في ذكرى الرحيل الرابعة.. الشاعر الكبير الراحل مٌطهّر الإرياني في الحوار الصحافي الوحيد معه:هذه هي حكايات قصائد “البالة ” و”خطر غصـــن القنا” و” أعشق ويالله”
لهذا السبب …اعتزلتُ الناس!
دموع الرجال تؤلمني كثيراً .. فأنا أتألم بشدة عندما أرى رجلاً يبكي ليس لفقدان أحد أقربائه وإنما قهراً وغلبه
تنَوَّعَ إبداعه ؛ ليجمع بين التاريخ والأدب تحت مظلة اللغة ؛ فكان عالماً في اللغة اليمنية القديمة ، ومرجعاً من مراجع اللغة العربية واللهجات اليمنية ، وقبل ذلك هو شاعر استطاع أن ينسج من الفصحى والعامية لغة خاصة به ، ارتقت بوعي الشعب ، ولم تبتعد عن (فن التاريخ)؛ فجاءت قصيدته تتابع تفصيلات حياة المجتمع وتوثق يومياته ، منذ أكثر من أربعين عاماً ..
منذ ذلك الوقت برز مُطَهَّر بن علي الإرياني علماً من أعلام الشعر اليمني ، وبخاصة الغنائي منه .. وهو الشعر الذي بقي هذا الشاعر من أبرز رموزه؛ فروائعه ما يزال يشدو بها أبرز أصوات الغناء اليمني ..وهي روائع تجاوز بها الشاعر كل القيود؛ فنزل إلى الناس مسجلاً همومهم بما فيهم البسطاء وأصحاب المهن…وحسب أديب اليمن الراحل عبدالله البردوني» فإن الشاعر بهذا قد جدَّد (فن الشعر)، وحول وجهته من أصوات خصوصية غير هادفة، إلى غاية وطنية تنثر روائح الشعب، وتمد من قديمه جديداً ومن تاريخيته مستقبلاً «..
مطهر الإرياني (1933م- 9 فبراير 2016م) إلى جانب ذلك، مؤرخ متخصص في التاريخ اليمني القديم … وفي هذا المجال أصدر عدداً من الكتب، آخرها « المعجم اليمني في اللغة والتراث «.. وتقديراً لإسهاماته في هذا الصدد؛ كرّمته عديد من المؤسسات، بما فيها اتحاد المؤرخين العرب ، الذي منحه وسام المؤرخ العربي.
ينتمي الشاعر والمؤرخ مطهر الإرياني إلى أسرة امتطت صهوة العلم منذ وقت مبكر ، ولها باع طويل في الحكم والسياسة ؛ بدءاً من عمه عبدالرحمن الارياني رئيس الجمهورية العربية اليمنية ( 1967 – 1974م) ، ومروراً بقائمة من الأسماء يأتي في مقدمتها شقيقه (الراحل) الدكتور عبدالكريم الارياني – رئيس مجلس الوزراء الأسبق.. وبالنسبة لشاعر هذه الأسرة وأديبها، فقد كانت آخر وظائفه الحكومية في السلك الدبلوماسي … والتي غادرها معتزلاً الناس والساحة الأدبية زاهداً بالأضواء، رافضاً الحديث إلى الإعلام إلى أن توفاه الله.
أجرى الزميل أحمد الأغبري هذه المقابلة عام 2006م ولأهميتها كونها الوحيدة معه، ننشرها هنا، وبعضها يُنشر لأول مرة، مع ذكرى رحيله الرابعة في التاسع من فبراير (رحمة الله تغشاه) .. فإليكم التفاصيل :حوار/ أحمد الأغبري
* الجميع يسأل: أين أنت؟ ولماذا هذه العزلة، التي فرضتها على نفسك، منذ بضع سنين؟
– ما كنت أحب أن يكون هذا هو السؤال الأول؛ لأنه سيثير فيّ الكثير ..لكن ما يمكنني قوله :إنني عملتُ في الشأن العام ( الوظيفة الحكومية ) لفترة من الزمن بدأت من السنوات الأولى لشبابي … واعتقد أن المرء عندما يصل إلى سن الستين ما بالك إذا بلغ الرابعة والسبعين مثلي ( كان ذلك عند اجراء المقابلة في 2006م) ؛ فإن عليه أن يلزم بيته، و يتفرغ للعمل الذي يحبه … سيما وأن العمل في الشأن العام صار يفتقد التناغم والانسجام ما يجعله مضيعة للوقت … ونتيجة لذلك رأيتُ أن ألزم بيتي متفرغاً لمشروعي البحثي في التاريخ القديم لليمن … وهذا التفرغ ، وإن كان بناء على رغبتي ؛ فهو لم يتم بقرار ذاتي وحسب ، و إنما بقرار رسمي ، أو إن صح التعبير ، وفق اتفاق شفوي .
