للذود عن كبرياء الأمة ..
أحمد يحيى الديلمي
في مقولة للمسيح عيسى بن مريم عليه السلام عقب حادثة اتهام مريم المجدلية باقتراف الفاحشة والحكم عليها بالرجم ، وفي لحظة تنفيذ الحكم عندما تحلّق الناس بالأحجار مستعدين للتنفيذ ، أطلق المسيح مقولته الشهيرة (من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر ) بدأ بنفسه بإلقاء الحجر التي بيده تنكست الرؤوس وتتابع إلقاء الحاضرين ما بيدهم من أحجار للدلالة على استيعاب الدرس النبوي العميق ، فلقد حدد صفات الشخص المؤهل لإقامة الحدود وتراجع عن الفعل بنفسه ، رغم أن الله عصمه عن الخطأ ، إلا أنه أراد تعريف اتباعه بأخلاق وقيم الدين الإلهي كأهم محور لتهذيب السلوك وتقويمه، وأن العملية تبدأ بتطهير النفس من الذنوب والآثام والأوزار ومحاسبتها .
المبدأ أكد عليه الإسلام وحض على التمسك به بنصوص قرآنية واضحة قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) .
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) صدق الله العظيم .
وهناك أحاديث متواترة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أكدت على نفس المضمون ، إضافة إلى النص القرآني العميق في المعنى والدلالة الذي ربط الاحتساب وتقويم المسار بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) .
الوقوف بوعي وإدراك لدلالات النص العميقة يوضح اهتمام الإسلام بإقامة المجتمع السوي القائم على العدل والمساواة ، فلقد ربط فعل الكينونة بطبيعة المهمة ، فدل على الاستمرارية والشروط المطلوب الالتزام بها للارتقاء بالأمة إلى مرتبة الخيرية ، واختزله في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي نص آخر وضع المهمة على كاهل جماعة يجب أن يكونوا على درجة عالية من صدق الإيمان وأكثر قدرة على مقاربة الأوضاع بأفق إيماني ، قال تعالى (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ، عبارة منكم أعقبت فعل الكينونة للإشارة إلى الجماعة المصغرة المؤهلة للقيام بالمهمة ، والمعنى أن الأمة تنبثق من الأمة بقوامها الكلي للدلالة على النُخب وأصحاب الحل والعقد .
العملية واضحة اعتبرت الفريضة مسؤولية عامة تقع على عاتق كل مسلم وفي المقدمة الصفوة التي تنبثق من ذات الأمة لبيان المعايير الموضوعية للدولة في الإسلام ، ومواصفات ولي الأمر المنبثق من ذات الأمة ويجسد إرادتها في إقامة العدل والمساواة وضمان إشاعة الحرية المسؤولة لمنع الشطط وكل التصرفات الشاذة والمريبة المخالفة لأحكام الدين القويم .
مما أسلفت تتضح بشاعة ووحشية جماعات الإسلام السياسي وأفرادها الذين تحولوا إلى أدوات طيعة تتلبس الإسلام بجهل وعدم معرفة ما مكن الآخرين من الاستفادة منهم في هدم الدين من داخله .
مقابل حكام الظلم والجور وعلماء الدفع المسبق الذين وظفوا النصوص لخدمة الحكام واختزلوا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العبادات أو حولوها إلى معول بيد الأنظمة لتمارس أبشع أنواع القمع والإقصاء والتهميش والنفي لكل معارض يتعاطى مع الفريضة بأفق إيماني وكل مسلم يتمسك بالحقيقة ويدافع عنها ، بلغ الأمر حد الكارثة عندما انتقلت العدوى إلى المذاهب فابتعدت عن نشر الوعي وتنمية مستويات الفهم وتعميق الالتزام بأحكام وتعاليم الدين القويم و التعاطي معها بأفق إيماني يجعل كل مسلم يتمثلها في حياته لتبعث فيه عوامل الانضباط السلوكي وتجنب الأخطاء والممارسات غير السوية ، إلى أوكار للتحريض وإثارة الأحقاد والفتن ضد المسلم القابع في مذهب آخر ، بالذات المذاهب والجماعات التي لعب الأعداء دوراً في اكتمال قوامها وتحديد مستويات أنشطتها ، فلقد حولت المذاهب من مدارس للتنوير إلى متارس لإذكاء العداوات، مما أضر بمعنويات المجتمعات الإسلامية وأحدث شرخاً عميقاً في النسيج الاجتماعي الواحد وجذر الفوارق والعداوات بين المسلمين على أساس الدين ، حيث عندما وصل الأمر بالبعض والتفرد بامتلاك الحقيقة فاتسع نطاق التبعية والاستلاب لأعداء الإسلام والإخلاص في ترجمة الرغبات والأهواء والمؤامرات الموجهة إلى صدر العقيدة ونهجها القويم ، بسبب التخلي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونعتها بالفريضة الغائبة مما أعطى الآخر الفرصة لقذف كرة النار الملتهبة إلى الداخل الإسلامي ، وفاقم الأوضاع في شكل حروب عبثية يخوضها شباب مسلمين وتنفق عليها أموالاً إسلامية والرايات المرفوعة مزينة بعبارة (الله أكبر) وفي هذا دلالة واضحة على أن الخلل بنيوي يتصل بالمنهج ومستويات الارتباط به ، وبالتالي فإن صدق الإيمان والتعاطي مع الأحكام بعقل ومنطق كفيل بإسقاط الوجوه العابسة ، والذود عن كبرياء الأمة .. ولنا تناولة أخرى إن شاء الله .. والله من وراء القصد ..