بدأت رداً على عنصرية أندية الإنجليز والجاليات الأجنبية ولغرض منافستها
الأندية اليمنية.. التحام الرياضة بالسياسة في تفجير الثورة والتحرر
في الأصل جاءت الرياضة لتمحو أخطاء السياسة، وتنقية العلاقات بين الشعوب، وتهيئة العقول للتفكير السليم، علاوة على كونها أبرز مظاهر الاتصال بين الشعوب التي تتجاوز عائق اللغة، لكن سلطات الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن، ضربت بكل ذلك عُرض الحائط، وألقت به خلف ظهرها، وجعلت من الأندية وسيلة من وسائل «فرق تسد» فجنت جزاء ما اقترفته، ودفعت في نهاية المطاف الثمن غالياً.
كان هذا قبل 185 عاماً، عندما لم تجد بريطانيا حرجاً في نسف المفهوم الإنساني للرياضة، فعمدت إلى افتتاح أندية رياضية في عدن لكنها حصرت الالتحاق بها أو ارتيادها بتمييز عرقي غلفته بشرط «إجادة اللغة الإنجليزية»، تماماً كتقييدها الوظائف وفرص العمل ومنح التعليم الحكومية آنذاك.. وكأن لسان حالها: لا تعليم، لا عمل، لا ترفيه، فاشربوا من البحر أو ارحلوا من أرضكم!!. لكن اليمنيين، وعلى العكس، قرروا تحدي هذا التمييز وقهره، وقد فعلوا.الثورة/ إبراهيم الحكيم
كانت الإمبراطورية البريطانية ترفع شعار الديمقراطية وفي الوقت نفسه تمارس الاستبداد، ورغم زعمها محاربة الرق والاستعباد؛ كانت لا تزال مشدودة إلى النزعة الارستقراطية الإقطاعية، وتنظر إلى الشرق عموماً، بأنه موطن ثروات لا يستحقها سكانه، الذين ظلت تنظر إليهم على أنهم «رعاع متخلفون، لا حقوق لهم». وشاعت في عدن تسمية المواطنين اليمنيين بأنهم «عرب..بدو بدائيون»، ويجب أن يكونوا ممتنين لأن بريطانيا العظمى «تستعمرهم»..أي تحتلهم!!.
تمييز عنصري
اعتمدت السياسة الاستعمارية البريطانية لتثبيت وإدامة احتلالها لسائر المستعمرات البريطانية؛ على إذابة الهوية والروابط القومية الوطنية في المستعمرة، عبر اجتذاب وتوطين جاليات أجنبية متعددة الجنسيات فيها وسياسة «فرق تسد»، وهو ما حدث في عدن خلال فترة وقوعها تحت الاحتلال البريطاني (1839 – 1967م) لذلك «ظهرت الحاجة لإقامة النوادي الترفيهية والرياضية في عدن لبعض الجاليات ليتمكن أفرادها من اللقاء وممارسة بعض الألعاب الرياضية والمسلية».
هذا ما يؤكده المناضل المعروف، علوي عبد الله طاهر، والباحث في شؤون هيئات ومنظمات المجتمع المدني في اليمن، ويضيف: «كان أول نادٍ يتأسس في عدن هو نادي الفرس عام 1887م ومورست فيه ألعاب القوى والكريكت وغيرها لكن العضوية فيه انحصرت على أفراد الجالية الفارسية ثم ظهر عام 1902م نادي التنس العدني، وانحصرت العضوية فيه على بعض أفراد الجاليات الأجنبية، أول الأمر، ثم اتسعت لتشمل بعض أعيان عدن ولحج وكبار موظفي الحكومة العرب».
ورد يـمني
كانت لغة التخاطب المعتمدة في هذا النادي هي اللغة الإنجليزية بطبيعة الحال التي عمت مختلف مناحي الحياة في مستعمرة تفرض فيه وعليه لغة المحتل. ولهذا لم يكن «يُسمح لمن لا يجيد الإنجليزية بالدخول» إلى هذا النادي. الأمر الذي أوجد حاجة ملحة لتعويض هذا الحرمان، وتلبية حاجات أبناء عدن اليمنيين من عدن نفسها ومن مناطق جنوب اليمن المعروفة آنذاك باسم «المحميات» وبالطبع أبناء مناطق شمال اليمن.
