صبيتكم فيدعو ( أكبرُ )
أبتاه هل من شـربةٍ كيما بها
أقوى على قتل اللئام وأوترُ
طلبوا المياه من الحسين تحنـنًا
وحسين في ظمأ أشد وأكبرُ
لم يسقَ إلا من نصال سيوفهم
موتـًا لأشلاء الصغير يبعثرُ
وأتوك بالطفل الرضيع أنينه
يدمي الصخور ودمعه يتحدرُ
[ذَبَلَتْ شِفاهُ الطِّفْلِ إذْ يشكو الظما]
وأمامَ عينيه فراتٌ يهدرُ
ناديتَ أنْ يسقوه بلْ ورَفَعْتَهُ
فلعلَّ فيهم مَنْ يرقُّ ويشعرُ
فسقوه سهمًا في الوريد تناثرت
منه الدماء بحجركم تتفجرُ
لم يستطع حتى البكاء فحلقه
قد سده سهم فصار يغرغرُ
لو كانتِ الدنيا الحسينَ لَـزُلْـزِلَتْ
وهوتْ تضجُّ إلى الإله وتجأرُ
فوقفتَ ترقبُ والمنايا شـرَّعٌ
فعل اللئام وعزم نفسك يكبرُ
لا [غرو] يا بن [النور] فيك تجسدت
في كربلا ما كان يضمر حيدرُ
ويطن في أذنيك صوتٌ ظامئٌ
أو مستغيثٌ أو سيوفٌ تشهرُ
ترمي بطرفك للحريم فغيرةٌ
تغلي وجرحٌ في ضميرك يسعرُ
وتعيده فترى مصارع إخوةٍ
ما مثلهم رعف الزمان تعفّروا
وتمده فترى جيوشـًا كلها
حقدٌ أتت من يوم بدرٍ تثأرُ
ووقفت وحدك شامخًا كالطود لا
جيش ولا موت لعزمك يفترُ
من مقلتيك ضياء جدك مشـرقٌ
ويكاد من زنديك يزأر حيدرُ
يا ملهم الشعراء صدق شعورهم
حتى يكاد الصخر فيكم يشعرُ
ومفجر الهمم العوالي للفدا
حين انحنى قومٌ وقومٌ أجبروا
يا واهبَ الأحرارِ سـرَّ إبائهمْ
ومعلـم الثوار [ أنْ يتحرروا ]
يا من أعدت إلى البرايا شـرعةً
غراء عادت من نجيعك تزهرُ
إني أراك على المكارم حاكـمًا
لا ريب أنت أميرها المتأمِّـرُ
[بلْ كلُّ] من نادى وثار بعزةٍ
هو من نداكم يستزيد فيصبرُ
و[جميعُ] مَنْ أعطى فدون عطائكم
[بلْ كلُّ فادٍ عَنْ فِداكمْ] يقصـرُ
ولكلّ داعٍ للإله [ هدايةٌ ]
هي مِنْ توهُّجِ نورِكم تتنورُ
جمعوا لقتلك كل شاكٍ دارعٍ
وهمُ بجَدِّكَ يا حسينُ تحرروا
كانوا طرائق في البلاد إلههم
صنمٌ له تجثو العروبة صاغرُ
وهمومهم كأسٌ ومرقد غادةٍ
وأدوا البنات وشملهم متبعثرُ
وجزيرة الأعراب كانت قسمةٌ
شطر لكـسـرى والبقية قيصـرُ
وبرغم ما فعلوا بقيت وهل بقوا
إلا بذكرٍ أسودٍ إن يذكروا
وبقيت نبراسـًا يشع وكعبةً
للثائرين على الطغاة ومشعرُ
وبكل قلب لو بحثت ترى به
اسم الحسين وكربلاء تزمجرُ
وبكل نبضٍ فيه صـرخةُ قاسمٍ
ووفاءُ عباسٍ يذودُ وينصـرُ
هذا بياني لو رمقْتَ لشامنا
لرأيتَ في لبنان بذرَك يثمرُ
ليقول للدنيا حسينٌ [خالدٌ]
نهجٌ إلى النـصـر المبين ومنبرُ
هذا حفيدك قد أذلَّ أنوفهم
هزم اليهود بعزمه فتقهقروا
حسن بن نـصـر الله فيهم قائدٌ
نعم المقودُ له ونعم الآمرُ
يا سيدي ولقد بكتنا غزةٌ
تعساء كانت بالعروبة تفخرُ
عربٌ إذا عاينتَهُمْ و[ بَلَوْتَهُمْ ]
يعلو لأمريكا الولاء ويكبرُ
ترك شهيدنا كل شيء وراء ظهره من أهل وديار ورفاق وبذل نفسه في سبيل الله مجاهداً صنديداً لا يخشى في الله لومة لائم، سار في ركب المسيرة القرآنية الشريفة وكان الحارس الأمين للشهيد القائد وظله الذي لا يفارقه وكان يشعر بلذة الإنصات إلى الهدي القرآني وتلك المفاهيم العظيمة التي كانت مثل صباح أبلج فأنار القلوب، وهو ذاك المفوه البليغ الذي كان ينشر في الأجواء عطر المسيرة القرآنية بأسلوبه الراقي المعهود في كل المحافل وكان له الدور الأبرز في الإعداد والتنسيق للفعاليات .. كان قد استخدم كل مواهبه الفكرية والفنية في الإضاءة على مفاهيم المشروع القرآني ودرب كذلك كوادر إلى جانب تثقيفهم وتسليحهم بالثقافة القرآنية على الصوتيات والتصوير وكذلك إخراج أشرطة الكاسيت لمحاضرات الشهيد القائد بأحسن صورة حيث كان ينسخها ويطبعها أيضا ويهتم بتوزيعها .
وكان إطلاعه واسعاً وإلمامه حتى بالقضايا العربية والإسلامية.. كقضية فلسطين ولبنان والصومال والبوسنة والهرسك وإيران وأفغانستان والشيشان وغيرها ،وكان صدقه وولاؤه من أهم ميزات نجاح تحركاته ،وكانت أدواره الجهادية عظيمة كعظمة نفسه أثرها لا يزال باقياً حتى اللحظة.