عبد الرحمن مراد
كانت أوراق الأشجار تبدو كبقايا البلور , بعد مساء ممطر , تظلل أوقاته أسراب الضباب , والجو كان ممتعاً , يبعث روحاً وصباحاً دافئاً , قطرات الندى تشبه قطرات الحنين التي تسكبها مآقي اللوعة في ساعات الفراق , الإيقاعات اللبنانية رقصت على أوتار القلوب بفيض غامر من الاشتياق والحنين ونحن نرى الجبال تذوب تحت عجلات السيارة التي نمتطيها .
ما يزال ( فهد القدمي ) يحدثننا عن المكان , وعن عطره الذي فاح في جنبات وجدانه في تلك الهنيهات , و( عبد الواسع راجح ) غارق في تأمله في المقعد الخلفي للسيارة , أما أنا فكانت مقلتاي تسرح أن كسرب من طيور النورس التي تحاول الهجرة والخروج من لحظتها .
كانت وجهتنا مدينة الظفير ، والظفير «نصير وزناً ومعنى «, مدينة قديمة ما تزال آهلة بالسكان , كانت تشكل ملاذاً آمناً لكل هارب من جور السلطان , أو باحث عن الأمان والاستقرار وهي إحدى أهم هجر العلم القديمة في اليمن، وتقع شمال مدينة حجة , وتبعد عنها بـ ( 15 ) كم2 تقريباً , ومركزها الإداري مديرية مبين ( بفتح الميم , وسكون الباء , وفتح الياء ) .
الظفير مدينة حصينة ممتدة الأطراف تبلغ مساحتها ( 3 ) كم2 , محاطة بسور شبه دائري , تتخلله أبراج اسطوانية الشكل وظيفتها الدفاع والمراقبة , ولها بابان كبيران أحدهما في الجهة الشرقية للمدينة ويسمى باب المرشة ( فتح الميم وسكون الراء وفتح الشين ) والمرشة «هربة وزناً ومعنى» , وهذا الباب يفتح إذا حدث وهُزمت المدينة للهروب منه , والباب الآخر يسمى ( باب السوق ) ويقع في الجهة الغربية للمدينة , وهو الباب الرئيسي للمدينة للخروج والدخول من وإلى المدينة، ويتصل هذا الباب بالخارج بطريق مرصوف بالحجارة المنضدة تنضيداً هندسياً فريداً بحيث تجعل مرور العربات التي تجرها الخيول سهلاً وطيعاً , وعرض هذا الطريق ما بين ( 3-6 ) أمتار , وقد يبدو للوهلة الأولى الأثر العثماني بارزاً عليه , كما هو كذلك في التحصينات الحربية للمدينة .
وشوارع المدينة وبعض أزقتها مرصوفة بالحجار , وخاصة تلك التي تؤدي إلى الحصن الحربي الواقع في الجهة الشرقية على خط التماس مع القمة .
والتأمل في سور المدينة يثير في المتأمل الدهشة , ويرسم في مخيلته علامات الاستفهام المتعددة , ولا يسع المتأمل إلا القول بعظمة الإنسان وقدرته على التعامل مع الظروف الطبيعية بما يتناسب وحاجته إلى الأمن , فقواعد السور مثلاً تم بناؤها في أماكن خطرة آخذة في الانحدار إلى الأسفل دونما ساند طبيعي يسندها أو مادة مساعدة قادرة على إحداث التلاحم والثبات للبناء , ولعل بقاء السور وقواعده بالذات لسنين بل لقرون يوحي بأن الإنسان كان يملك من الرؤى الهندسية ما يجعله قادراً على مقاومة قوى الطبيعة ومؤثراتها , ولديه من سعة الأفق ما يجعلنا نقف مبهورين أمام عبقريته وإبداعه .
في الجهة الغربية للسور فجوة طبيعية , هذه الفجوة منحدرة وغير مأمونة لكن الإنسان استطاع أن يعمل على سدها بواسطة الحجارة زيادة في الحيطة , وخوفاً من التسلل .
