كربلاء وانعكاسها على واقع الأمة
منير إسماعيل الشامي
التشكيك في مواقف الحق وفي أعلام الأمة وتدليس الحقائق والخلط بين الحق والباطل وتزوير الأحداث ليبدو الباطل حقا والحق باطلا كان وما يزال سمة بارزة من سمات المنافقين ومن سمات أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمشركين ووسائل ينتهجونها من عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحتى اليوم، ومثلما شككوا في صحة خلافة الإمام علي -عليه السلام- وانكروا النصوص الثابتة في كتاب الله وهدي رسوله وأوَّلوها إلى غير مقاصدها، واحتجوا بسكوت الإمام علي -عليه السلام- وعدم تحركه للمطالبة بحقه “إن كان صاحب حق أو لانتزعه منهم بالقوة “متجاهلين حكمة أمير المؤمنين -عليه السلام- في ذلك وصوابية موقفه شككوا أيضا في موقف الإمام السبط الحسين بن علي -عليهما السلام- في خروجه بل وخطأوه وانتقدوه وجعلوا الامعات من عامة الناس في ذلك الزمن وما تلاه إلى يومنا هذا يقتنعون بحججهم الجوفاء ويرددونها ويروجون ﻷدلتهم المدسوسة من الأحاديث الموضوعة والأحداث الملفقة التي ابتدعها المجرمون من بني أمية وبثوها لتجهيل الأمة وغيروا بها معالم دين الله بنهج الضلال والكفر، فسياسة تجهيل الأمة عن دينها وأعلامه والتدجين لها هو النهج الذي مضى عليه بنو أمية بداية من زمن معاوية لعنة الله عليه وحتى اليوم، وهو ما أكده معاوية في رده على أنباء خروج جيش أمير المؤمنين -عليه السلام- بقوله (لأءتينه بقوم لا يفرقون بين الناقة والبعير) وهذا القول يعني أن هؤلاء القوم قد تم صناعتهم من طين الجهل والضلال باسم دين معاوية الذي يحقق مصلحته، وأن عقولهم أصبحت مقفلة لدرجة أن يلعنوا أفضل الخلق بعد رسول الله بعد صلواتهم تقربا إلى الله ولذلك فلا يمكن أن تقبل إلا ما وافق المخزون داخلها فقط، وإذا كان هذا هو حال الأمة في زمن معاوية فكيف سيكون في زمن يزيد وحملة التضليل والتجهيل لم تتوقف يوما بل تزايدت وتيرتها وتطورت طرقها يوما عن يوم وأوشكت معالم الرسالة المحمدية أن تختفي تماما وتتلاشى وتنتهي، وانعكس ذلك بتضاعف جبروت يزيد وعمالة على الامصار وتعاظم بطشهم وطغيانهم وقمعهم للمسلمين بالنار والحديد في شتى المدن والبلدان.
أدرك الإمام الحسين -عليه السلام- هذه الحقيقة الأليمة وأدرك أن حال الأمة يسير في كل يوم يمر من سيئ إلى أسوأ وأن الضلال والجهل والانحراف عن دين الله قد عم الأمة ومن الصعب جدا إعادتها إلى رشدها أو إزاحة ستاره عن عيون أبنائها والتغلب على حملة التضليل والتجهيل التي مارسها معاوية ومن بعده يزيد خلال سنوات طويلة وما زالت مستمرة بأعلى وتيرة وتمارس بمختلف أساليب الترهيب والترغيب والإغراء والاغواء وتفرض كفكر بقوة الحديد والنار وأدرك أيضا أنه من المستحيل تصحيح وضع الأمة عبر الأسلوب الدعوي والإرشادي في ظل سياسة القمع والبطش والتنكيل الأموي لكل من خالفهم.
