الهجرة النبوية.. ثورة غيَّرت مسارات التاريخ لصالح الأمة
ماجد الكحلاني
الهجرة النبوية حدث تاريخي وذكرى ذات مكانة لدى المسلمين، ويقصد بها هجرة الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، والتي مثلت حدثاً مفصلياً بين مرحلتين هما المكية والمدنية، وشكلت أبعاداً كثيرة على تكوين الدولة الإسلامية في ما بعد واتساع رقعة الدين الإسلامي الذي انتقل من مكة (القرية) إلى يثرب (المدينة) ومنها إلى ما وراء حدود الجزيرة العربية ليكون ديناً للبشرية جمعاء.
إن من معطيات الهجرة الشريفة أنها كانت ضرورة -أكثر مما هي رغبة في التخلص من أذى المشركين- للانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة” الضعف والدعوة إلى مرحلة القوة والدولة “.
نعم لقد مثلت نقلة كبيرة كان لها شأنها ليس على العرب فحسب بل تعدتهم للأمم الأخرى ، محدثة بذلك ثورة اجتماعية واقتصادية ، حرَّكت مسارات التاريخ باتجاهاتها السلمية والصحيحة.
كانت الهِجرة النبوية من مكة المكرمة إلى يثرب نتيجة حتمية وضرورة ملحة خصوصا بعد أن ازداد الأذى على النبي وأصحابه المهاجرين ، ومُني كفار قريش بالفشل في ثنيهم ومنعهم ، مستخدمين شتى الأساليب الشنيعة التي وصفت في تفسير قول الله تعالى ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الآنفال: 30].
لقد أعلنت قريش في بقاع مكة أنه من يأتِ بالنبي صلوات الله عليه وعلى آله حيا أو ميتاً فله مائة ناقةٍ، وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب في ضواحي مكة ، وطمع سراقة بن مالك بن جعشم ليجهد نفسه في نيل ذلك الكسب ، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب جعله يعود إلى قريش مدافعاً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعدما كان جاهداً عليه.
هجرة النبي ومن معه من الصحابة المهاجرين جاءت بعد أن تهيأ السبيل إلى “يثرب” المدينة رغم سيطرة اليهود عليها في ذلك الوقت – لتكون دار الهجرة أو الانطلاقة للمسلمين ومعقلاً للدين ومركزاً للدولة ، حيث استقبل الرسول ومن معه من المهاجرين بحفاوة كبيرة من قبل الأنصار الذين بايعوه على النصرة أيام العقبة ، فكان يوم فرحٍ وابتهاجٍ …. ويوم عيد باعتباره اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة “المدينة” ومنها إلى سائر بقاع الأرض.
لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به وبالشرف الذي اختصهم به حين صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام، بل وأصبحت موطناً للنظام الإسلامي العام والتفصيلي بكل مقوماته، لتشهد أيضا تأسيس قواعد الدولة الإسلامية وتنظيم علاقة الناس على اختلافهِم بوثيقة اجتماعية تنظيمية مثلت العقد الاجتماعي الأول في تاريخ المسلمين ، سميت بوثيقة المدينة تراعي الحقوق والكرامات، وتحفظ السكينة للمجتمع وتحد من أي نزاع أو إحداث أي زعزعة فيها.
كما نزلت آيات تشرِّع كيفية التعامل مع اليهود وغيرهم، بقول الله تعالى: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الممتحنة: 8-9].
تعتبر معاهدات الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود سواء في المدينة أو خارجها صورة شديدة الأهمية من المعاهدات النبوية وذلك لاتساع دائرة احتكاكهم بدولة الإسلام على عهده -صلى الله عليه وسلم-، إلى جانب ما انتهت إليه أغلب هذه المعاهدات من غدر الطرف اليهودي برغم اتصال الوفاء النبوي العظيم.. حيث نقض يهود بنو قينقاع من بين يهود المدينة الوارد ذكرهم في عهد المدينة الشهير، حين اعتدوا على شرف امرأة مسلمة وهي تقوم بالتسوق من سوقهم، واجتمعوا بعدها على رجل مسلمٍ حاول الدفاع عنها.
ولهذا أجلى الرسول صلوات الله عليه وعلى آله يهود بني قينقاع من المدينة بالرغم من قدرته على قتلهم لنقضهم العهد واعتدائهم على حرمات المسلمين.
لم تقف هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم عند هذا الحد ولم تنته بأهدافها، وغاياتها، بل بدأت بعد وصول النبي إلى المدينة، وبدأت معها رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات فتغلب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم للوصول إلى المستقبل الباهر للأمة والدولة الإسلامية؛ التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة على أسس من الإيمان والتقوى والإحسان والعدل بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان العالم، وهما دولة الفرس ودولة الروم.