يقول الأستاذ علوي طاهر:«كان معظم الشباب في عدن يمارسون لعبة كرة القدم وغيرها في الحارات والأزقة، وظهر من بينهم لاعبون موهوبون في المباريات التنافسية بين الحارات، مما شجع لإقامة فرق رياضية متكاملة في الحارات التي يبرز فيها بعض اللاعبين، وكان تدريبهم ولعبهم يتم -عادة- حفاة الأقدام ودون ملابس رياضية وفي ملاعب الحارات والسواحل الرملية على الأراضي المستوية، لعدم وجود ملاعب رسمية،..».
ولما كانت النوادي القائمة ترجمة لسياسة التفرقة ؛ فقد كان الرد اليمني على هذا التمييز العنصري العرقي الذي جسد الوجه القبيح للغطرسة الإمبريالية الاستعمارية-آنذاك- رداً حازماً وحاسماً في إثبات الوجود وإقرار الحق..الحق الذي لا ينحصر في حق اليمنيين ممارسة الرياضة فحسب، بل ويمتد إلى حق إعمال إرادة أصحاب الأرض الأصليين، وحقهم في إدارة حياتهم بأنفسهم، وتحقيق تطلعاتهم، وإنفاذ ما يريدونه هم لا ما يراد لهم.
اتحاد وطني
كان لا بد لليمنيين أن يتحدوا لتحقيق إرادتهم، وهذا ما حدث. يقول طاهر:«في عام 1905 تأسس أول ناد رياضي لممارسة كرة القدم وغيرها من الألعاب، وكان يدعى “نادي الاتحاد المحمدي”، فاتخذ تسمية دينية للتعبير عن تميزه عن النوادي الأخرى التابعة للجاليات غير المسلمة، وبالتالي إبراز اعتزاز الأعضاء بالانتماء للإسلام، وافتخارهم بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك في مواجهة فرق الجاليات والفرق الإنجليزية التابعة لوحدات القوات المسلحة البريطانية».
وبهذا فقد كان «الاتحاد المحمدي» أول نادٍ رياضي يمني، وأول نادٍ لكرة القدم في المنطقة فالألعاب الرياضية التي كانت تمارس في مختلف النوادي الأجنبية القائمة في عدن حتى ذلك الحين «لم تكن تتضمن رياضة كرة القدم» حسب طاهر. وهذا لا يعني سبق اليمنيين إلى اختراع أو ابتكار هذه الرياضة، بل سبق اليمنيين إلى ممارستها في عدن، وسبقهم -كما سيتبين لاحقاً- إلى جعلها الرياضة الشعبية والأكثر جماهيرية في عدن وجنوب اليمن، كما كانت في سائر العالم.
وفقاً للمصادر التي توثق لحقبة الاحتلال البريطاني لعدن؛ فإن أبرز الألعاب الرياضية بمختلف نوادي الإنجليز المدنية والعسكرية، ونوادي الجاليات الأجنبية بعدن حتى بداية القرن الماضي؛ كانت: «رياضة الاسكواش، ولها أربعة ملاعب بجوار كنيسة ماريا في كريتر، ورياضة القولف ولها ملعب واحد، ورياضة الروليت، والهوكي، وكرة التنس، وكرة الطائرة، وكرة تنس الطاولة،والألعاب الرياضية المائية بجولد مور، وسباق القوارب (نادي البحارة) في التواهي، وصالة ألعاب رياضية بمعسكر الجيش القديم.