قيل إن الحاجة أم الاختراع، فهل يكون سبب ذلك الابتكار حاجة الإنسان إلى الأمن ؟ ربما .
قد لا أكتم سراً إذا قلت إنني وقفت على تلك الإطلال مبهوراً، لم يكن الإنسان القديم يملك ما نملك نحن الآن من الآلات المعينة على صنع المفردات العجيبة لكنه استطاع بقدراته الذاتية أن يصنع المعجزات .. إنه عظيم حقاً .
وعظمته تكمن في ذاته , في إيمانه بقدرته على قهر المستحيل .
وهذا التحصين الطبيعي منه والمصنوع , لم يكن وحده قادراً على حماية المدينة من الغازين , بل كان هناك حراسة دائمة ومستمرة , إذ أن هناك ثلاث ثكنات جنود في ثلاث جهات للحراسة , وهذه الثكنات تسمى ( قشلة ) ( بفتح وسكون وفتح) وتصميم القشلة يتناسب ووظيفتها في المراقبة والدفاع , إذ يلاحظ أن بها فتحات مائلة تحفظ سلامة الرامي من الداخل ولا تمكن رصاصة الغازي من دخولها , وهي قادرة على الصد والصمود , كما أن بناء السور والتحصينات العسكرية قد راعى القدرات الكبيرة لقذيفة المدافع فكانت حجارة البناء من الأحجام القادرة على مواجهة تلك القذائف , والقادرة على صدها وعدم اختراقها للسور أو للتحصينات , والقادرة على صدها وعدم اختراقها السور أو التحصينات العسكرية , وهي تتناسب والقدرات العسكرية حينها.
طبيعة الأرض
أسلفنا القول أن مدينة الظفير بنيت على قمة جبل , هذا الجبل يسمى جبل الظفير , وهو ذو تكوين بركاني صلب , ويعتبر واحداً من سلسلة جبلية تقع في الجهة الشرقية لمدينة حجة عاصمة المحافظة، وهذه السلسلة تبدأ بالارتفاع المتدرج من الشمال إلى الجنوب , وجبل الظفير أعلى قمة من جهة الشرق ويوازيه جبل آخر يسمى جبل ( مبين ) من جهة الغرب وعلى قمة جبل مبين تقع مدينة محصنة أخرى تسمى حصن مبين , وبين الجبلين قمة أعلى منهما وفيها مآثر قديمة تسمى « الناصرة « وبها حصن يمسى حصن الجاهلي .
وقد يصل انحدار تلك القمم إلى قيعاع الوديان كوادي شرس ووادي مور وتتخلل تلك القمم قيعان منبسطة ما ساعد الإنسان على القيام بالأنشطة الزراعية , لملاءمة الظروف الطبيعية وخصوبة التربة نتيجة الترسب، وهذا التنوع في التضاريس جعل من المكان ملاذاً للإنسان يقصده متى شعر بخوف يتهدد حياته كما تجلى ذلك في العصور الوسطى والمتأخرة حين بدأ الصراع يحتدم بين الدويلات على أسس مذهبية , أو بين أرباب المذهب الواحد كما حدث بين أرباب المذهب الزيدي الذي وصل الحال برجاله إلى قيام كل طائفة بمبايعة إمام لها , فيشتعل فتيل الصراع وغالب الأئمة المهزومين كانوا ينقطعون للعلم والتأليف في مدينة الظفير وأشهر أولئك الأمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الذي بايعه الناس إماماً في شهر شوال من سنة 793 هـ في مدينة صنعاء بمسجد جمال الدين , ثم سجن في قصر صنعاء من سنة 794 هـ إلى سنة 801 هـ ورحل إلى الظفير واستقر به المقام فيها إلى أن وافته المنية سنة 840 وما يزال قبره مزوراً حتى الآن وسنأتي على ذكره .
