يبدو التاريخ يكتب نفسه كعادته من مارب، فمنذ بدأ العدوان على اليمن ورحى التاريخ تدور في مارب، ولا تكاد تغادر السد الذي دار حوله التاريخ اليمني القديم حتى تعود إليه، فقانون التاريخ لا يكاد يتغير منذ البدء إلى اليوم .
اليوم ثمة ملاحم تحدث في مارب، وثمة حكايات تستعيد ذاتها في مارب، ويكاد ابن مزيقيا أن يفصح عن نفسه في الشتات والتمزق والتفرق الذي حدث ويحدث للوطن الجريح .
“تفرقت أيدي سبا ” مَثَلٌ سائر يجول في الذاكرة العربية منذ حادثة انهيار السد وتفرق أيدي سبا في الآفاق والأصقاع والجهات، وها هو التاريخ يتكرر اليوم على شكل مهزلة لا تحترم الإرث الحضاري ولا الأمجاد التي كانت في غابر الأيام في تلك البقعة التي كانت مسرحاً لجل أحداث التاريخ وتفاعلاته الثقافية والحضارية .
ما الذي يحدث في مارب اليوم ؟
لماذا تبيع مارب تاريخها وأمجادها؟ ولماذا تُتاجر بإرثها الحضاري؟
كانت مارب مقصد القوافل، وكانت منارة تهتدي بها قبائل الصحراء، وكانت حصناً منيعاً تقصده القلوب التي ترتعد فرائصها من الغرباء .. فلماذا تتحول اليوم إلى تابع أمين لقبائل الصحراء، وحمل وديع بيد الغرباء؟
هل مكر التاريخ بمارب حتى أضحت كُرة متدحرجة في فضاء الغياب والانفصال عن المساق الحضاري والتاريخي؟ ربما .. فالتاريخ مكر بالعرب كلهم منذ سقطت بغداد في يد المغول في القرن الثالث عشر الميلادي .
وحين سقطت بغداد في مطلع الألفية الجديدة في يد علوج الروم والأمريكان واليهود سقط العرب على إثر ذلك، وغلبت على المسار العام الطوائف والمذاهب والفرق، حتى كاد العرب يتناثروا ذرات تتقاسمهم الجماعات وتتنازعهم القوى الاستعمارية في شرق الجغرافيا العربية أو في غربها .
يقول الفلاسفة: إن التاريخ حركة منطقية جدلية، وهو في الغالب سلسلة من الثورات تستخدم الشعوب فيها أدواتها لتحقيق النمو والتطور نحو الحرية، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ يبرز التناقض والتعارض كحالة مستمرة، ذلك التناقض والتعارض لا يقوى على حله سوى صراع الأضداد، فالتاريخ كما يقولون نمو نحو الحرية وتطورها، وهو الحال الذي وصل إليه الصراع في مارب اليوم، فالرموز التي يبعثها الواقع من هناك تقول أن الصراع في مارب خلال سنوات حرب دول العدوان على اليمن لم يكن إلا نموا متطوراً نحو الحرية الذي يغالب قناعات الكثير من رجال قبائل مارب ومشائخها ، فقد برز التناقض والتضاد وتمايز الناس، ووجد الناس في مارب من جماعة الإخوان ما لم يخطر لهم ببال، فكانت المقارنة لصالح القوى الوطنية التي ظلت على مبدأ الوطنية والدفاع عن اليمن ضد الغزاة والمحتلين الذين لم تجد مارب منهم سوى مصادرة الحقوق والاستغلال والغبن الذي كابدوه خلال ما سلف من سنين، فضلا عن مصادرة تاريخ مارب وحضارتها، والمتاجرة بالتاريخ، وهو الأمر الذي يرفضه شجن التاريخ في هويتهم وحضارتهم .
لم تكن مارب والجوف وامتدادهما إلا رفضاً قاطعاً للمستعمر، ولذلك تحتفظ الذاكرة الشعبية اليمنية بفكرة دقيانوس كعلامة من علامات المستحيل في المستوى الدلالي للملفوظ الشعبي، والملفوظ يشير إلى حملة الرومان على اليمن بقيادة القائد الروماني دقيانوس واستحالة الوصول للأهداف التي كان يبحث عنها، وقد تكبد جيشه الخسائر الفادحة والهزيمة النكراء, فقد أكلتهم صحراء صيهد، ذلك أن نزعة الحرية والاستقلال كانت مبدأ يعيش في وجدان أهل اليمن ولم تكن الحرية فكرة طارئة في حياتهم، بل كانت وما تزال نمواً متطوراً وفق قانون التاريخ .
لقد مارس تيار الإخوان كل أنواع التضليل والزيف، وخلقوا بالتعسف وعياً زائفاً، وظلوا على ذلك الحال طوال زمن الحرب والعدوان حتى أفصح الواقع عن زيف الفكرة وحقارة التضليل، والفرق بين الواقع والممارسة، لقد نهب الإخوان ثروات مارب، وتاجروا بتاريخها وحضارتها، وها هي مقتنيات أثرية تُعرض في الأسواق العالمية، بعد أن تاجر بها الإخوان، وآخر معروض تتحدث عنه وسائل الإعلام أنه يتبع الأسرة الحاكمة بقطر، وهي الوجه البارز للإخوان في المنطقة، بل والداعم الرئيس في كل مناشطهم وتفاعلاتهم الثقافية والسياسية والعسكرية.
اليوم مارب تستعيد وعيها بذاتها بعد أن خاضت الجدل التاريخي، وعاشت مرحلة التناقض والتعارض، فنمو الوعي نحو الحرية أصبح ضرورة وإن بدت حركته ومستواها بطيئاً في الظاهر لعوامل ثقافية إلا أنه ينمو ويتطور، وقد دلت الأحداث واتفاقات القبائل مع الجيش واللجان الشعبية على ذلك .
مارب أضحت قاب قوسين أو أدنى من الحرية، ومن التخلص من التبعية والارتهان سواء دخلها الجيش أم لم يدخلها، فحالها اليوم غيره بالأمس، وهي أقرب إلى فطرة الحرية والاستقلال بعد أن عرفت من يريد نفعها ومن يريد نفع نفسه على حساب حريتها واستقلالها وحرية واستقلال اليمن.
كل الذي تحتاجه مارب اليوم ليس أكثر من تكثيف البرامج التي تهدف إلى تنمية القيمة التاريخية والحضارية والإيمانية في الوجدان العام، سعيا حثيثا للارتقاء بالوعي حتى يصل عن طريق البصيرة والقناعات إلى الحرية، فقد وقع الوعي الاجتماعي ضحية التعسف والتضليل الذي مارسه الإخوان وهم يفرضون سلطتهم بالحديد والنار منذ ما قبل العدوان إلى اليوم.
التاريخ اليوم يتأرجح في مارب ولكنه مسار يعبر عن التقدم من خلال الشعور المتنامي بالحرية، ولذلك نرى العدوان يلجأ إلى أدواته التي أنشأها حتى يستخدمها كوقود لحربه في اليمن، تصل التعزيزات إلى مارب كل يوم، وكل يوم تزداد مارب قناعة بالحرية، فالتاريخ يكتب فصولاً جديدة في مارب في قابل الأيام.