انتصار للهوية
ليس هذا فحسب، بل امتدت أبعاداً ودلالات تأسيس اليمنيين نواديهم الرياضية الأهلية، إلى تسجيل الاعتزاز بالهوية اليمنية والتمسك بالإرث الثقافي الحضاري اليمني، ورفض صريح لسياسات سلطات الاحتلال البريطاني طمس هذا التراث وإذابة الهوية اليمنية وفصم عدن عن قوميتها اليمنية العربية. ومن ذلك رفض التسميات الإنجليزية والرموز الحروفية (A. B. (C التي أطلقتها سلطات الاحتلال على أحياء وحارات عدن، بعد إعادة تخطيطها وفق معايير أمنية وسياسية واقتصادية.
في هذا يذكر الباحث علوي طاهر، أنه: «ونتيجة لاتساع نشاط فرق الحارات التي كانت تمارس ألعابها الرياضية بصورة عشوائية، وتتم المباريات فيما بينها بصورة عفوية غير منظمة ولا مبرمجة، فيلاعب فريق من حارة حسين فريقاً أخر من حارة العيدروس، وهكذا؛.. اكتسب الفريق اسم الحارة ذاتها، فأطلق على الأول تسمية “فريق الحسيني الرياضي” وعلى الثاني اسم “فريق العيدروس الرياضي”، وهكذا كلما ظهر فريق في حارة أخذ تسمية الحارة ذاتها».
واحتواء بريطاني
ونتيجة هذا النمو للنوادي اليمنية، وتحسباً لما قد تشكله حيوية تجمعاتها من خطر على المدى البعيد؛ عمدت سلطات الاحتلال البريطاني إلى تأسيس نادٍ عام. يقول طاهر: «عندما تكونت فئة اجتماعية من بعض خريجي مدارس الإرساليات الأجنبية (التنصيرية) ،.. رغب بعضهم في تكوين علاقات مع أستاذتهم أو زملائهم في الدراسة أو العمل، أو بعض رؤسائهم أو مديري المؤسسات والدوائر الحكومية الذين كان معظمهم أجانب يترددون على النادي».
ويضيف: «ولأن الشباب غير الأعضاء لا يسمح لهم بممارسة الرياضة فيه أو في غيره من نوادي الجاليات الأجنبية فقد اقتضت الحاجة لتأسيس “نادي الترفيه الموحد” عام 1910م، الذي تميز بالعضوية المفتوحة لجميع الراغبين من الشباب، بغض النظر عن جنسياتهم، فوجد بعض الشباب فرصتهم للانضمام إلى النادي لممارسة بعض الألعاب، مثل: التنس وكرة الطائرة وكرة السلة والطاولة وغيرها. غير أن لعبة كرة القدم لم تكن تمارس فيه».
إصرار يمني
لكن الإقبال على هذا النادي العام، ظل محدوداً من جانب الشباب اليمنيين، الذين وجدوا حريتهم واستقلاليتهم أكثر في النوادي اليمنية الأهلية، التي تابعت التوسع في أنشطتها لتشمل بجانب رياضة كرة القدم، ألعاباً رياضية أخرى، في حدود إمكانياتها المعتمدة في الأساس على التبرعات الخيرية من التجار والميسورين من اليمنيين الوطنيين، أهالي عدن ومناطق جنوب وشمال اليمن، التي شاءت الأقدار أن يكونوا على قدر كبير من الوعي والحس الوطني.
يقول الأستاذ علوي: «وفي عام 1924م كانت فرق الحارات قد تزايدت، واتسع نشاطها حتى صارت فرقاً رسمية، لها قياداتها ولاعبوها الثابتون، ولها أنصارها أيضاً، فظهرت فكرة تحويل تلك الفرق إلى نوادٍ رسمية معترف بها من سلطة المستعمرة، بما يسمح لها خوض مباريات رسمية فيما بينها من ناحية، وبينها وبين الفرق الإنجليزية من ناحية أخرى فبدأ كل نادٍ يجمع اشتراكات من أعضائه ويحصل على جزء من دخل المباريات التي يخوضها».