برج المراية
مفردة «المراية» هنا تصحيف لمفردة المرآة , وهذا البرج يعتبر أكبر برج في الظفير استحدثه العثمانيون للتراسل العسكري فيما بينهم عن طريق الإشارات الضوئية العاكسة , بينهم وبين الحصون البعيدة كحصون الشرفين وكحلان عفار وحجة وشهارة والاهنوم .
ويقع في الركن الجنوبي الشرقي في أعلى ذروة من الحصن، ويحكي المعمرون أنه كانت هناك مرآة كبيرة قادرة على التقاط الإشارات البعيدة .
الكهوف والمغارات
في مدينة الظفير ما يقارب ( 15 ) كهفاً ومغارة , بعض تلك الكهوف والمغارات كان طبيعياً حاول الإنسان تأهيله ليصبح ملاذاً له عند الشعور بالخطر , وبعضها صنعها الإنسان حماية له من الغارات , والمدهش أنك تشاهد بعض المغارات محظورة في جوف التكوين الصخري وأبرز تلك الكهوف والمغارات :
-حود الزابور : وهو أحد المعالم البارزة في المدينة , إذ يبلغ طوله ( 20 ) متراً وعرضه ( 15 ) متراً , ويوجد في داخله تفرعات على أشكال فريدة مثل الغرف والجيوب التي تتخذ أشكالاً متعددة .
-حود المعمش : ويشبه إلى حد كبير حود الزابور في تكوينه الداخلي , استخدم في فترات عديدة كسكن أثناء الحروب , آخرها حرب السبع السنوات التي شهدتها اليمن في ستينات القرن الماضي بعد اندلاع شرارة الثورة في سبتمبر من عام 1962م .
وفي حصن مبين المقابل لمدينة الظفير قام الإنسان ببناء ملاجئ له تحت الأرض , مهيأة للسكن وبناؤها فيه من البراعة والإبداع ما يجعل مثلي يقف مدهوشاً ومتأملاً إبداعات الإنسان القديم وبراعته الهندسية , إذ أن أعمدة الملجأ مبنية من الحجارة المنضدة على شكل دائري يأخذ شكل القوس عند السقف ليتصل بعمود مماثل له , وسقف الملجأ اسطواني الشكل مرصوص بالحجارة المستطيلة التي لا يتجاوز حجمها 20 سم.. ما تزال الملاجئ ماثلة للعيان , لكنها تنتظر العناية والرعاية من قبل الدولة لتظل شاهدة على قدرة الإنسان القديم وتعاطيه مع ظروف الحياة والطبيعة من حوله .
• النظام الاقتصادي في المدينة
الأمن من الخوف يتوازي معه الأمن من الجوع والأمن من الخوف والامن من الجوع هما النعمتان اللتان امتن الله بها على قريش كضرورة حياتية وفطرية يرغب فيها الإنسان ويطلبها إذ يلتقيان في نقطة البقاء , وحب البقاء فطرة فُطر الإنسان عليها، لذلك نجد إنسان الظفير قد وازى بينهما فلم تكن حاجته إلى الأمان أقل شأناً من حاجته إلى الغذاء وأمن الجوع، لذلك فهناك عدة مقومات يرتكز عليها اقتصاد المدينة، وهي مقومات ذاتية نوجز بيانها كالتالي :
• نظام الحائط :
الحائط واحد الحيطان و ( حوط ) كرمه ( تحويطاً ) بنى حوله حائطاً , كما جاء في قاموس مختار الصحاح للرازي , وهو بهذا المعنى عند إنسان الظفير , وهذا الحائط يكون داخل الأسوار ليلبي حاجة الإنسان الغذائية إذا حدث وحوصرت المدينة وما زالت المآثر تدل على عدد من تلك الحيطان هي كالتالي :
1 – حائط الجمرة السفلى .
2 – حائط القيلي .
3 – حائط معتل .
4 – حائط الجرمة العليا .
5 – حائط هديسان .
6 – حائط الهجري .
7 – حائط السر .
