بين يدي رمضان.. هذا هو الشهر الكريم
إسماعيل إسحاق
في آخر ساعة من شهر شعبان المبارك، يطير شهر رمضان الكريم من إحدى غرفه المبنية له في رحاب الفردوس، ثم يطوف مع الملأ الأعلى حول البيت المعمور، فيسجد بين يدي ربه سجدة طويلة، حتى يؤذن له بالهبوط، فيرفع رأسه مكبراً، ثم يهبط إلى دنيانا هذه، المملوءة بالجهل والشقاء والهموم والأكدار والتحاسد والتباغض بين الأسر والبيوتات ، والأفراد والجماعات والتنكر للعلم والدين ، وتغير نيات الملوك والقادة وتمسكهم بالظهور الشخصي وحب الذات، وغير ذلك من الفساد الاجتماعي، والتباين المذهبي، والتخلق بالأخلاق الذميمة، والأساليب النكراء، التي من أجلها بعثت الأنبياء وأنزلت عليهم الكتب من السماء.
ثم يسبل على الناس جميعاً رداءه الأخضر النضر ، وينيرهم بنور جبينه الأبلج الوضاح، وعليه دثار عبقري، صنعته أيد فضية من نسيج ورق الجنة، وفي يده اليمنى كأس من بلور مملوء بالسعادة والأجور ، يفرغها على الصائمين ما بين السحور والفطور.
فياله من شهر كريم مبارك..! يوم منه وساعة أفضل من ألف يوم وساعة، وليلة القدر فيه خير من ألف شهر.. فكأنما هو نبي مرسل ، أو ملك كريم منزل، يظل طول نهاره ناشراً أجنحته البيضاء على جميع سكان هذا العالم، من كل صائم وفاطر وغافل وذاكر، ومحب وساخر، وعامل وتاجر، ومقيم ومسافر، وجاحد وشاكر، وبر وفاجر، ليشهد على هذا ويشهد لذاك. ( فمن أبصر فلنفسه ، ومن عمى فعليها ).. ثم إنه يكفكف من بساطه المسبل إذا اقبل الليل ، ويترك هذا العالم يموج بعضه في بعض ما بين ساعة وأخرى، ثم يغادر مجالس الشره والخور، والعجرفة والبطر، إلى مقامه المعلوم، له بين السموات والأرض، ويستغفر لأمة سيدنا ( محمد ) صلى الله عليه وآله وسلم أجمعين.. ويكثر من تلاوة قوله تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ).. فإذا جاء وقت السحر تدلى قليلاً إلى الأرض وفعل مثلما كان فعل، وهكذا يستمر شأنه في الناس، إذا عاش فيهم ساعة مرت منه ساعة، وإذا عاشرهم يوماً ذهب منه يوم.
فسلام عليه يوم طوافه وسجوده، وسلام عليه عند حلوله وإقامته، وسلام عليه حين استغفاره وتلاوته، وسلام عليه عند نشر ظلاله، وسلام عليه في حطه وترحاله، وسلام عليه إذا جاء وقت السحر، وسلام عليه إذا الليل أقبل، وسلام عليه إذا النهار أدبر، وسلام عليه إذا أمسك الصائم، وإذا الصائم أفطر.
فما أحق هذا الإنسان بالتوبة والإنابة، وما أجدره بأن يعلم – قبل كل شيء – أن من عجز عن التوبة والتفلت من قبضة المعاصي، فليصم صوماً حقيقياً حتى تتعود نفسه وجوارحه ملازمة الطاعة، وتذوق حلاوة العبادة، لتحل مرتبة مرموقة من مراتب الإيمان، وتنفر من كل رذيلة في رمضان وغير رمضان.
وفوائده كثيرة، وهي أقسام ثلاثة، (روحية، ودينية، وطبية)، فمن عمل فيها عن معرفة فهو صائم حقاً، ومن لا فلا.
فالصوم الحقيقي ليس فقط مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، وإرسال الجوارح بعد ذلك فيما تشاء وتريد ، فيفوت لذلك عن الصائم غرض الصوم وحكمته وفوائده، وقول الشارع الحكيم صلوات الله عليه: ( رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش ).. وإنما الذي يلزم هو إمساك اللسان عن الشتم والنبز وكثرة الكلام إلا لحاجة، وتطهير القلب من الحسد والبغض والغضب، وإمساك السمع والبصر عن كل محرم عليهما، وإمساك النفس عن استرسالها في الشهوات والملذات، والتزام أكل الحلال.. وأن يشعر الإنسان نفسه أنه في عبادة دائماً، ليل نهار.. فهذه طريقة قريبة شاملة لجميع الفضائل، ولا صوم بدونها، وللراغبين في الأعمال زيادة.
ولله الحمد في الآخرة والأولى ، وهو حسبنا وعليه اعتمادنا.
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما.
تقبل الله صيامكم وشهركم مبارك كريم.