* اتفاق … مع مَنْ ؟
– مع الجهات المختصة …الجهات العليا.
* تقصد رئيس الجمهورية ؟
– نعم ؛ الرئيس كلفني بالتفرغ لعملي البحثي في تاريخ اليمن القديم .
* تمتلك في هذا المجال، أقصد البحث التاريخي واللغوي، تجربة طويلة على الرغم من أنه ليس تخصصك الأكاديمي…فما الذي جذبك إلى هذا المجال ؟ وكيف تطورت علاقتك به إلى أن وصلت إلى هذا المستوى؟
– نعم ؛ فأنا لست أكاديمياً في هذا المجال، ولكني هاو له ، نشأت بيني وبينه علاقة منذ طفولتي.
اهتماماتي التاريخية وبخاصة في مجال النقوش ولغة المُسند اليمنية القديمة تمتد إلى أكثر من ستين عاما. وكانت البداية مصادفات عجيبة … فقد أخذتُ حروف المُسند (حروف اللغة اليمنية القديمة التي تعد من أصول العربية) من بعض مخطوطات جدي يحيى بن محمد، وأنا مازلتُ في سن الطفولة، ومنذ ذلك الحين أصبحت قراءة النقوش المسندية، والبحث في تاريخ اليمن القديم همي الأول، وبخاصة عندما عرفتُ أن هذه النقوش هي الوثائق الصحيحة للتاريخ اليمني القديم … هذا التاريخ الذي لم تكتمل قراءته بعد، فما هو متوفر عنه من مراجع مليئة بالأساطير ، من هنا تجلى البحث في نقوش التاريخ اليمني القديم همي الأول، وعندما سافرتُ إلى القاهرة في الخمسينيات لمواصلة تعليمي، سنحت لي الفرصة بأن أتلقى دروساً في اللغة اليمنية القديمة ، على يد الدكتور حسين فيض الله الهمداني ، في أثناء دراستي في كلية دار العلوم … وعندما عدتُ إلى اليمن عملتُ بعد الثورة في مجال الإعلام لفترة قصيرة، عملت بعدها وكيلاً لمصلحة الآثار، وفي هذا العمل ترسخت علاقتي بهذا المجال ، وأخذت جهودي البحثية تتواصل في مجال تاريخ اليمن القديم ؛ فأنجزتُ العديد من الدراسات وأصدرتُ العديد من الكتب في جانب النقوش المسندية ..
* وكيف تطور هذا الاهتمام وكيف أهَّلت نفسك له؟
– عندما أكملت تعليمي الأولي حينها قررت الذهاب للقاهرة لاستكمال ومواصلة دراستي لكن الإمام – ملك اليمن في ذلك الوقت – رفض منحي الفرصة فاضطررت للهرب إلى عدن ومن عدن غادرت إلى القاهرة وهناك التحقت بكلية دار العلوم عام 1953م من القرن الماضي وفي القاهرة واصلت اهتمامي وكان أول ما وجدته في مكتبة كلية الآداب بجامعة القاهرة عن اللغة اليمنية القديمة كتاب لمؤلف ايطالي في قواعد هذه اللغة ونقوشها المسندية ، كما التقيت بالدكتور حسين فيض الله الهمداني؛ وهو يمني مولود في الهند كان يعمل مدرسا في كلية دار العلوم .
