موقف الدين من المُنْبَطِحين المُطَبِّعين “علماء التطبيع” يوظفون التاريخ الإسلامي لخدمة سلاطين الجور
العلامة /عدنان الجنيد
وأما استدلال السديس بتمهيده للتطبيع بحديث : ” إن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – مات ودرعه مرهونة عند يهودي ” فهو استدلال باطل، وذلك للآتي :
أولاً : نقول للسديس وأمثاله: في أي سنة رهن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – درعه عند اليهودي ؟
• فإن قالوا: إنه – صلى الله عليه وآله وسلم – رهن درعه قبل وفاته بشهر أو بشهرين أو بسنة !
– نقول لهم : فكيف ذلك ؟! ومعلوم أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان قد أجلى اليهود من المدينة بسبب نقضهم للعهود والمواثيق، وقيامهم بمكائد ودسائس ومؤامرات ضد المسلمين، إضافة إلى تحالفهم مع المشركين لحرب رسول الله صلوات الله عليه وآله، وكان آخر اليهود الذين أجلاهم من المدينة هم بنو قريظة في السنة الخامسة للهجرة، بعدها لم يبق يهودي في المدينة ..
• وإذا قالوا : ربما رهن درعه عند اليهودي قبل أن ينقض اليهود العهود وقبل أن يتآمروا على المسلمين …إلخ.
– نقول لهم : لو فرضنا ذلك، فهل يعقل أن يظل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – سنوات عديدة ودرعه مرهونة عند يهودي ولم يقم بفكها؟!
كيف ذلك وهو القائل : ” نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يُقضى عنه ” ، وهذا حديث صححه ابن حبان وغيره ..
إن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان يحث المسلمين على فك رهوناتهم وسد ديونهم، فهل تراه – صلى الله عليه وآله وسلم – يقول ما لا يفعل ؟! حاشاه – صلى الله عليه وآله وسلم – من ذلك.. ثم ألم يروِ البخاري ومسلم (1) : ” أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدَّين فيسأل : هل ترك لدينه فضلاً ؟ فإن حُدِّث أنه ترك لِدَينه وفاء صلى ؛ وإلا قال للمسلمين : صلوا على صاحبكم …. الحديث ..
فهل بعد هذا يظل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – سنوات ولا يهتم بفك درعه الذي هو بمثابة الدين عليه ؟!
رغم الأموال والغنائم التي تأتيه، بل وخيرات البلاد كانت تجبى إليه، قال تعالى :(وَمَا أَفَاءَ اللَّـهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ …)[الحشر :6]..فما أفاء الله على المسلمين في غزوة بني النضير وفي غيرها مما يشبهها من الأموال فهي خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، عن عمر بن الخطاب قال : ” كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – مما لم يوجف المسلمين عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – خاصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة … ” إهـ .
قلتُ : فهل بعد هذا سيحتاج النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى اليهودي كي يرهن درعه عنده مقابل ما يعطيه من الطعام إلى أجل ؟!..
كيف ذلك وقد كان هو المتصرف الأعلى في كل ما يجبى إليه من أموال وغنائم؟! قال تعالى :(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّـهِ وَالرَّسُولِ ۖ..)[ الأنفال :1]، وكان له – صلى الله عليه وآله وسلم – الخمس من الغنائم كما في سورة الأنفال، ناهيك عن أرض فدك فقد كانت له – صلى الله عليه وآله وسلم – ثم وهبها لابنته فاطمة الزهراء في حياته ، فكان يدفع لفاطمة من غلتها ما يكفيها والباقي يصرفه في شؤون المسلمين، فقد جاء في ” الدر المنثور ” للسيوطي عن البزاز وأبي يعلى وابن حاتم وابن مردويه ،عن سعيد الخدري أنه قال : “لما نزلت الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ..)[الإسراء :26] دعا رسول الله فاطمة وأعطاها فدكاً، كما روي ذلك عن ابن عباس ” (2)
قلت : فهذه الروايات تثبت عدم صحة قولهم: (إن رسول الله احتاج إلى طعام لأهله فاضطر أن يرهن درعه عند اليهودي مقابل الطعام)..
ولو فرضنا بأن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – احتاج إلى الطعام، فأين أغنياء الصحابة؟! وهل يعقل أنهم سيدعونه يرهن درعه عند يهودي مقابل الطعام؟! حيث صرحت الرواية بأنه – صلى الله عليه وآله وسلم – توفى ودرعه مرهونة بعشرين صاعاً من طعام أخذه لأهله (3)..