وضعت النوادي اليمنية بهذه الخطوة أقدامها على عتبة مرحلة جديدة في تاريخها ودورها الوطني. ووفقاً للباحث علوي طاهر، فإن هذه الإيرادات «سمحت لبعضها أن تستأجر محلاً ليكون مقراً لها.ومع مرور الأيام صار لكل نادٍ مقره الخاص، وقادراً على منافسة غيره من النوادي في كرة القدم والألعاب والنشاطات الأخرى، مما أدى إلى تحسن أداء بعض الفرق وبالذات في كرة القدم، ولكنهم كانوا يلعبونها في ملاعب بدائية غير صالحة، وحفاة الأقدام وبدون ملابس رياضية».
اعتراف رسمي
ومع مرور الوقت، وازدياد عدد النوادي اليمنية وفرق الأحياء والحارات لكرة القدم؛ نجحت هذه النوادي في جعل هذه اللعبة هي الأكثر شعبية وجماهيرية في عدن، تزامناً مع صفتها الشعبية التي كانت قد بدأت تقترن بكرة القدم في سائر أنحاء العالم، وأن تدفع نوادي الجاليات والشركات الأجنبية الأخرى بعدن إلى تشكيل فرق رياضية لكرة القدم، وصولاً إلى اعتراف السلطة البريطانية بهذه الرياضة وأنديتها، وبدء التفكير رسمياً وجدياً في تنظيم منافساتها.
ويذكر الأستاذ علوي،أنه:«في عام 1923م بنت بلدية عدن أول ملعب رسمي، سمي بـ “المدرج البلدي” لغرض تنظيم لعبة كرة القدم، وإكساب مباريات الفرق طابعاً رسمياً. وفي الوقت نفسه أعلنت عن تأسيس “الجمعية الرياضية العدنية” لتتولى مسؤولية تنظيم المباريات بين الفرق، وتنظيم توزيع ربح المباريات على الفرق المتبارية. غير أن أعضاء هذه الجمعية جميعهم من الإنجليز أو من الأجانب، لأن الحاكم العام لعدن هو الذي كان يعينهم».
شكلت «الجمعية الرياضية العدنية» التي صدر قانونها في 26 نوفمبر 1943م، النواة الأولى للاتحاد الرياضي العام في عدن، وغير خافية أبعاد تقييد نشاطها بتعيين الحاكم البريطاني العام لعدن، وأنه يعبر عن مخاوف سلطات الاحتلال من تنامي نشاط الأندية الأهلية اليمنية، لاستشعارها المسبق دقة الحساسية المترتبة على شعبية وجماهيرية هذه اللعبة وتبعاً حساسية وشعبية فرقها ولاعبيها، وبخاصة الفرق اليمنية، واللاعبين اليمنيين.
ومع ذلك، يفيد الباحث علوي أن: «تأسيس “الجمعية الرياضية العدنية” أدى إلى تنظيم سير المباريات، واتساع مجالات الرياضة، فأقبل الناس على الملاعب لمشاهدة المباريات المختلفة، وبالذات المباريات التي كانت تتم بين الفرق المحلية وفرق قوات الاحتلال، مما أدى إلى اتساع القاعدة الرياضية، وبالتالي زيادة الفرق الرياضية، فوصلت عام 1936م إلى ما لا يقل عن 12 فريقاً رياضياً في منطقة “الشيخ عثمان” وحدها، ولكنها فرق صغيرة للحارات».
مزيد من الاتحاد
لذلك، وفي خطوة اتحادية تنشد مزيداً من القوة، فقد عمدت كثير من هذه الفرق التابعة للنوادي اليمنية الأهلية في عدن إلى إعمال السر القديم المتجدد «في الاتحاد قوة» وإعلان اندماجها ببعضها. ويفيد الباحث علوي طاهر، في سلسلة أبحاث منشور له بعنوان «الهيئات الشعبية اليمنية»،أن النشاط الرياضي في عدن عاد للانتعاش من جديد بعد الجمود المصاحب للحرب العالمية الثانية (1939-1945م)،غير أن الفرق الرياضية تقلصت، باندماج بعضها ببعض».