*صاحب كتاب «الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن»…؟
– نعم؛ إنه هو، وكان يدرّس اللغة الفارسية في كلية دار العلوم، وقد قال عندما وجدني اخترت دراسة اللغة العبرية .. لماذا لم تختر الفارسية حتى أتمكن من مساعدتك بحكم الرابطة الوطنية؟ فقلتُ له لقد اخترت اللغة العبرية لهدف ثقافي وليس لهدف سياسي فقد اخترتها لقربها مع العربية باعتبارها من اللغات السامية؛ ولأني سأستعين بها في قراءة بعض النقوش السبئية المسندية اليمنية القديمة؛ فما أن علم برغبتي حتى أعلن عن فرحته وقال أنا درست اللغة اليمنية القديمة على يد عدد من المستشرقين وأبحث عن يميني يكون له توجه في هذا المجال لأعطيه ما لدي قبل أن توافيني المنية .. وقد كان شيخاً طاعناً في السن، وأنا فرحت بهذه المفاجأة؛ فقلت: أنا على استعداد لتلقي الدروس منك في أي وقت وبأي شكل… فراجع أوراقه، وقال: يوم الثلاثاء من كل أسبوع تأتي إلي ِّفي البيت وتأخذ درسا..
فانتظمتُ ثمانية عشر أسبوعاً أخذت فيها ثمانية عشر درساً، ودرستُ على يديه اللغة على أصول علمية وأكاديمية خلال تلك المدة، ثم مرض وحُمل إلى المستشفى وتوفي رحمه الله، وقد أخذت منه المستوى الذي كان سائدا بين المستشرقين والدارسين عن اللغة اليمنية القديمة .
* وماذا بعد ذلك…؟
– تخرجتُ من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة عام 1958م ، وعدتُ إلى اليمن في عام 59، أيام الإمام أحمد، وعملتُ مدرساً حتى قامت الثورة اليمنية 26 سبتمبر 1962م ، وعملت في بداية عهد الثورة في وزارة الإعلام لسنوات قليلة حتى أنشئت مصلحة الآثار؛ فانتقلت إليها، وكان على رأسها القاضي إسماعيل الاكوع فاختارني وكيلاً له وفيها تواصل اهتمامي البحثي في هذا المجال فأصدرت عام 1972م كتاب «المجموعة الأولى من النقوش المسندية»، وطبعت الكتاب في القاهرة، و أصبح مرجعاً من المراجع في تاريخ اليمن القديم .. ومن ثم سنحت لي الفرصة للذهاب إلى ألمانيا بدعوة من أحد المستشرقين الألمان؛ فأخذت عدداً من الدورات في هذا الجانب، وبعد عودتي استأنفت اهتمامي بالتاريخ والآثار، وأصدرت كتاب « نقوش مسندية وتعليقات «، وهو الكتاب الذي ما يزال يدرّس في جامعة صنعاء بالإضافة إلى كتب أخرى آخرها « المعجم اليمني في اللغة والتراث» فضلا ً عن عدد كبير من الدراسات نشرت عدد منها في عدد من المجلات المتخصصة .. فعملي في هذا المجال ظل متواصلاً حتى وجدت أن العمل في الشأن العام – أقصد الوظيفة الحكومية -صار يحول دون أن أحقق ما أريده في هذا المجال فطلبت التفرغ العام – ما أريد قوله هو أن عملي في هذا المجال ظل متواصلاً حتى بعد أن انتقلتُ إلى العمل الدبلوماسي، وفي هذا العمل توصلتُ إلى قناعة بضرورة ترك العمل في الشأن العام، والتفرغ لمشروعي البحثي التاريخي فطلبتُ التفرغ العام.
