محمد ناجي أحمد
(جوهرة التعكر) رواية لـ(همدان زيد دماج) الصادرة عن دار أروقة 2017م-عمل يفاجئ أفق القارئ الجيد ،فقد كنت أتوقع أنني سأقرأ رواية تضاف إلى الكم السردي، الذي لا يثير التفاتا، ولا يدهش متلقيا مثابرا، فتفاجأت بها عملا يمنيا متفردا، يخلد حضوره دون ضجيج.
في عتبة الرواية اقتباس لـ(بيرس هاريس) يشير إلى الذاكرة وصدفة الانتقاء “الذاكرة طفل يمشي على الشاطئ ،لا يمكنك أبدا أن تحرز أي الصدفات الصغيرة سيلتقطها ،ويحفظها بين أشيائه الثمينة” هل فعلا الذاكرة رحلة استعادة مبنية على صدفة التقاط التفاصيل الصغيرة؟ أم أن الذاكرة فيها قصدية الانتقاء والاختيار، ظني أن الذاكرة ليست عفوية، بما في ذلك هذه الرواية اليمنية بامتياز ،وهي تلملم الحكايات في لملمة لوطن مفكك وأناس لم تعد الدار الكبيرة تجمعهم.
اختفاء العادات الجميلة، وبساطة الأيام، والمرح الذي حلت محله قتامة بليدة “على الحقول الزراعية التي هُجِر بعضها ،وبنيت في بعضها منازل قبيحة…على بهجة الرقص الجماعي أيام الأعياد بعدما اكتفى أبناء كل قرية بالصلاة في قراهم، ولم يعودوا يجتمعون في المصلى الكبير أسفل الشلال…على نقاء المروج والآكام والطرقات التي أصبحت مكسوة بكل ما خلق الله من أوساخ…على موت المواويل الزراعية التي كانت تردد صداها الجبال…على الأمطار التي شحت، على مبنى “الولي” الذي تهدمت أجزاء من قبته البيضاء …على نساء القرية وقد اختفت البهجة من حياتهن ومثلما اختفت وجوههن وراء النقاب…”ص263.
في تنويه استدراكي يقول المؤلف في مفتتح الرواية “كل الشخصيات الحقيقية والأحداث الواقعية في هذه الرواية من نسج الخيال” هنا تصبح الحقيقة ملتبسة بالخيال، والخيال تمظهر من تمظهرات الحقيقة والأحداث الواقعية ،في مزج وتداخل وإزالة لحاجز الواقعي والأسطوري، المحسوس والمرئي والطلاسم واللامرئيات.
وهل الخيال سوى امتصاص ومحاكاة ومشابهة وظلال تتولد من عالم الحقيقة ومولِّدة له في آن.
إنها الأماكن والأزمنة، والأشخاص والأحداث التي يجازف السارد في الغوص فيها” الأماكن التي تختبئ والأزمنة في كهوف معطف شتوي مبتل، يتدثر فيه الماضي ،وتتوارى في ثناياه الحكايات والتفاصيل…”صـ9.
من الكهانة والنبوة الرائية للمستقبل يكون الولوج إلى كهف وثنايا معطف الذاكرة، الذاكرة بما هي فعل ممارسة للحرية والحياة في آن، في تماثلها مع احتراق السيجار “التدخين حياة الأحرار يا مغفل!…”والغفلة نقيض الذاكرة ،والتدخين فعل اشتعال وإيقاد لها.
سرد متنبه بذاكرة تصويرية تلتقط التفاصيل ناسجة حكاية وتاريخا للأشخاص والأمكنة، للتاريخ والحاضر.
(جوهرة التعكر) رواية تغوص في تفاصيل الذاكرة الفردية والجمعية ،لتعيد تخليقها حيوات تتحول فيها الأطياف والقصص الشعبية إلى تفاصيل ملموسة ومرئية ومسموعة.
ما أكتبه ليس قراءة نقدية لـ(جوهرة التعكر) وإنما مجرد وقوف على عتبتها، متأملا في صدفاتها التي تحتاج إلى قرب أكثر، إنها ظلال قراءة ومشاهدة لما ولدته من عوالم ممزوجة بالأرض، جبلا وحصنا وعين ماء تتدفق بالحياة، وتاريخا يمتطي فرس المفضل بن أبي البركات متجها صوب جهات اليمن.
