رؤية في بناء الدولة العادلة المستقرة (2-3)

الدولة الوطنية المركبة .. دولة الشراكة

 

عبد الرحمن مراد

الدولة المركبة.. دولة الشراكة
يذهب الكثيرون إلى القول إن الشراكة الوطنية تعني مشاركة كل فئات المجتمع في الثروة والسلطة، ولا يكاد حديثهم ينزاح عن مصطلح التوافق وقبول الآخر في أجهزة الدولة ومؤسساتها، ولا نرى ذلك إلا فهماً قاصراً لا يستوعب الحالة اليمنية في البعد الحضاري والثقافي والتكوين العام للذات اليمنية، وهو تكوين تجاذبته الأحداث المتوالية في السنين والحقب التاريخية المختلفة، كما أنّ ذلك الفهم يظل عاجزاً عن تحقيق الاستقرار باعتباره من الشروط الموضوعية لبناء الدولة وتحقيق القدر الكافي من التنمية والرفاه الاقتصادي.
علينا أن ندرك إدراكاً جيداً أنّ الشراكة تذهب إلى أبعاد ومفاهيم مختلفة، فموضوعها متشعب وهو في جوهره يعني إحلال قيم مكان أخرى، ومبادئ مكان أخرى، وإفراغ العصبيات من قيمها الصراعية، وإحداث الانتقال اللازم في وجدانها وتصوراتها، توظيفاً للطاقات بما يحدم التنمية، فالعصبية التي تشعر بفقدان القيمة والمعنى في حركة الوجود والحياة تملأ بقضايا الفناء والتدمير، وهي في الوقت نفسه تملك الاستعداد الكافي للاشتغال على القيم التي تعمل على إحياء الناس، وتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فقضية العصبيات قضية وجودية في مقامها الأول، وحين تحتك بالواقع الموضوعي وتصطدم بشروطه القاهرة يشغلها ويعيد ترتيب تصوراتها بما يتسق مع اللحظات الحضارية الجديدة وحينها تبدأ حركة الحياة تدب في تصوراتها، وفي تفاعلاتها، وفي السياق تبتعد عن التفكير في وسائل الانتقام والثأر والموت والفناء والدمار، لتبدأ في التفكير في المعضلات والمشكلات التي تواجهها وقد تبتكر حلولاً للحياة كما ابتكرت حلولاً للموت والدمار.
العصبية الدينية
العصبية الدينية هي من أقوى العصبيات التي تعمل على تفكيك الدولة، وتعمل على الإقلاق وزعزعة الاستقرار، ولذلك فالقول بشراكة هذه العصبية في السلطة والثروة وفق شروط التعدد أصبح ضرورة ملحة،وإذا كان هدفنا هو البناء والتنمية وتحقيق النفعية والمصلحة المرسلة للناس والمجتمع، فمثل ذلك الهدف يجعلنا نخرج من حالة المكابرة والممانعة لنعترف بسلطة العصبية الدينية كسلطة أمر واقع لا يمكننا مهما بلغت بنا القوة تجاوزها، ولذلك فالاعتراف بهذه السلطة هو الطريق الأمثل لتوظيف طاقتها الانفعالية في جوانب التنمية والخير، بدلاً عن جوانب التدمير والشر، ومثل ذلك يقودنا إلى الحديث عن كيان مؤسسي ديني قائم على مبدأ الحوار والتوافق والجدل الفكري والفقهي والبحثي، يضم في تمثيل متساوٍ وعادل كل الفرق والطوائف وتكون رئاسته دورية، ويشرف على الجوانب الدينية والاجتماعية ويكون مسؤولاً مسؤولية مباشرة – تشريعاً وتنفيذاً – عن الأوقاف والزكاة، والفتوى، والمساجد، والمدارس والكليات الدينية، الجمعيات الخيرية والاجتماعية والتنموية، وصندوق الرعاية الاجتماعية، والحج والعمرة، ويتولى تقديم الخدمات الإنسانية والثقافية والاجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة، ومن خلال التفاعل والاحتكاك بين الفرق والمذاهب قد نشهد تنافساً أخلاقيا،وهو الأمر الذي يعكس نفسه على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وبحدث قدراً كافياً من الانتقال في الحياة الاجتماعية، كما أنه يوفر ضابطاً أخلاقياً وقانونياً لحركة المجتمع التي تشهد تشوها في جوانبها الإنسانية والأخلاقية، وهو الأمر الذي ترك أثراً على الأبعاد الحضارية، وبمثل ذلك نكون قد حققنا بعداً مهماً من أبعاد فلسفة الشراكة من خلال التوظيف الأمثل للنزعات الفطرية والثقافية لبعض مكونات المجتمع.