– وتعقيباً على ماسبق طرحه أقول : هل يعقل أن الصحابة من المهاجرين والأنصار كانوا كلهم لا يملكون طعاماً فائضاً عن حاجتهم حتى يضطر رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى أن يرهن درعه عند يهودي مقابل طعامٍ لأهله ؟!..
إن الكثير من الصحابة كانوا يملكون أموالاً طائلة جعلت لهم شهرة واسعة بين أوساط الصحابة، مثل عثمان بن عفان، فقد أثبتت رواياتهم التي يعتمدون عليها بأن ” عثمان جاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بألف دينار في كمّه حين جهّز جيش العسرة فنشرها في حجره … ” (4)
وكذلك أبوبكر فقد كان تاجراً، ويروون أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قال : ” ما نفعني مال قط ، ما نفعني مال أبي بكر ” .. فهل أبوبكر افتقر بعد الهجرة أم مازال صاحب مال ؟!
قطعاً مازال صاحب مال..
ومثل أبي طلحة الأنصاري الذي كان أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل ،
انظر صحيحي البخاري ومسلم (5)
وكذلك عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة، والزبير بن العوام، وبقية العشرة المبشرين بالجنة – حسب روايتهم التي يعتمدون عليها – انظر تراجمهم في (الإصابة والاستيعاب) ، وبقية التراجم وكتب التواريخ، وسوف تعلم أنهم كانوا يملكون الأموال الكثيرة..
فهل بعد هذا سيعدل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – عن معاملة الصحابة أصحاب الأموال إلى معاملة اليهود كي يشتري منهم طعاماً شعيراً إلى أجل ، ورهنه درعه، كما في كتب الصحاح ،هل يعقل هذا ؟! ..
لا يعقل أن الصحابة يتركون رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يرهن درعه عند يهودي مقابل طعام ليسد جوعه وجوع أهله، وهم يعلمون قوله تعالى:(النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِم..)[الأحزاب :6] وقوله :(وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ..)[التوبة :120]
• ولقائل يقول : إن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كان سخياً لدرجة أنه كان يعطي المسلمين كل ما معه من مال ولا يبقي معه شيئاً، وهذا من زهده في الدنيا .
– نقول : نعم كان النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ سخياً، بل أجود من الريح المرسلة، وكان سيد الزاهدين، لكن ليس على حساب أهله بحيث يحرمهن من ضرورات الحياة كالأكل والشرب؛ لأن الرواية تنص على(أنه رهن الدرع مقابل الطعام لأهله) ، فكيف يصح ذلك والرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – أوصى أمته بالنساء خيراً!!..
وكذلك قال:”كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته” فلا شك أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان لا ينسى أهله من إعطائهن حقوقهن، وأهم هذه الحقوق التي لا بد منها هي ضروريات الحياة من مأكل ومشرب وملبس، ولا يعقل أنه يحرمهن من ذلك ..
هذا فضلاً عن أن رواية (رهنه لدرعه) لا تليق أن تنسب إليه صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو نبي الإسلام وقائد المسلمين والمسؤول الأول عليهم، فلا يعقل ولا يليق أن يرهن سلاحه عند مبغضيه الذين يكنون له العداء ويتمنون القضاء عليه، والله قد أخبرنا عن حقدهم وبغضهم وحسدهم للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وللمسلمين، ويكفي قوله تعالى 🙁 لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ..)[المائدة :82]
وسوف نكمل في الحلقة القادمة بقية تفنيدنا لهذه الرواية ، إن شاء الله تعالى .
……الهامش…..
(1) رواه البخاري ( ٢٢٩٨ ) ، ومسلم ( ١٦١٩ ) ، لكنهم لما رأوا هذا الحديث يتعارض مع أحاديث أخرى ذهبوا إلى نسخه، مع أنه – صلى الله عليه وآله وسلم – لا يمكن أن يتكلم بكلام ثم يأتي بما يناقضه في موقف آخر؛ لأنه لا ينطق إلا حقاً، ولا يقول إلا صدقاً .
(2) ” سيرة المصطفى ” لهاشم معروف الحسني ،ص 549 ، ثم عزى رواية ابن عباس إلى ” فضائل الخمسة من الصحاح الستة ” ص 136 من الجزء الثالث .
(3) أخرجه الترمذي ( ١٢١٤ ) ، واللفظ له ، والنسائي ( ٤٦٥١ ) ، وأحمد ( ٣٤٠٩ ) .
(4) رواه الترمذي وحسّنه ( ٣٧٠١ ) ، والحاكم في ” المستدرك ” [ ٣ / ١١٠ ] .
(5) البخاري ( ١٤٦١ ) ، ومسلم ( ٩٩٨ ) .