• نظام الحظيرة :
والحظيرة تخرج عن دلالتها القاموسية إلى فضاء أوسع قد يكون متداخلاً مع الدلالة القاموسية , فالحظيرة هنا ليست المكان الذي يظل الحيوان من البرد والريح , بل تعني المكان الذي يقطنه الحيوان ويوفر في نفس الوقت الغذاء له وللإنسان، بمعنى أن المزرعة هي التي تهتم بإنتاج الغذاء المشترك كالحبوب مثلاً، إذ أن الحبوب غذاء مشترك بين الحيوان والإنسان , وهذه الحظائر تكون خارج السور في المناطق المحيطة بالمدينة , وهناك ما يقارب 12 حظيرة ما زالت أسماؤها عالقة في أذهان الناس هي كالتالي .
– حظيرة الشرقية – حظيرة الظفرة
– حظيرة غزوان – حظيرة شعب حنين
– حظيرة شعب العنب – حظيرة المغزالة
– حظيرة بن ناجي – حظيرة دبيس
– حظيرة أبو ظفر – حظيرة المدخل
– حظيرة أحمد علي – حظيرة الخلا
وهذه الحظائر إنتاجها موسمي وهي تلبي حاجة سكان المدينة من الحبوب وأعلاف الحيوانات .
• نظام المدافن :
مدفن مفعل اسم مكان يكون تحت مستوى الأرض يتفاوت حجمه بين كبير وصغير حسب القدرة والحاجة وطبيعة الأرض، وهو مرصوص بالحجارة ومصمد بالقضاض منعاً للرطوبة أو نفاذ الهوى ,وله فتحتان واحدة تكون عند مستوى الأرض وأخرى دون ذلك قد لا تتجاوز قامة الرجل، ووظيفة المدفن حفظ الحبوب لأعوام عديدة تحسباً لقحط السنين أو لفقدان الأمن، وقد بلغ عدد المدافن في مدينة الظفير ما يقارب ( 360) مدفناً بعدد أيام السنة وقد يقتات الناس من المدفن الواحد مدة عام كامل، والمدفن يحافظ على القيمة الغذائية للحبوب لعشرات السنين دون أن تتأثر بعوامل الزمن أو يخامرها شيء من التلف والتسوس، والحبوب لا تحفظ في سنبلها ولو أن ذلك يحقق لها قدراً من البقاء بل مفصولة عن سنبلها .
• الشِّوُن ْ :
لا أدري إن كانت هذه المفردة حميرية أم أنها تركية لكنها تعني مكان تخزين العلف للحيوان لاستخدامه في أيام الحروب أو القحط ولا يكاد يخلو مكان ما من شونة ، ونظام تخزين العلف يكون بعد أن يتعرض للشمس لمدة أيام حتى تذهب رطوبته ويميل إلى الجفاف، وموسم جمع الأعلاف في اليمن يكون في نهاية فصل الخريف في موسم يسمونه موسم ( علاَّن ) وفي هذا الموسم تتعالى الأصوات بالأهازيج وتتناغم الطبيعة بالأصوات العذبة، ولهم في ذلك عادات وغناء وأصوات لم يبق إلا أثرها عند كبار السن من المعمرين .
• الأسواق :
ما تزال الذاكرة الشعبية في الظفير تحتفظ بأسماء الأسواق الكائنة في المدينة وما تزال مآثر بعض الأسواق ظاهرة للعيان وقد يدل تعدد الأسواق وتخصصها على النمو المطرد للمدينة، إذ أن الغالب في الأسواق خاصة في المجتمع اليمني الريفي التداخل في العرض واجتماع الناس للتداول وتبادل المنافع في زمن محدد ومكان محدد، وغالباً ما تسمى الأسواق بأسماء الأيام التي تقع فيها كأن يقال سوق الاثنين أو السبت وما شابه ذلك، أما في المدينة فيكون هناك قدر من التخصص في تحديد أماكن للمعروض فلكل سلعة مكان خاص بها ويسمى المكان باسمها كأن يقال مثلاً ( سوق الملح ) أو سوق ( الجنابي ) وما شابه ذلك .