* وما موضوع مشروعك البحثي التاريخي الذي طلبت التفرغ له ؟
– تاريخ اليمن القديم…
* تقصد … إعادة كتابة هذا التاريخ؟
– نعم ؛ لكن من منطلق قومي وليس من منطلق قطري .. فضلاً عن كتابته اعتماداً على نقوش لغة المسند اليمنية القديمة، وليس فقط على المراجع العربية التي تناولته ؛ فهذه المراجع التي كتبها مؤلفون عرب هي -للأسف -مليئة بالأساطير ويغلب عليها الجانب المثيولوجي … المهم: أنني طلبت التفرغ لبذل الجهود لإعادة كتابة هذا التاريخ بطريقة لا أريد أن أقول إنها أصح أو أفضل وإنما بطريقة مختلفة ومن منطلق مختلف اعتماداً، بدرجة رئيسة، على نقوش المُسند؛ فهي وثائق التاريخ اليمني القديم الصحيحة كما أشرتُ آنفا.
* وإلى أين وصلت جهودك في هذا الجانب ؟
– أنا في عمل مستمر …
* كم قطعت فيه … ؟
– صار لديّ مجلد بات جاهزاً للطبع ، وقد بذلتُ فيه مجهوداً كبيراً، كما أن هناك كتاباً سيصدر قريباً بعنوان « نقوش مسندية جديدة »، وهذا عمل علمي منهجي يتضمن النقش وشرح النقش وتعليقات .
وهناك دراسة تاريخية قطعت فيها شوطاً لا بأس به وجزء منها صار صالحاً للنشر، وهذه الدراسة تصب في الجهد اللغوي الذي اعتمد فيه على دراسة نقوش مسندية قديمة والخروج بمصطلحات يمكن أن تسهم في سد الثغرات في اللغة العربية .
* هل لنا معرفة جزء يسير عن بعض ما خرجت به في هذا الجانب؟
– العمل في مجال الآثار يقدم كل يوم شيئا جديدا، مثلاً في مجال النقوش اليمنية هناك نقش عثر عليه في منطقة (حقه همدان) شمال شرق صنعاء .. هذا النقش – الذي أضربه مثلاً لما يمكن أن تقدمه اللغة اليمنية القديمة من مادة لغوية يمكنها أن تسد ثغرات في بنية اللغة العربية العظيمة .. على اعتبار أن هناك ثغرات في كل لغة. النقش يتحدث عن آخر ثورة بركانية في اليمن في التاريخ القديم … وكان بعض الدارسين الجيولوجيين وخبراء البراكين يعتقدون بأن النشاط البركاني في اليمن انطفئ منذ خمسة آلاف سنة لكن هذا النقش أثبت بأن نشاطاً بركانياً حدث في هذه المنطقة الشمالية الشرقية والشمالية الغربية من صنعاء في عصور تاريخية متأخرة يعود إلى القرن الثالث أو الرابع الميلادي .. هذا النقش نشر كتوثيق قبل أكثر من أربعين سنة وموجود في مجموعة النقوش اليمنية في المعهد العلمي الفرنسي في باريس . واضح في النقش أنه يتحدث عن بركان.. أي أن المعنى العام فيه واضح .. لكن دراسة دلالات مفرداته وفك معانيها أفادتنا بتفاصيل كثيرة فمثلاً: لو بحثنا في القواميس العربية عن مصطلح (الحمم البركانية المنصهرة ) وهذا ليس مصطلحاً؛ لأنه لا يوجد مصطلح يتكون من ثلاث كلمات؛ فالمصطلح يتكون من كلمة واحدة مفردة أو مركبة .. ولو بحثنا في النقوش اليمنية القديمة لوجدنا أن هذا هو النقش الوحيد الذي يتحدث على البراكين، وأطلق على الحمم البركانية المنصهرة اسم (الثيل ) بالثاء مقابل (السيل) بالسين .. ولو نظرنا إلى اللغة وما فيها من حساسية لوجدنا ما يناسب السين في تسمية (السيل) بما فيه من سلاسة وانسياب ما يناسب الماء بينما (الثيل) في الحمم البركانية المنصهرة فيها من الثقل والكثافة ما يناسب الحمم البركانية .. أليس مصطلحا علمياً يأخذ به علماء الآثار والبراكين فيطلقون على الحمم البركانية المنصهرة اسم (الثيل) وعلى اسم المكان الذي ترك فيه البركان أثراً اسم (الثيلة) ؛ لأنه لا يعني شيئاً آخر غير ذلك الشيء، كما أنه مصطلح علمي دقيق تتوفر فيه الشروط المشترطة في كل مصطلح علمي .. هذا كمثال.