العصبية الاجتماعية القبلية
ندرك أن ” العُرف ” في اليمن له قوة القانون ونفاذه، وأن البنية الاجتماعية هي الأكثر تأثيراً في المسارات العامة، وأن القبيلة ذات امتداد تاريخي متجذر، ومعيار القوة هو ديدنها في المستويات الحضارية التي وصلت إليها، ولذلك يصبح توظيف العصبية الاجتماعية كرديف للجهاز الأمني والعسكري وفق آلية تناغمية تتسق والاستعدادات الفطرية والنسق الحضاري التاريخي أمراً مهماً، توظيفا للطاقات، وبما يخدم أهداف التنمية وبحيث تنشأ مؤسسة رسمية منتخبة تتكامل مع المؤسسة العسكرية والأمنية، وبحيث يكون العُرف متآزراً مع القانون أو متكاملاً معه وبه، لتحقيق حالة الاستقرار في الوطن، وكل ذلك لا يحتاج إلا إلى تجديد وظائف مصلحة القبائل وتوظيف موازنتها بما يخدم حالة الانسجام والتناغم المجتمعي، بحيث ترتبط المؤسسة الاجتماعية بالمؤسسة الأأمتأمنية ارتباطاً عضوياً وتكاملياً ووظيفياً، ويكون التمثيل فيها تمثيلاً عادلاً للجغرافيا الوطنية، وبحيث تكون المسؤولية الوطنية والأخلاقية مسؤولية مشتركة بين المجتمع التقليدي والمجتمع الرسمي، وهو الأمر الذي يحقق الشعور بالقيمة وبالمعنى، ويحد من الظواهر السلبية ويحدث القدر اللازم من التناغم والاستقرار.
المجتمع المدني
من المسلَّمات انّ اليمني التاريخي يكاد يشمل كل الجزيرة العربية، وذلك الشمول والاتساع كان له أثره المباشر في التكوين الثقافي، وفي التداخل الحضاري بين الحضري والمدري في التجاذبات الجدلية المتصلة بالآخر، فالتعدد الثقافي كان أكثر تجذراً وأكثر حضوراً، إذ ثمة تأثيراً للزبورية، والتوراتية وللأكسومية الأنجيلية و للهندية، وللمجوسية، وللرومية في الأطراف الشمالية..، فالتعدد الثقافي كان سمةً بارزةً في التكوين الحضاري والثقافي اليمني، وكان سبباً في حالة الاتصال والفصل التاريخي، كما أنّه ألقى بظلاله على البعد الاقتصادي الذي توزعته ثنائية الإنتاج / الغنيمة، والقاسم المشترك بين كل ذلك التنوع والتعدد هو روح العمران الذي أسَّسَ لقيم تشاركية وتفاعلية ظلت ثابته في وجدان الإنسان إلى وقت قريب.
ومن البديهي القول إننا نعيش اليوم واقعاً حضارياً غير مستقر ولا نشترك مع كثير من الطوائف والأحزاب والجماعات في المعتقدات والقيم، وقراءة أبعاد وآفاق الواقع الجديد بوعي الاستقرار بجعلنا أمام مهام ثقافية وأهداف ثقافية جديدة علينا التعامل معها وفق ضرورات ومتطلبات الحاضر والمستقبل لا وفق فقه الصراعات الذي ظل مهيمناً على تفاعلاتنا المختلفة طوال عقود.
الأحزاب السياسية
في اليمن عدد من الأحزاب تمتد من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار، وهذه الأحزاب كانت تعبيراً عن مرحلة تاريخية فارقة في التاريخ العربي المعاصر، وهي ترتبط بعصر النهضة وبشروطه الموضوعية، ولم تعد تعبيراً عن الزمن الحضاري الجديد والمتعدد، والذي يتسم بعدم الثبوت والاستقرار، وهو الأمر الذي يبعث أسئلة الزمن الجديد الذي يتفاعل مع المستويات الحضارية المتعددة في العالم من حولنا، فاليمن يريد نشاطاً منتجاً لعوامل النهضة لا معززاً لثقافة الغنيمة والصراع العدمي، فكل حزب يتحدد وجوده بقدرته على الاشتغال على ثقافة المشروع النهضوي، وفي غياب ثقافة المشروع يكون الفناء هو الحاضر الوحيد.