وفي الظفير كان هناك ما يقارب ستة أسواق هي :
– سوق الحطب – مكان بيع الحطب
– سوق المعاصر – مكان عصر الزيوت
– سوق المحدادة – مكان صنع الحديد
-السوق الأسفل
– السوق الأعلى
– سوق الخاطبي .
هذا التنوع يدل على المكانة الاقتصادية والسياسية التي كانت تحتلها مدينة الظفير في تاريخها الغابر، وهذه المكانة كان لموقعها الاستراتيجي دور بارز فيها.. حسب المقياس القديم احتلت موقعها المتقدم من بين الأماكن الأخرى والمدن بالإضافة إلى كونها مقصد طلاب العلم وظلال أمان لطلاب اللجوء السياسي، وهذا الأمر سنبسط الحديث عنه لاحقاً .
• صهاريج المياه :
لا تخلو بقعة من أرض اليمن من سد أو بركة ماء أو خزان , ومدينة كالظفير بحكم موقعها ومكانتها ما كان لها أن تخلو من صهريج ماء فهي معرضة للحصار الذي قد يدوم طويلاً بحكم قدرتها الدفاعية وموقعها الحصين بالإضافة إلى حاجة سكانها الحياتية وتحسباً لقحط السنين لذلك فقد بلغت صهاريج المدينة (31) صهريجاً متنوعة الوظائف إذ أن بعضها يكون خاصا بالشرب وهذه الصهاريج تكون مسقوفة ومصادرها الأماكن النظيفة كأسطح المساجد , والآخر يكون مفتوحاً يستخدم للري وسقاية الحيوانات , وبعض منها يكون بقرب المساجد وتستخدم للتطهر والوضوء .
وبناء الصهاريج يتطلب دقة وعناية فائقين ومن خلال تلك الصهاريج يكتشف الإنسان القدرات الهندسية والإبداعية للإنسان القديم وقدرته على التكيف مع ظروف الطبيعة وخلق مقومات بقاءه .
ولعل تلك الصهاريج قادرة على القيام بوظائفها رغم مرور مئات السنين وهي مصمدة بالقضاض من المستحيل أن تجد شرخاً تتسرب منه المياه إلى جوف الأرض وهي ما تزال ماثلة وتقوم بوظائفها حتى الآن ولا ندري كم سيمتد عمرها الافتراضي
• النشاط العلمي والثقافي للمدينة .
لعل المدينة اكتسبت أهميتها العلمية والثقافية بعد هجرة الإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى ت ( 840 هـ ) مع بداية القرن التاسع الهجري وانقطاعه فيها للتدريس والتأليف حيث بلغت مؤلفاته أكثر من ثلاثة وثلاثين مؤلفاً توزعت بين الفقه وعلم الكلام والأصول واللغة والتاريخ والزهد والمنطق والحديث وأشهر كتبه كتاب ( متن الأزهار في فقة الأئمة الاطهار ) المرجع الفقهي للمذهب الزيدي وقد اشتمل على28 ألف مسألة من مسائل الفقه وهو علم من أعلام اليمن المشهورين وكتبه مطبوعة ومتداولة .
• المساجد :
ظلت المساجد هي مركز الإشعاع المعرفي طول حقب التاريخ إلى فترات متأخرة من النصف الأخير للقرن الماضي خاصة في اليمن كونها عاشت ظروفاً استثنائية طوال تأريخها الإسلامي وقد ظل التوق إلى المعرفة والتعلم ديدن الإنسان وملاذه وكل مساجد اليمن القديمة تجد بجوارها ملحقات تسمى « منازل « تقوم بدور الكتاتيب في البلدان الأخرى خاصة في المناطق التي أبعدتها ظروف الصراع السياسي عن أجندة الاهتمامات للحكام والسلاطين والأئمة الذين تعاقبوا على حكم اليمن .