* وماذا عن الشعر؟ ماذا تبقى له في حياتك؟ وهل يمكن القول إن اشتغالك بالبحوث التاريخية قد صرفك عنه في السنوات الأخيرة .. ؟
– صحيح إن الاشتغال بالبحث العلمي يصرف المرء عن اهتماماته الأدبية وبخاصة الشعر باعتباره يشترط هدوءاً نفسياً ، وتعايش مع هموم الذات والواقع .. وهو ما لم يعد متوفراً بشكله المطلوب لدي .. فاشتغال الفكر بقلق البحث التاريخي بمنهجه العلمي الصارم الذي لا مجال فيه للخيال أو للعاطفة ؛ أثرّ على علاقتي بالشعر ، حتى أن هذه العلاقة لم تعد مثلما كانت عليه بالأمس.
* نفهم من كلامك أن الشعر لم يعد يأتي إليك مثلما كان في الماضي ؟
– يأتي، ولكن تفاعلي معه لا يكون مثلما كان في الماضي … وإذا قبل الشاعر بالشعر دون تفاعل أنتج قصيدة أقل شاعرية أو قل قصيدة بلا روح .
* هل شاخ الشاعر مطهر الارياني؟
– الشاعر لا يشيخ ما دام وهج الشعر يضيء قلبه وروحه ، وأنا كذلك ، لكن اهتمامي وتفرغي لما اعتبره أهم ، وهو البحث التاريخي، صرفني عن معايشة الناس … وانصرافي عن الناس إلى عزلتي عزز من غلبة فكري على شاعريتي؛ فطغى العقل على القلب؛ ولم يعد للشعر حيويته في كثير من الأوقات.. لا يعني هذا أنني لم أعد أكتب الشعر؛ فأنا فرغتُ للتو من كتابة قصيدة شفيتُ بها غليلي، يكفي أن الشعر يعيد تنظيم روحك، ويمنحها فرصة التعبير عن مكنونها … لكن يبقى الشعر هو ذاك الذي يأتي إليك، لا أن تذهب إليه وتدق أبوابه .. ومثل هذا لم يعد يأتيني كثيراً مثلما كان عليه حالي مع القصيدة منذ أشرقت شمسها في روحي.
* و ما الذي تقوله عن الاشراقات الأولى للشعر لديك؟
– منذ الرابعة عشرة من عمري، وأنا انظم الشعر، وكانت اشراقاته الأولى من خلال قصائد عمودية فصحى، لكني لم أمكث معها كثيراً ؛ فسرعان ما تحولتُ عنها إلى نظم الشعر بالعامية الفصيحة ، وهو الشعر الذي ارتضيت التعبير من خلاله حتى اليوم .
* وكيف حدث هذا التحول؟
– لهذا التحول قصة؛ فعندما سافرتُ للدراسة في القاهرة عام 1954م، كنت لم أعد مقتنعاً بالشعر العمودي القديم؛ لأنه في نظري صار بالياً ومبتذلاً في صوره وأساليبه وأفكاره … وعندما وصلتُ إلى القاهرة كان ،حينها ، الشعر الحديث في بداية ظهوره في مصر، وحينها كانت، أيضاً ،الساحة الثقافية المصرية منقسمة في حوار كان مشتعلاً وقتئذ ما بين أدباء مصر الكبار وعلى رأسهم عباس محمود العقاد وما بين أدباء مصر الشباب وعلى رأسهم صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي حول القديم والحديث من الشعر وحول الهدف من الفن : الفن للفن أم الفن للحياة … وبالنسبة لي فقد ملتُ إلى رأي الشباب القائل إن الفن هو من أجل الحياة ، ولكني لم أمل إلى نظم الشعر الحديث؛ فقصائده الأولى ظهرت بمستوى لم يشجعن على التعبير من خلاله؛ فبدايات هذا الشعر كانت ضعيفة، لكن قصائده في مراحل لاحقة ظهرت رائعة ، حتى صلا ح عبدالصبور ،عندما قابلته في السبعينيات، وسألته رأيه في شعره القديم ؛ قال: أتمنى أني لم أقله .