يخيط الروائي شخصياته والأحداث باقتدار وصبر ودقة ،لا يترك للشرود السردي الذي يقع فيه الكثيرون –فسحة ،صبر، سارد متمكن وغير عجول، يعطي للتفاصيل مجالها وأفقها، مازجا إياها ببعض الحكايات والأحداث ،في تداخل للأطر السردية التي يحتويها إطار كلي هو (جوهرة التعكر)وكأن الحكي بكل آفاقه هو الحياة التي تنتقل في جينات السارد الخارجي، من أبيه صاحب(الرهينة) و(طاهش الحوبان)و(العقرب)و(الأحمدية)و(المدفع الأصفر)و(الانبهار والدهشة) زيد مطيع دماج، تواصل وتمايز بين الأب والابن، في أسلوب الحكي وبناء الشخصيات، ووحدة السارد الإنساني في خلقه الحميمي لشخصياته وتناولاته للأحداث.
اتفاق الروح السردية ذات العبق الإنساني ،واختلاف في بؤرة الخطاب السردي، فالأب زيد مطيع دماج جاء تعبيرا عن زمن تنويري ،اهتماماته الأساسية تركز على انعتاق الإنسان، ونضاله السياسي ،لذا كان السرد لديه نضاليا بامتياز، مع تأسيس متميز في القصة القصيرة ،نراها خلاقة في بدرجة رئيسية في (طاهش الحوبان)ثم في (العقرب)، وذا خطاب سياسي تحريضي تحرري في (الرهينة)و(المدرسة الأحمدية)و(المدفع الأصفر)و(الانبهار والدهشة).
لكن الابن تعبير عن زمن مختلف في تراكماته المعرفية والسياسية، لذا تأتي السياسة في أحداثها كنتف وجزئيات في النسيج الكلي للرواية كعمل حياتي متكامل في نصه وخطابه، لذا نجد خطاب الرواية أكثر تواريا خلف جماليات النص في (جوهرة التعكر).
ولعل التضفير السردي لتفاصيل هذا العمل هو الذي يترك أثره لدى المتلقي بانبهار واستمتاع دون نتواءات.
شخصيات الرواية تشمل الشيخ(العارض) والعاقل(العمدة) والفلاح(السُليَّان) والنجار والطحان، الخ.
(العمدة) ناظم رئيسي لحركة السرد وخطاب الرواية النقدي، كموقف ساخر من اهتراء الواقع السياسي :
“أنت اشتراكي يا عمدة…أكيد!
يهز العمدة رأسه نافيا، ويضيف ،مكشرا:
-كلا …الاشتراكيون، ملاعين…!كذابون…لا فائدة منهم أبدا …خِرق مبتلة…صدقوني!…
يضحكون …ولكي لا تفوت هذه الفرصة الثمينة لسماع رأي العمدة في البقية يصرخ أحدهم :
-يا جماعة العمدة مؤتمر…رجل دولة …مش أي كلام!…
-كلا …كلا…أصحاب المؤتمر ملاعين …!سَرَق!…يعني لصوص!…عليك أن تحترس منهم دائما …يستطيعون أن يلتقطوا اللقمة من فمك بسرعة البرق!…
-إصلاحي إذا؟!…أخيرا يا عمدة رجعت إلى جادة الصواب!…
-إلى جا…ماذا؟ المطاوعة ملاعين…!خنازير …يعني نجاسة على نجاسة …يحقدون عليك وأنت جثة هامدة…صدقوني!…
يقهقه الجميع وقد تناسوا خلافاتهم ،ثم يسترسل أحدهم ضاحكا:
-العمدة من حزب الخُضر…صديق البيئة…!
حينها يشعر العمدة بالضجر ،كأنما لم يعجبه الأداء المسرحي الذي أصبح دون المستوى، فينهض قائلا باستهزاء وخبث صادم، وقد رسم بأصابع يده النحيلة إشارة قبيحة في وجه صاحب الصوت:
-صديق أمك يا ملعون!…”ص137.
حكايات العمدة والشيخ العارض وكريم والسُليَّان، وحمزة الماسر والشرجبي، والكاهن سطيح التعكر والمفضل بن أبي البركات ،والفقيه سعيد الحرازي ،والملكة أروى ،وأمي حليمة كُرامة وريحانة ،والعالم السويدي فوسكال، مصلح سعيد ،والأميرة الرسولية الدار النجمي ،وأمي تقية ،وسليم ،وعلي ناجي …الموروث الشعبي وحياة الفلاحين وعاداتهم ومواسمهم وأساطيرهم، ومنازعاتهم…الخ.
(جوهرة التعكر ) من تلك الأعمال التي تحفر ذاتها السردية في الذاكرة اليمنية، كواحدة من العلامات السردية الفارقة.