وقد عمل بعض الحكام على بناء مدراس نموذجية في اليمن كمدرسة «الأشرفية» في تعز و»العامرية» في رداع والمدرسة «الشمسية « في ذمار بيد أن مدينة الظفير ظلت بمنأى عن مثل ذلك وظل المسجد هو المنارة الوحيدة للتذاكر والتعلم والثقافة , وقد بلغ عدد المساجد فيها سبعة عشر مسجداً كانت جميعها تقوم بدور المدارس الابتدائية في الوقت الحالي، ومن يتمكن من حفظ القرآن الكريم وحذق البياض ( القدرة على القراءة والكتابة ) وأراد الاستزادة فليذهب إلى هِجَر العلم والمدارس العلمية كي ينال الإجازة في كل علم يرغب فيه .
• هجرة الظفير :
ليس هناك تاريخ يحدد بداية هذه الهجرة العلمية، بيد أن شهرتها اكتسبتها من شهرة الإمام المهدي ومكانته العلمية , ومن ثم من خلال العلماء الأعلام الذين تعاقبوا على الهجرة للتدريس والإملاء والتصنيف ، وطار صيتهم في الآفاق مثل العلامة لطف بن محمد الظفيري صاحب (الإيجاز في علم الإعجاز) و( أرجوزة الفرائض) والحسن بن محمد الزريقي الهمداني صاحب كتاب (حاشية على الأثمار) (وسيرة الإمام شرف الدين) وغير أولئك كثر ممن تحدثت عنهم كتب التراجم .
والهجرة هنا تعني الانتقال من حال إلى حال، والانتقال هنا انتقال سلوكي أي الانتقال من حال الاشتغال بالحياة وحاجاتها إلى حال المعرفة بها والاشتغال عليها وذلك بمفارقة الأهل والاعتكاف في الهجر التي غالباً ما تكون ملبيةً لضرورات الحياة من ملبس ومأكل ومشرب وسكن , ومصدر تمويل الهجر يكون من الزكاة التي يسوقها القبائل إلى القائم على الهجرة والمتصرف في شؤونها الإدارية .
وهجرة الظفير العلمية في جامع الإمام المهدي الذي بناه حفيده الإمام شرف الدين
( ت 965) في القرن العاشر الهجري وتقبع في جهته الشمالية قبة بها قبر الإمام المهدي وتحيط به ملحقات سكنية تسمى منازل معدة كسكن لطلاب العلم وتوجد فيه عدد من البرك المائية منها ما هو مخصص للوضوء ومنها ما هو مخصص للمأكل والمشرب وثمة مساتر ( حمامات ) مخصصة للاغتسال وهذه المساتر مبنية بطريقة غاية في الروعة والإبداع .
وساحات الهجرة والجامع مسورة وأرضيتها مرصوصة بالحجارة المصمدة بالقضاض .
وما يزال الجامع والهجرة يحملان كل قسمات الماضي وكل طهارته , وما يزال الناس يؤدون الصلاة في الجامع وينقطعون أياماً لقراءة القرآن عند ضريح المهدي في قبته ويؤدون أيضاً الصلاة في نفس القبة التي تبدو من داخلها وكأنها مسجد صغير ولها محراب، وفي وسط المسجد ضريح المهدي يحيط به قفص خشبي مزخرف بارتفاع ( 1.5) متر تقريباً مغطى من كل جوانبه تشعر وأنت هناك برهبة وروحانية عجيبة كما تشعر بكل جلالة الماضي وعظمته .
والمكان له معنى القداسة عند الناس إذا كانوا ينذرون أبناءهم وأموالهم للمهدي تبركاً وطلباً لنعمة ما ، كأن يرزق أحدهم ولداً وإذا تخاصموا ولزم على أحدهم اليمين حلف اليمين عند الضريح وقد يبلغ بذلك غاية الرضا اعتقاداً أن روح المهدي لن تترك ظالماً أو كاذباً , وأن روحه الطيبة تجلب الخير لكل متقرب بها إلى الله .