أنا لم اقتنع بالشعر العمودي القديم ولم ارتض الشعر الحديث حينها؛ فانصرفتُ إلى الطريق الثالث ، إلى الشعر العامي باليمنية الفصيحة ( النقية ) ليس عجزاً مني في كتابة الشعر بالفصحى ؛ فأنا خريج كلية دار العلوم ،وهي قلعة من قلاع اللغة العربية ، وإنما اقتناعاً بأن هذا الشعر هو الذي استطيع من خلاله أن أعبر عن مشاعري بصدق.
*لكنك تحولت بهذا الشعر من قصائد الغزل إلى تناول هموم الناس وتتبع تفصيلات معاناتهم؛ فأسستُ بهذا لفن جديد في علاقة الشعر بالشعب .. إلى أي مدى كان لاهتماماتك التاريخية تأثيرها في صياغة هذا التحول الموضوعي والفني في قصيدتك؟
– الاهتمام بشؤون الناس وقضاياهم لم يكن نابعاً من اهتماماتي التاريخية ، بل نابع من معايشتي لهؤلاء الناس، وقربي من همومهم .. وإن كان ثمة تأثير لتاريخية تفكيري على شعري الفصيح فيمكن حصره في بعض القصائد وبخاصة السياسية والوطنية كقصيدة «ملحمة المجد والألم» التي استعرضت فيها التاريخ السبئي والحميري وتاريخ اليمن بعد الإسلام .. أما ما له علاقة بحياة الناس فذلك نتاج معايشة لهؤلاء البسطاء ، في ظل قناعتي وإيماني المطلق بأن الفن بما فيه الشعر لا بد أن يُسَخَّرْ من أجل الناس ومن أجل الحياة ؛ فالناس إذا لم يجدوا أنفسهم في قصيدتك فأنت تظلمهم بها وتنزع عن قصيدتك وظيفتها.
* وهل كانت قصيدة « الباله « الشهيرة التي غناها الفنان اليمني الكبير الراحل « علي السمه» هي أولى محطاتك مع هذا التحول الموضوعي والفني في قصيدتك؟
– نظمتُ قبلها قصائد في هيئة زوامل سياسية شكلت بدايات انصرافي عن الشعر العمودي بالفصحى، وبدأتُ أنظم في الشعر الحُميني (شعر بخصوصية يمنية).
* بالنسبة لـ« البالة»؛ ما حكايتها؟
– وأنا طفل صغير كان في قريتنا شخص اسمه أحمد ظافر، وكان كبيراً في السن ،ولكن أمه كانت أم لنا كلنا، وكنا نسميها الجدة قبول بنت العنسي، وفي لحظة متبادلة سألتها أين ظافر ؟ فقالت : هج (هاجر ضنكا) هججوه القضاة والمشايخ … فقلت : إلى أين سافر ؟ ..فقالت : إلى الحبشة .. والله يا بني أنه ذهب وما في جيبه إلا قرصين فطير(خبز بلدي) وليس لديه ما يصرف منه ، عندما سمعتها وشاهدتها تبكي وأنا طفل بكيت معها ؛ وظلت حكايتها مؤثرة في نفسي إلى إن شفيت غليلي في «البالة » إلى حد أنه كان من يسمعها في قريتي يقول : مسكين مطهر كم تعب وكم سافر وهاجر .. وكأنني أنا الذي هاجرت .
* قصائدك وأغانيك وثقت حياة الناس ..فتتبعت المواسم ولم تتغافل عن معاناة ( أصحاب المهن) وتجلت (هموم البسطاء) بتفاصيلها الدقيقة في مشاهد فنية أسستْ من خلاله لفن أصيل يستمد وجوده من حس الشعب ووعي الأرض .. ما يجعلنا نسأل : كيف تجاوز مطهر الارياني قيود الأسرة ليتناول معاناة الناس ؟
– لقد كنت انتظر حتى يغلقوا أبواب الحصن (حصن إريان) في وقت المغرب، ومن ثم أقفز من السور، وأنزل إلى القرية المجاورة الخاصة بالمزارعين وأمضي معهم الليل سامراً أعيش حكايتهم وأمارس طقوسهم .. بمعنى أن الاختلاط بهؤلاء الناس ظل القناة التي استمد منها هوائي .. فانا أعيش وأتعايش معهم فأعيش همومهم وأعبر عنها في قصائدي .