النقابات المهنية
شابت المرحلة التي بين ( 90 – 2011م) حالة تشوه للعمل الثقافي في اليمن، وتنافست الأحزاب على النقابات المهنية لأغراض سياسية وكيدية،وغاب عن بال الأحزاب حركة المجتمع وتنميته لأغراض تنافسية وإنتاجية، ولذلك تعددت التعبيرات النقابية بتعدد النفوذ عليها، بهدف ممارسة الضغط والكيد السياسي، وربط التجمعات والمؤسسات المدنية بأهداف ثقافية واقتصادية واجتماعية ضرورة مُلحة في التمهيد للانتقال للمجتمع المدني المدرك واجباته وحقوقه وفق أسس وقيم إنتاجية، مع مراعاة الجودة وتحسين المنتج.
ويتطلب مثل ذلك وعياً بضرورات المرحلة ومهاداً قانونياً وتشريعياً يعيد ترتيب بيئة المجتمع المدني بما يتوافق وتطلعات المرحلة.
الجمعيات والمراكز والمؤسسات الحقوقية والثقافية والاجتماعية
انتشرت في العقود الماضية الجمعيات والمراكز والمؤسسات الحقوقية والثقافية والاجتماعية، والقارئ لتموجات النشاط الذي حدث ويحدث يجده مرتبطاً بأهداف وغايات ومقاصد غير وطنية، وفي السياق اتساع دائرة وعي الغنيمة عند نشطاء هذا العمل، وهو الأمر الذي أحدث تشوهاً في البناء الاجتماعي المدني وأحدث تنافراً بينه وبين الأهداف والمقاصد الوطنية، ولذلك يمكن أن يقال إن المجتمع المدني في اليمن ما يزال في طور التكوين وصناعته وتحديد مساراته بما يتوافق وأهداف التنمية، والانتقال يتطلب اشتغالاً فكرياً وثقافياً واشتغالاً تشريعياً بحيث يتكامل البناء المدني مع المنظومة المتكاملة لمشروع النهضة ويكون مرتبطاً بالأهداف الوطنية الكبرى.
الحالة الاقتصادية الوطنية
من الظواهر الغرائبية في هذا الوطن أنه لم يتمكن من تكوين بنية اقتصادية ناهضة وقادرة على تفعيل وتنشيط الواقع الاجتماعي بما يحقق عيشاً كريماً، وبما يعزز الفلسفة الإنتاجية، وهي أصيلة في التكوين البنائي الثقافي والحضاري اليمني.
كل ما يمكن أن يقال إن ثقافة الغنيمة كانت هي المسيطرة على مفاصل الأنظمة والحكومات،وعلى سياساتها العامة طوال عقود من الزمن، ولذلك لم تتجاوز المنظومة الاقتصادية الوطنية ظاهرة الاقتصاد السياسي الذي يراعي تناقض الظاهرة الاجتماعية، ومحوره فيها النظرية الكمية والنظرية الموضوعية في القيمة، ولذلك ظلّ الحال الاقتصادي الوطني يراوح دائرة تجدّد إنتاج التخلف، إذ أنّ الذي يحدث أننا لا ننتج سلعاً أو خدمات، لكننا قد ننتج قيمة زائدة – وفق منطق أرباب الاقتصاد – وتلك القيمة الزائدة التي ننتجها لا تقتصر على العمال والبطالة، بل قد تشمل المجتمع بأسرة كون موجهاته الثقافية قائمة على مبادئ الفيد والغنيمة ولا قيمة عندها للعملية الانتاجية، ومن هنا تتجدد ظاهرة إنتاج التخلف، فالكادر المتخصص في المجالات المختلفة ينتظر الراتب الشهري، والوظيفة والدولة عاجزة من تجديد الأهداف الاقتصادية في سياساتها العامة، وبحيث تولي العملية الإنتاجية اهتماماً خاصاً في تفاعلاتها الاقتصادية، وترصد لذلك مبلغاً محدداً لمرّةٍ واحدة للاستثمار في حقل إنتاج السلع المادية، وحقل إنتاج الخدمات، وتعمل على شرعنة تلك الخطوات الرامية إلى تعزيز ثقافة الإنتاج، وبما يحدث توازناً اجتماعياً ونماءً في