فلم ير الإمام الحسين -عليه السلام- أي خيار لإخراج الأمة من هذا الواقع المظلم إلا من خلال موقف عظيم يخلد في تاريخها ويبقى شاهد حال لمستقبل أجيالها ومشكاة نور تنير لهم دروب الرسالة المحمدية وتهديهم إلى دينهم الحنيف وترشدهم إلى صراطه المستقيم ومحطة مقدسة تخلِّد دين جده وتحفظ كل أسسه وأركانه بصورة تعجز معها كل قوى الظلم والجبروت في الأرض وكل طواغيتها ومستكبريها عن إخفائها وعن خداع الناس فيها أو تزوير وقائعها وتجهيلهم وتضليلهم عنها بخلاف حقيقتها، في كل زمان ومكان وإلى قيام الساعة، وما من طريقة لتحقيق ذلك إلا بالخروج على الظالمين وإعلان الثورة عليهم وإعلان هدفها وتعلم أجيال الأمة المتعاقبة بكل تفاصيلها ومجرياتها يضحي فيها الحسين -عليه السلام- بنفسه وماله وأهله كثمن لتصحيح انحراف الأمة عن دين جده وهو ما فعله الإمام عليه السلام حيث أعلن ثورته من البيت الحرام وخرج منها في اليوم الثامن من ذي الحجة، وأعلن هدفها العظيم بقوله ” إنما خرجت لطلب الإصلاح في دين جدي” ومضى إلى كربلاء ليصنع اعظم موقف خالد في تاريخ الأمة بملحمة أسطورية حفظ بها دين الله وجسَّد فيها مبادئه وقيمه وقواعده وأركانه، استشهد -عليه السلام- هو والكثير من أهله وأصحابه ومثلوا بهم وقطعوا رأسه واقتادوا نساءه مكبلات بالسلاسل في اجرام. …
وظن يزيد أنه قد انتصر فازداد طغيانا وعتوا وغرورا واستكبارا لدرجة أن يعلن الكفر البواح ويكشف عن عقيدته الحقيقية لحظة وصول رأس الإمام الحسين -عليه السلام- ويرتجز فخرا بانتقامه لأسلافه الذين سقطوا يوم بدر بقوله:-
ليت أشياخي ببدر شهدوا
وقع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا واستهلوا فرحا
وقالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من سادتهم
وعدلنا مير بدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
لم يكن يعلم يزيد ولم يخطر على باله أن ملحمة كربلاء نسفت أركان دولته وأن الدماء الطاهرة التي سفكت فيها قد أحيت دين محمد من جديد وستبدد ظلام الظالمين وستخرج الآلاف من أبناء الأمة من دائرة الصمت التي خطها على الأمة ليثوروا على دولته من كل اتجاه، وأن ما يعتقده نصرا حققه هو في الحقيقة أشنع هزيمة له ولكل الطغاة والمتجبرين إلى بوم القيامة، وهذا هو الهدف الجوهري الذي خرج من أجله الإمام الحسين -عليه السلام- وقدم نفسه وكل ما يملك قربانا لله وثمنا لدينه.
وكان أول انعكاس لكربلاء على واقع الأمة أن أعادت بذور الشجاعة لقلوب الأحرار فبدأت الأصوات الغاضبة تتعالى ضد جبروت يزيد وظهرت ثورة التوابين في العراق على دولة بني أمية، ومع انتشار مأساة كربلاء وتناقلها في الامصار ظهرت الأصوات الغاضبة على دولة الأمويين فيها، ليكون الانعكاس الثاني لكربلاء في الأمة تنامي الوعي بقدسية ثورة الحسين بين أبنائها وعودة الدين الحنيف إلى قلوبهم في مختلف بلاد الإسلام، وهكذا توالى انعكاس كربلاء على واقع الأمة، وكانت ثورة الإمام زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام هي الامتداد الثوري لكربلاء ومع مرور الزمن ظلت دماء الحسين عليه السلام- تؤتي ثمارها في واقع الأمة وتنير لها دروب العزة والكرامة جيلا بعد جيل وذاع صيتها وانتشارها وتعاظمها لتتعدى انعكاساتها أمة الإسلام وتتحول دماء الحسين وثورته إلى ثورة خالدة للإنسانية في الأرض وعلما للعالم يرشد كل شعوبه وأممه إلى درب النهوض بالإنسانية ويهديها إلى كل المبادئ التحررية وإلى كل القيم الإنسانية لمواجهة قوى الطاغوت والظلم والجبروت أينما وجدت وستظل كذلك حتى زوال الدنيا.
ومن الجدير بالذكر أن المشروع القرآني الذي نعيش في ظلاله الوارفة اليوم ثمرة عظيمة من ثمار كربلاء التي جدد احداثها وجسد وقائعها الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي- رضوان الله عليه- في القرن العشرين وجعل كل ايام اليمنيين أيام كربلاء للعام السادس وأحيا به الأمة اليمنية وسيحيي به الأمة الإسلامية بإذن الله في ظل القيادة الربانية الحكيمة التي من الله بها على هذه الأمة رحمة بها وتفضلا عليها بعد الشهيد القائد ممثلة بالسيد العلم عبدالملك بن بدر الدين الحوثي يحفظه الله لمواصلة مسيرة الشهيد القائد، بحمل المشروع القرآني وتبليغه للأمة باعتباره الإطار الروحي والسلوكي لنهج الإمام الحسين -عليه السلام- فكرا وعقيدة وسلوكا وهو الإيجاز النوراني لثورته المقدسة.