الوحدة اليمنية والنزعات الانفصالية في منتصف القرن العشرين
أنس القاضي
جدلية الوحدة اليمنية والانفصال والتمزق، كانت هي الجدلية المحركة للتاريخ اليمني الحديث.. وهي القضية التي تشغل التاريخ اليمني الراهن، حيث تبرز في جنوب الوطن أصوات ضالة تدعو إلى هوية أُخرى غير الهوية اليمنية بدعم من قوى العدوان والاحتلال، وهي قوى عميلة ليس لها صلة بمظلومية أخوتنا في المحافظات الجنوبية اليمنية جراء حرب صيف 1994م.
تصدرت قضية النضال من أجل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية البرامج السياسية للأحزاب والقوى السياسية الوطنية في جنوب الوطن منذ خمسينيات القرن الماضي. انقسمت مواقف القوى السياسية اليمنية في جنوب الوطن إلى موقفين: مؤيد للوحدة اليمنية ومتمسك بالهوية اليمنية وموقف آخر انعزالي وانفصالي. وقد تميزت أحزاب الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، والاتحاد الشعبي الديموقراطي، بالموقف الوطني اليمني الراسخ، فيما حلقت بقية الاحزاب في فلك الاستعمار. وعلى عكس الجبهة القومية والاتحاد الشعبي، نشأت في جنوب البلاد أحزاب انفصالية ضالعة في السياسة الاستعمارية البريطانية، هدفت هذه الاحزاب في نشاطها إلى تحقيق استقلال صوري عن الاحتلال على أن ترتبط فيما بعد بالكومونولث البريطاني.
تأسست في العام 1950 «حزب الرابطة العدنية» بزعامة حسن علي بيومي، والذي تحول إلى حزب المؤتمر الشعبي سنة 1954م بقيادة آل لُقمان، وكان يرى هذا الحزب بأن حدود الوطن هي محمية عدن. وفي العام 1958م تأسس «الحزب الوطني الاتحادي» بزعامة حسن البيومي نفسه، إضافة إلى عبد الرحمن جرجه، وإلى جانبهم تأسست أحزاب أخرى مثل “الحزب الحر الديمقراطي” و”حزب الاستقلال”، وكان مجمل هذه الأحزاب انفصالية ولا ترى أبعد من عدن وتطمح بأن ادارة عدن من بريطانيا. أما النزعة الانفصالية الأُخرى التي تجاوزت عدن فقد وقفت عند الأراضي الجنوبية، وميزت الجنوب اليمني عن شماله تميزاً سياسياً، حيث رسم هذا التوجه حدود وطنه في جنوب البلاد بمعزل عن الوطن اليمني الأم، وكان في صدارة هذا الموقف الانفصالي «رابطة ابناء الجنوب العربي» التي تكونت عام 1950م وقد عمل اصحاب رابطة الجنوب العربي على محو الهوية اليمنية عن المناطق الجنوبية، رغبة في استقلالها استقلالاً شكليا وبقاء ارتباطها بالفلك الاستعماري البريطاني، وهو الامر الذي شرعت بريطانيا في تحقيقه حين شكلت الادارة الاستعمارية البريطانية ما سُمي آنذاك بحكومة اتحاد الجنوب العربي. ظلت رابطة أبناء الجنوب العربي، تقاوم بشدة فكرة الشخصية اليمنية، وترفض بقوة وعنف الدعوات الوطنية إلى إقامة دولة يمنية واحدة من جنوب اليمن إلى شماله.
ومن باب المناورة السياسية طرحت رابطة الجنوب العربي فكرة إقامة الوحدة العربية بين الشطر الجنوبي ودولة عربية أُخرى، متجاوزة فكرة إقامة وحدة جنوب الوطن اليمني مع شماله. والتي هي خطوة في سبيل اقامة الوحدة العربية، كما أَكدت ذلك فيما بعد أهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين. اندمجت فكرة اقامة دولة جنوبية في جنوب اليمن مُستقلة عن الهوية والدولة اليمنية مع المخططات الاستعمارية البريطانية، ومع التوجهات الرجعية السعودية، فقد حرصت المملكة السعودية على إبقاء واقع تجزئة اليمن ورفض تشكل دولة موحدة يمنية في جنوب الجزيرة العربية. تكشفت الحقيقة الرجعية المعادية للوطن اليمني لهذه الأحزاب السياسية الانعزالية والانفصالية في ثورتي سبتمبر وأكتوبر، حيث غدا حزب رابطة الجنوب العربي أداة طيعة تحركها الاوساط الامبريالية والسعودية، للثورة المضادة على ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين اللتين أكدتا على هدف إعادة تحقيق الوحدة اليمنية.
جذبت شعارات حزب الرابطة الجماهير الوطنية في عدن، فقد رفع اصحاب الرابطة شِعارات التحرير وتوحيد الأجزاء الجنوبية، ولكن الرابطة انكشفت في نهاية المطاف أمام الجماهير بسبب موقفها الانفصالي الرافض لوحدة الوطن اليمني، وتأكيدها على دولة الجنوب العربي، وخاصة عندما قبلت الرابطة الدخول في انتخابات المجلس التشريعي سنة 1955م، وهي الانتخابات التي قاطعتها الاحزاب والقوى الوطنية القومية والاشتراكية.
دعمت السياسة الاستعمارية البريطانية التشتيت الحزبي، ولعبت دوراً كبيراً في إسناد هذه الأحزاب العميلة، على الرغم من أن هذه الأحزاب لم تكن ذات قاعدة شعبية عريضة، لكن المستعمر البريطاني كان بحاجة إليها من أجل الترويج لمخططاته الاستعمارية، وهكذا دعا حاكم مستعمرة عدن سنة 1960 إلى تشكيل المزيد من الأحزاب السياسية في عدن، وكان هذا الدعم البريطاني للأحزاب السياسية العميلة في عدن يجري في الوقت الذي تخوض فيه بريطانيا حربا شعواء على الاحزاب والشخصيات الوطنية في جنوب الوطن.
لقد جسدت الاحزاب السياسية الانفصالية والانعزالية في جنوب الوطن التي يقابلها حزب الاحرار الدستوريين في شمال الوطن، صورة الاغتراب التاريخي والوطني، والضياع السياسي، والفراغ الفكري والخواء الثقافي..