ويقول:«لم يبق بعد الحرب بعدن كلها غير أربع فرق معترف بها، هي:نادي الاتحاد المحمدي، ونادي الاتحاد الإسلامي (الموالده)، ونادي الشيخ عثمان، ونادي العيدروس. وفيما بعد تأسست فرق جديدة في أنحاء مختلف من عدن، مثل: نادي الشبيبة المتحدة (الواي)،نادي الأهلي الرياضي، نادي القعيطي الرياضي، نادي شباب المحميات الرياضي، نادي النجم الأزرق الرياضي، نادي طارشان الرياضي، نادي الصومال الرياضي، ونادي فتيان الثكنات (بارك بويز)».
تطور وتفوق
لا يذكر المناضل والباحث علوي عبد الله طاهر، إن كانت فرق النوادي اليمنية قد واجهت فرق القوات البريطانية، كما لا يذكر نتائج المباريات التي خاضتها فرق النوادي اليمنية مع الأندية الأجنبية. لكنه يكتفي بالإشارة إلى أن هذه المباريات قد ساهمت في تصنيف مستويات مجمل فرق كرة القدم التابعة لمختلف نوادي عدن، إلى درجة أولى، وثانية، وثالثة. وكذا فرق الممتاز، وقد تضمنت جميعها فرقاً لنوادٍ يمنية، ما يعكس قوتها وتطورها.
يقول الأستاذ علوي:«شهدت عدن بعد الحرب العالمية الثانية نشاطاً رياضياً واسعاً فزاد حماس الفرق المتنافسة، واتسع جمهور المشجعين لهذا الفريق وذاك، وحرصوا على حضور المباريات، مما شجع النوادي المختلفة على (إقامة) مباريات دورية فيما بينها على الكؤوس أو التروس، فازداد الحماس وقوي التنافس بين الفرق المختلفة، مما أدى إلى ظهور فرق جديدة في بعض الأحياء وفرق أخرى تابعة لبعض المؤسسات التجارية، أو لبعض الهيئات الأجنبية».
ويسرد من هذه الفرق: «نادي أمانة الميناء، نادي شركة ألبس، نادي شركة كوري بلاذرس، نادي شركة البترول، نادي الشباب، نادي الإرسالية الأرثوذكسية، نادي الجزيرة، نادي الغزال، نادي كيث فلكنر، نادي الإرسالية الدنمركية، نادي المعلا، نادي البوليس، ونادي النجم اللامع، ونادي الأحرار. وكانت هذه النوادي من فرق الدرجة الثانية أو الثالثة، ولكنها نافست في بعض الأوقات فرق الدرجة الأولى، بل أن بعضها وصل مواقع متقدمة في فرق الدرجة الأولى والممتازة».
من أبرز هذه الفرق المتأهلة، يذكر الباحث علوي: «فريق الشباب، وفريق الجزيرة، وغيرهما من النوادي الرياضية». مُوضحاً أن النشاط الرياضي في عدن: «كان قد تمحور في منتصف الخمسينيات في ستة نوادٍ رئيسية حصرت نشاطها في كرة القدم فقط، هي: الشبيبة (الواي)، الحسيني، فتيان الثكنات (بارك بويز)، الشيخ عثمان، الاتحاد المحمدي، ونادي الاتحاد الإسلامي، الذي أصبح فيما بعد نادي شباب التواهي والاتحاد الإسلامي».
تنوير وتثوير
وكما كان متوقعاً، لم تبق هذه النوادي اليمنية الرياضية في منأى عن ما يجري حولها في عدن وجنوب وشمال اليمن والمنطقة العربية إجمالاً، ولا ظلت في معزل عن الهم الوطني وبدايات التهاب الشارع المحلي ببواعث ومحرضات الثورة، في مستواها الفكري والثقافي. ولما كانت السلطات البريطانية حتى العام 1955م تحظر النشاط السياسي والحزبي، فقد كانت هذه النوادي الثقافية والرياضية الحضن الشرعي لنشاط الحركات والتنظيمات السياسية الوطنية.