يحضر الواقعي واللامعقول ،عالم الأشباح والأرواح وواقعية العمدة الساخرة من اللامعقول، بامتزاج في بوتقة القرية وحياة الفلاحين…دون أن يكون عالم اللامعقول ناتئا ،بل هو جزء أصيل من الحياة الواقعية والمعاشة في الأرياف.
التعايش السلمي والحميمي بين الطبقات الاجتماعية المتعددة حتى سبعينيات القرن العشرين، وانعدام الحدود بين الواقعي واللامعقول، بين التاريخ والحاضر المعاش…مع ثمانينيات القرن العشرين وما بعده “الناس تباعدوا عن بعضهم والأسرة الكبيرة التي كانوا يعيشون في كنفها في القرية صارت أسرا صغيرة متناحرة.
حتى حين يجتمعون للصلاة في جامع القرية كانوا متفرقين…”ص262.
بين الواقعي والخارق الأسطوري اللامعقول لعالم الأشباح والأرواح المتواصلة عبر الزمن تزول الحدود ،في تجسيد للواقعية الشعبية للريف اليمني…من سطيح التعكر ورسومه في كهوف جبل التعكر وطلاسمه التي أعطاها لهند بنت عتبه، وحسمها لطهارتها، ونبوته لملك بني أمية، والشنطة الجلدية التي أعطاها بما تحتويه أسرار سرمدية، والتي ظلت تنتقل عبر الزمن إلى الولي محمد والفقيه سعيد الحرازي والبناء اليهودي، والمفضل بن أبي البركات، والملكة أروى إلى فورسكال والدكتورة مارتا، الخ .إزالة الحاجز بين الواقعي والخارق ،العلم والخرافة، الكشف الذي يعني الموت “فبصرك اليوم حديد” ،معرفة أسرار تلك النقوش ،تعددت وتكررت التفاصيل لتبقى كلية الحكايات والأساطير في قعر المجتمع…تعاقب أفراد الشيخ العارض في حفظ المخطوطات الخارقة في دار البخور، ونهايتهم المأساوية مع كل بوح وكشف ورؤية!
يقابل ذلك اغتيال السياسي كلما كشف المحظور والمسكوت عنه، وعلى صوته الصادح بالحرية والتعايش…
التزامن في حيز المكان:
قرى (جبل التعكر ) الحيز المكاني كبؤرة رابطة للأحداث، وتعدد الزمان ،فالسارد الخارجي يسعى من خلال هذه المجاورة الزمنية والبصرية للأحداث ليؤكد أن الحاضر هو الميدان الحقيقي لهذه التجربة الروائية الفذة، هذا التضفير بين حكاية كريم وجار الله عمر، وفورسكال والدكتورة مارتا في مستشفى جبلة، بين سطيح والولي محمد والشيخ العارض ،والملكة أروى ،والفقيه سعيد الحرازي، وعلي السعواني إلخ، ميدانها الحقيقي هو الحاضر، السارد الخارجي جعل الفعل الروائي يحدث في سلسلة من الأزمنة المتعددة في المكان اليمني ،الذي تبدأ بؤرته في جبل التعكر ،لتحلق منه نحو التهايم وجبلة ،مدينة تعز وعدن ،ومكة والحديدة وصنعاء، ويريم ،الخ. هذا الانتقال الواعي المتجاور للأزمنة ،والرابط عضويا للمكان اليمني المتعدد، الذي يخلط بين هنا وهناك المكاني والزماني يتحدى التشتيت البصري والسردي، راسما خارطته من أصدافه المنتقاة، وإن زعم أنها تجاذبت عن طريق الصدفة غير الواعية…
استعادة الأزمنة من الماضي البعيد والمتوسط والقريب إلى الحاضر تخلق شعورا بعضوية المكان الوحدوي ،حين تشاهده من أعلى جبل التعكر، برؤية كلية جامعة وممعنة في استيعاب الجزئيات والمكونات التاريخية والجغرافية، لكأن الوطن الوحدوي اليمني مكثف في تلك المحفظة الجلدية التي أعطاها سطيح التعكر إلى هند بنت عتبة، وتوارث سرها المكنون أزمنة وأشخاص وأحداث توزعوا على قرى سفح جبل التعكر …
هناك حشد لفضاءات زمنية تربطها رسومات كهف جبل التعكر وقبة السماء، والفضاء المكاني لليمن، وأحداثها التاريخية الممتدة من الماضي ،والمتجمعة في “بركة” التعكر ،أي في الحاضر المتدفق نحو المستقبل.