* نفهم من هذا أن لجميع قصائدك قصص في الواقع ؟
– لا ؛ ليس بهذا المعنى ، لكن يبقى مشعل فتيل شاعريتي من الواقع ، بينما يلعب الخيال دوراً كبيراً في نسج وبناء القصيدة ؛ فلي من الخيال ما يمدني بأقنعة كثيرة أعيش فيها الواقع وأعبر من خلالها عن حياة الناس..
* بما في ذلك قصائد الغزل … مثل «خطر غصن القنا» ؟
– بالنسبة لقصائد الغزلية فهي نتاج خيالي لحب وعشق عشته، لكن لا يعني هذا إن مطهر الارياني عشق في وادي بنا أو في غيره.
* ما حدود التعبير في قصائدك ؟ هل ثمة محاذير وممنوعات تجعلك تختزل بعض معاني القصيدة مكتفياً بالرمز الذي لا يفهمه أحد إلا أنت مثلاً ؟
– فيما يتعلق بالشأن العام فليس لدي ما احتفظ به؛ فتجدني أعبر بتلقائية عما عشته وشاهدته، أما فيما يتعلق بالشأن الشخصي بالطبع هناك ثمة محاذير وممنوعات فلكل إنسان أسراره .. فهناك قصائد احتفظ ببعض مفاتيح معانيها لنفسي ، وبالذات ما يتعلق بالجانب العاطفي ؛ فثمة خصوصية أحرص على تغليفها بالكتمان الرمزي الذي لا أفهمه إلا أنا .
* برزت عقب قيام الثورة اليمنية في الستينيات والسبعينيات كأحد أهم شعراء الأغنية اليمنية وبخاصة مع الفنانين الراحلين علي الآنسي وعلي السمه .. كيف كانت علاقتك بهما؟
– كانت الصداقة تجمعنا دون تكلف أو تعمد وكنا نلتقي في بيت علي الآنسي أو في بيت علي السمة أو نلتقي في الإذاعة القديمة أو في بيت الفنان الراحل قاسم الأخفش أو في بيت عبدالرحمن الآنسي .. قال لي علي الآنسي ذات مرة : في رأسي ألحان كثيرة لكني لا ألقى القصائد التي تستحق أن تغنى، فكانت (خطر غصن القنا) أول ما قدمت له فما خرجنا من المجلس إلا وقد صارت أغنية مكتملة ثم أعطيته قصائد أخرى مثل (وقف و ودع) و(الحب والبن ) ، وهذه الأخيرة كانت قصيدة طويلة وقد بذل في تلحينها مجهوداً هائلاً تواصل لنحو سنة كاملة تقريبا .. بالنسبة للفنان علي السمة كنا نلتقي في تعز حيث كان يعيش هناك، وكنا نلتقي في إذاعة تعز في منطقة (الحوبان)، وقلت له ذات مرة بخصوص أغنية « البالة» : هل تعرف ألحان (البالة) الشعبية القديمة ؛ فأخذ يرددها « البالة والليل هالبالة» .. فقلت له : نعم ؛ معي لك قصيدة على وزنها، فما جاء اليوم الثاني إلا وقد غناها مستقياً لحنها من الإيقاع الشعبي ، وسجلناها في الإذاعة والكورس في التسجيل الأول كان : علي علي صبرة وأحمد دهمش وأنا وعبدالرحمن مهيوب وحسن العزي؛ لأنه لم يكن يوجد كورس حينها في الإذاعة.