يقول الباحث علوي طاهر:«بازدياد النشاط الرياضي، توسعت القاعدة الجماهيرية للعبة كرة القدم، وحصلت بعض النوادي على إيرادات لا بأس بها من جراء مبارياتها في الملاعب، مما مَكَّنها من بناء مقرات لها،.. وبوجود هذه المقرات الثابتة تهيأت الظروف المناسبة لممارسة بعض جوانب النشاط الثقافي، فزودت بعض النوادي بالكتب والنشرات والصحف والمجلات للقراءة، وكانت تنظم في بعضها الندوات الثقافية وتلقى فيها المحاضرات في الموضوعات المختلفة».
ويضيف:«في الوقت نفسه كانت تلك النوادي ملتقى لبعض المبدعين في الأدب والفنون،..» ذاكراً من هذه النوادي الثقافية: «نادي الأدب العربي الذي تأسس بكريتر عام 1925م، ونادي الإصلاح العربي بالتواهي الذي تأسس في أواخر العام 1929م، ونادي الإصلاح العربي في الشيخ عثمان عام 1930م،نادي الإصلاح العربي بكريتر في يوليو 1930م، وانسجمت أهداف وإنجازات النادي مع الأهداف والإنجازات الإصلاحية الاجتماعية لنظيريَّه في التواهي والشيخ عثمان.
«إضافة إلى مخيم أبي الطيب» الثقافي والتنويري الذي تأسس بكريتر في مارس 1939م، والحلقتين الثقافيتين بالتواهي: «كرمة أبي العلاء» في يناير 1942م،و«حلقة شوقي.. أمير الشعراء» في ابريل 1942م، ونادي الشباب الثقافي في 21 ديسمبر 1947م، واسهم إلى حد كبير في قيادة الحراك الثقافي والسياسي في الشيخ عثمان، وظهرت منه أولى تباشير الدعوة القومية، وخضع مطلع الستينيات لتأثير حركة القوميين العرب فأنشأت له فروعاً بكل من: تعز والمكلا وسيئون».
التحام وثيق
يسجل كاتب مجري زار عدن عام 1937م واسمه «لاد يسلانت فاراجوا»، شهادة في كتابه «العربي الغريب ولغز بلاد العرب»، بشأن الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في عدن. فيقول: «أخذني علي -دليل المؤلف- إلى كثير من النوادي العربية، وبدأت أعيش حياة المثقف العربي، ففي عدن يوجد أكثر من 12 نادياً،.. وكانت جدران هذه النوادي التي تدعي أنها نوادٍ غير سياسية، مغطاة بشعارات سياسية صارخة، أمثال “بلاد العرب للعرب”،أو “يا عمال بلاد العرب اتحدوا”،..».
ويضيف فاراجوا:«كانت السياسة محظورة رسمياً في هذا النوادي، وقد أصر أصدقائي العرب بأن القصد منها -من هذه النوادي- كان للأغراض الاجتماعية..ومع ذلك فإن يقظة الفكر السياسي العربي في عدن قد تشكلت في هذه النوادي التي كانت تقوم بدور مهم وفعال ومؤثر في مجال التنشئة السياسية قبل ظهور التنظيمات والأحزاب السياسية. فالمناقشات كانت دائماً تدور حول مواضيع مثل التأثير المتنامي لإيطاليا في شمال البحر، ومعاناة العرب في فلسطين،..».
نضال مشترك
يذكر تقرير «الجمعية الرياضية العدنية» في 28 فبراير 1958م أن «أندية عدن الرياضية لكرة القدم والهوكي بلغ عددها 41 نادياً، وإجمالي لاعبيها 6000 لاعب، وبلغت حصة أندية كرة القدم 31 نادياً. منها: في كريتر (الاتحاد المحمدي، والحسيني، والشباب، والرياضي، والأحرار، والقطيعي،..الخ).وفي التواهي (شباب التواهي، والشعب،..).وفي المعلا (الجزيرة،والروضة،..).وفي الشيخ عمان (الشيخ عثمان، الشبيبة المتحدة «الواي»، الهلال، الشباب المحمدي،..). وشباب البريقة.