وما زال مثل ذلك دأب الناس حتى اللحظة فقد قيل لنا إنه إذا نذر أحدهم مبلغاً من المال لقراءة القرآن فقد يشترط على القارئ القراءة في قبة المهدي أو قبة أبو طير، وقبة أبو طير هذه تقع وسط المدينة وهي مغلقة ولم نتمكن من دخولها وقد قيل لنا إنها لا تفتح إلا إذا كان هناك نذر لقراءة القرآن ولم نتمكن من معرفة شيء عنها إذ أن الذين التقيناهم هناك لم يتفقوا على مسماها فقد قال بعضهم إن اسمها قبة القاضي، وقال آخرون بل قبة أبو طير وإذا كان الحال كذلك فكيف يتفقون على تاريخها .
يبقى القول أن هجرة الظفير قد أثرت المكتبة الإسلامية بمئات المؤلفات في شتى العلوم، وكان للعلماء الذين تعلموا أو علموا في الظفير أثر واضح وجلي في تاريخ الحركة الفكرية والعلمية في اليمن وفي العالم الإسلامي ومن حق هذه الهجر العلمية أن تخلَّد في ذاكرة الأجيال كمزار سياحي وثقافي .
• الدور السياسي لمدينة الظفير :
لم تكن الظفير – بما لها من مكانة وعلم ومنعة- أقل شأناً من غيرها في التفاعل مع المشهد السياسي والتأثير والتأثر به، ذلك لأن الصراع كان سمة غالبة في تاريخ اليمن الوسيط إلى حد أن كان في كل بقعة إمام بل بويع في يوم واحد مائة إمام والإمامة عند الهادويين لها أربعة عشر شرطاً تسقط بانتفاء أحدها ولا يبايع عامة الناس إلا بعد إقرار العلماء الأعلام بالبيعة وإشهارها، وقد كانت الظفير موطن بعض من دعا لنفسه بالإمامة ومن أولئك الإمام الهادي شرف الدين بن محمد بن عبد الرحمن عشيش ( 1245 – 1307)هـ الذي دعا لنفسه من الظفير في شهر صفر عام 1296هـ ثم غادرها إلى الأهنوم وهناك بايعه علماء صعدة بعد أن انتدبوا إليه اثنين من علمائهم هما محمد عبد الله الغالبي وأحمد بن إبراهيم الهاشمي ونظرا في علمه ومدى توافق الشروط عليه وعندما تأكدا من سلامة الشروط وتوافقها بايعاه وألزموا الناس بطاعته وعلى إثر ذلك انتقل إلى مدينة صعدة في شهر ذي الحجة من عام 1298 ونزل حصن سنارة وجعله مقر حكمه ودار مملكته .
وقد خاض الإمام حروباً عدة مع العثمانيين الذين كانوا يحكمون اليمن في جهات متفرقة من اليمن وقد وافته المنية في حصنه في التاسع عشر من شوال من عام 1307هـ وسيرته مدونة ومطبوعة كتبها القاضي عبد الله بن علي العنسي وسماها ( تحفة الفكر ونزهة النظر في سيرة الإمام المجدد على رأس المائة الثالثة عشرة ) .
وفي بداية القرن الثاني عشر الهجري وتحديداً في سنة (1121) هـ دعا اسماعيل بن أحمد بن عبدالله الكبسي لنفسه من الظفير ومكث فيها إلى أن داهمه المتوكل أحمد بن المنصور وكان يضمر أسره فخرج منها إلى صعده على إثر مكاتبة كانت فمكث في صعده ثلاثة عشر عاماً ثم اتجه إلى برط لعله يجد عوناً من أهلها فخاب ظنه فتخلى عن دعوته .