*سأل الكثير عن أغنية « أعشق ويالله» التي غناها الفنان عبدالرحمن الأخفش وأغنية « قالت الهايمة» وغيرها من لقصائد .. أما تزال تعشق إلى هذا الحد وقد اشتعل الرأس شيبا؟
– لقد أعطيت الفنان عصام الأخفش وأخاه عبدالرحمن هذه القصيدة وغيرها منذ سنوات لكنهما لم يتغنيا بها ويصدرانها في ألبوم إلا لاحقاً، وبالفعل سببت لي الكثير من الحرج حتى صرت أوضح لمن يلومني بأن أقول له : إنني كتبتها قبل خمسة وثلاثين عاما .. وليس اليوم؛ لأنه بالفعل قد اشتعل رأسي شيبا، ولم أعد لائقاً بكل ما في الأغنية من عشق ووله.
*مَن آخر من غني من قصائدك؟
– غنى لي كثيرون، بما فيهم الفنان والموسيقار أحمد فتحي، لكن أصدقك القول : فشعري اليوم لم يعد بمستوى شعري القديم، ربما لأن الفكر غلب على الشعر، وعندما يغلب هذا على هذا يفقد الشعر شيئاً من حلاوته.. فقد انصرفت عن الشعر قليلا؛ لأني أرى أن العمل في البحث التاريخي والتراث هو أكثر أهمية.
* ما الذي يستفز فيك شيطان الشعر؟
– دموع الرجال تؤلمني كثيراً .. فأنا أتألم بشدة عندما أرى رجلاً يبكي ليس لفقدان أحد أقربائه وإنما قهراً وغلبة .
* طقوسك في الكتابة… ؟
– سابقاً ؛ لم تكن لي أي طقوس ؛ فكنت أكتبُ الشعر في أي وقت وفي أي مكان ، أما اليوم؛ فصرتُ اشترط للكتابة الهدوء وتوفر الراحة بالإضافة إلى أن يكون لديك مجلسك المريح ومكتبتك المغلقة عليك؛ فلدي مكتبة لا يدخلها أحد إلا أنا ، تتوفر فيها مختلف المراجع وكافة أدوات الاتصال بما فيها الحاسوب المتصل بشبكة الويب ، فضلاً عن الهدوء والانقطاع عن العالم الخارجي .
*و متى تكتب؟
– بالنسبة للشعر فكان يحلو لي كتابته سابقاً في أثناء مضغ القات أما الكتابة البحثية ففي أي وقت، ويستحسن في الصباح.
* يبقى السؤال : لماذا أنت مُقل في النشر ؟
– قد يكون هناك كسل من جانبي، لكن يبقى الأمر مرتبطاً بعاملين مهمين يحولان بيني والنشاط في المجال الثقافي: الأول : هو الركود الثقافي الحاصل في المشهد الثقافي ؛ فأنت تنشر وتعتقد أن ما تنشره سيلقى صدى .. لكن الحاصل عكس ذلك تماماً؛ فالكثير لم يعد يقرأ وإن قرأ لم يعد يهتم بفهم ما قرأ ، وإن فهم لم يعد مهتماً بمناقشة ما يفهمه وتعميم فائدته.. قد أكون مبالغاً بعض الشيء ،لكن ذلك لا يمنع الإحباط.
.. العامل الثاني : التكاليف .. فأنا لا استطيع أن أطبع كتاباً على حسابي ما لم تتبنه الدولة أو أية مؤسسة ثقافية، فلديّ اليوم عدد من الكتب انتظر من يتولى طباعتها ، وقد عرضت عليَّ المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان مؤخراً طباعتها لكني رفضت منتظراً عرض أية مؤسسة حكومية .
* قد يكون هذا هو السبب فيما يتعلق بكتبك التاريخية ؛ فماذا عن الشعر ؟ وأياً ما كتبته خلال العقود الماضية .. فأنت لم تنشر سوى ديوان واحد ؟
– بالنسبة لشعري من القصائد العمودية فأنا لست مقتنعاً بأنه مفيد ، ولو كنت مقتنعا به لنشرته ، أما شعري بالعامية فنشرتُ منه ما هو ملامس لحياة الناس ، ومعبر عن مشاعرهم ، وما بقي منه سوف أضمنه الطبعة الجديدة من ذات الديوان .