تزامن هذا النمو مع مرحلة إشهار النشاط الحزبي، ويقول علوي:أن «عدن في مرحلة الخمسينيات شهدت نمواً في الحركة الوطنية، وانتعاشاً في العمل السياسي، وبروز عدد من الأحزاب السياسية، وقد تفاعلت تلك النوادي مع كل مجريات العمل السياسي، لأن الحركة الوطنية كانت تستقطب شباب النوادي وتضمهم إلى صفوفها، أي أنها لم تكن في معزل عن النشاط السياسي وليست في منأى عن الحركة الوطنية بل إن الحركة الوطنية اليمنية استندت على دعم النوادي الرياضية في معظم نشاطاتها».
ويؤكد المناضل والباحث علوي طاهر أنه «كان رجال الحركة الوطنية ينزلون إلى النوادي للقاء بالأعضاء ومحاورتهم وشرح وجهات نظرهم إزاء الأحداث الجارية بالمنطقة. وكانت بعض أحزاب الحركة الوطنية قد نجحت في الدفع ببعض عناصرها للوصول إلى قيادة بعض النوادي الرياضية، وأدى ذلك التحام الحركة الرياضية بالحركة السياسية، فوقفت النوادي الرياضية مع نضالات الحركة الوطنية اليمنية،..وفي وجه حكومة الاحتلال، وعملت على إفشال الكثير من المشاريع الاستعمارية في المنطقة».
الأمس واليوم
مما سلف، يمكننا الخلوص إلى نتيجة مفادها: أن الأصل في الرياضة أنها جاءت لتمحو أخطاء السياسة، وتنقية العلاقات بين الشعوب، وتهيئة العقول للتفكير السليم، وأنها من أبرز مظاهر الاتصال بين الشعوب التي تتجاوز عائق اللغة، ومع ذلك فقد ضربت سلطات الاحتلال البريطاني لجنوب الوطن، بكل ذلك عُرض الحائط، وألقت به خلف ظهرها، وجعلت من الأندية وسيلة من وسائل «فرق تسد» فجنت جزاء ما اقترفته، ودفعت في نهاية المطاف الثمن غالياً.
على أن هذه المسيرة الوطنية المشرفة للأندية الثقافية والرياضية في جنوب الوطن، تثير جملة تساؤلات بشأن النشاطات العملية للأندية اليمنية القائمة في الوقت الراهن..وأين تقف من واجباتها تجاه القضايا الوطنية على الساحة المحلية.. ومن إدراك حقيقة أهمية الوعي والثقافة، لإنجاح أي نشاط إنساني والقيام به على أكمل وجه، وتعميم نفعه وجدواه لمنفذيه وللمجتمع.. وأن الرياضية إن كانت تعتمد مبدأ «العقل السليم في الجسم السليم»، فإن سلامة العقل، أوجب لمزاولتها؟.
لتفاصيل أوفى، أنظر:
1 – «الهيئات الشعبية اليمنية وأثرها في الحياة الثقافية والسياسية»، علوي عبد الله طاهر، سلسلة أبحاث منشورة في مجلة «الإكليل»، وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء، الأعداد: (1 – 3 – 4)، السنة السادسة، 1408هـ/ 1988م.
2 – «النوادي والجمعيات في عدن»، أ.م/علوي عبد الله طاهر، الندوة العلمية الأولى «عدن ثغر اليمن: الماضي، الحاضر، المستقبل»، جامعة عدن وجهات أخرى، (15 – 17) مايو 1997م، المجلد الأول، ص: (121 – 126).
3 – «العربي الغريب ولغز بلاد العرب»، الكاتب المجري: لاد يسلانت فاراجوا.
4 – احتفالات مئوية عدن (اليوبيل الماسي لاحتلال عدن) 1939م> تقرير باللغة الإنجليزية، منشور بتاريخ: 2 أغسطس 2008م، بموقع: (www.adenairways.com/Centenary.htm).