ولعل منعة الظفير قد جعلت منها هدفاً لكل نظام يحكم اليمن، فقد شهدت حروباً متعددة آخر تلك الحروب ما شهدته في عام ( 1968م) بعد قيام الثورة وصراع الملكيين والجمهوريين حيث أعلنت ولاءها للنظام الجديد فرابطت فيها قوة مكونة من ثلاثين جندياً من لواء الوحدة وما لبثت أن وقعت في الحصار من جانب القبائل الموالية للنظام الملكي وظلت محاصرة حتى نفد كل شيء لدى المحاصرين، ويذكر المواطنون أن الطائرة العسكرية كانت تسقط عليهم المواد الغذائية فيتهافت الناس عليها ولم تصمد كثيراً إذ سرعان ما دخلتها القبائل ورفض قائد الفرقة تسليم نفسه بل قاوم حتى وجد أن لا فائدة فرمى بنفسه من شاهق جبل الظفير خوفاً من أن يقع في أيدي القبائل، وما زال كبار السن يتحدثون عن شجاعته وبطولته وقيل لنا إن اسمه حسين الغولي وذلك آخر حدث شهدته الظفير، إذ بعد ذلك بسطت الثورة اليمنية سلطتها على كل اليمن وسادت ظلال الأمن والاستقرار وبدأت مرحلة البناء والتعمير وإرساء الأسس الأولى لمداميك الدولة الحديثة .
وقد نال الظفير نصيباً من طيران التحالف إثر العدوان على اليمن الذي حدث في مارس من عام 2015م وظل مستمرا خمسة أعوام وما يزال زمنه مفتوحا فهو لم ينته بعد , حيث شهدت الظفير عددا من الغارات استهدفت البيوت والمدينة, رغم عدم وجود مبرر لقصفها بتاتا لا عسكري ولا سياسي .
• لحظة تأمل وشجن :
الظفير مدينة تسرج حلمها على صهوة الوقت وتظل واقفة بهامة تحمل كل كبرياء الماضي وكل خيلائه، تحدثك وهي مطرقة عن ذلك الإنسان الذي حفر في الصخر وجعل من ذاته مصدر قوة تصارع كل قوى الطبيعة القاهرة .
في طريقك إليها تلتفت يمنة فترى ثمة قرية نائمة على هامة قمة ، أو يسرةً فترى ثمة كوخاً على صدر جبل شامخ، وبين هذا وذاك إنسان يبحث عن الأمان في أحضان الطبيعة.
قد تقف الجبال كشيخ جليل تحدثك عن قصة الإنسان الذي عبث به الشر واصطرع في داخل الشيء الكثير كالحب والكراهية والموت والحياة .
تحدثك أطلال الإنسان القديم في الظفير وفي اليمن كله أن الأمن بكل أطيافه هو مصب كل إبداعات الإنسان واختراعاته , وقد حاول جهده أن يضمن لنفسه كل معاني العيش الكريم وأن يحتاط من الخوف بالخوف نفسه , فسكن في القمم الشاهقة والبالغة الانحدار إلى الأسفل , قهراً للخوف وطلباً للأمان، ونحن حين نقف على اطلاله الآن نخاف ونعجب لقدرته على معالجة إحساس الخوف بالاقتراب منه .
أما الميزة الأهم التي نقرأها ونحن نقف على أطلال الماضي, فهي الاعتماد على الذات وتفجير طاقاتها الجبارة , لتحقيق القدر الكافي من الاستقلال , ومن ثم العزة والكرامة , وتلك هي الصفات التي اتصف بها الإنسان العربي القديم .
سأكون عاجزاً عن بث كل مشاعري هذه اللحظة , ولكن دعوني أعود أنا وزملائي من هذه الرحلة , فقد بدأ الضباب يداهمنا من كل اتجاه سنترك الظفير , وهي تسرج حلمها على صهوة الوقت وتغادر إلى الزمن الآتي لعلها تحط رحالها , أما نحن فسنعود إلى المكان الذي جئنا منه , وثمة شجن كضباب الظفير , ما زال يحجب عنا الرؤية لعله سينجلي في قادم الأيام .
المراجع:
البدر الطالع للإمام الشوكاني .
كتاب “الحركة الوطنية من الثورة إلى الوحدة” لسعيد الجناح .
كتاب وثائق بعنوان ” التراث العلمي لظفير حجة” جمعية- الظفير الاجتماعية.
هِجَر العلم ومعاقله في اليمن للقاضي إسماعيل الأكوع.