العملية الإنتاجية في بعديها المادي والخدمي، فالطبيب، والمحامي، والمهندس، وغير أولئك طافات قادرة على الإنتاج في البناءات المؤسسية والتحول من كشف القيمة الزائدة إلى حقل التفاعل الإنتاجي الخدمي الذي يستوعب الكثير من الطاقات القادرة على التفاعل والإنتاج، كما أن الاشتغال على القطاعات الإنتاجية ( الزراعية – الصناعية – الخدماتية ) وفق رؤية تتجاوز قيم التخلف وعلاقات الإنتاج القديمة وتعمل على تجديد الأهداف والعلاقات والنظم في البناء التشريعي قد يخرجنا من دائرة إعادة إنتاج التخلف، ودائرة الاقتصاد السياسي الذي ما يزال يفرض ثنائية التسلط والخضوع، وتلك الثنائية ذات بنية متينة، وعملية تفكيكها تتطلب جهداً مضاعفاً وتوجيهاً نقدياً وإرادة سياسية، وطاقات قادرة على الابتكار والإبداع، لأن العقل السليم يعتد بذاته ويبتكر الحلول الموضوعية لواقعه الموضوعي بما يتناسب مع ذلك الواقع، لا بما قد تفرضه النظريات الاقتصادية والفلسفية التي إن كانت تصلح لبلد فهي بالضرورة لا تصلح لآخر، لاختلاف البناءات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تحدّد الاتجاهات العامة لعلاقات الإنتاج، لأن مثل تلك العلاقات تختلف في إطار القطر الواحد فهي في حضرموت غيرها في تعز، وهي في تهامة غيرها في صنعاء، والتباينات قائمة من مكان لآخر في إطار القطر الواحد، فما بالنا بين الدول والقارات.
ويمكن أن يقال إن ما يحدث من تصدع في جدار الوطن وجدار البنية الاقتصادية ليس إلا نتائج موضوعية ومنطقية لمقدمات تراكمية فسدت خلالها العلاقات السوية بين الطبقات المتصارعة في المجتمع، وبالتالي اختلت منظومة العلاقات بين رأس المال وقوى الإنتاج، وشعر الإنسان بالغبن من خلال استغلال رأس المال له واستعباده، كما أن التشريعات لا تعمل على الحد من الصراعات بين الطبقات ولم تضمن الحدود الدنيا للعدالة الاجتماعية،ومشاركة المجتمع في الشراكة الفعلية في أدوات الإنتاج حتى لا يصبح ” رأس المال ” دولة بين أغنياء المجتمع دون سواهم من السواد الأعظم من الناس، وفي السياق ذاته نتجاوز حدّة الصراع والشعور بالغبن إلى الشعور بالشراكة وضمان الحقوق للعمال وتحسين جودة المنتج.
ومن هنا يمكن أن يقال إنه في الدولة الوطنية المركبة.. دولة الشراكة يفترض لأن تصبح الدولة طرفاً اقتصادياً محايداً كسر الاحتكار وتمكين الشركات والمؤسسات المساهمة من إدارة الشأن الاقتصادي المرتبط باقتصاد الدولة وبالنشاط اليومي للناس، بحيث ينظم القانون حقوق الأطراف جميعاً ويضمن للدولة حقوقها، وقد تصبح حركة المجتمع اكثر ديناميكية ونماءً من خلال الشعور الذي يخامر الأفراد بالشراكة والعدالة الاجتماعية ولو في حدودهما الدنيا، إذ من شأن ذلك أن يوفر بيئة مناسبة للاستقرار السياسي.
القطاعات الإنتاجية
البناء الاقتصادي في اليمن قائم على مبدأ الاستهلاك وهذه ظاهرة لا يمكن نكرانها، وهو اقتصاد سياسي في المقام الأول يولي ظاهرة التناقض الاجتماعي أهمية بالغة، فهو يساهم في تعميق الانشقاقات والانقسامات في البنية الاجتماعية، وذلك من خلال الصراع بين الرغبة في الثروة،والرغبة في حماية الأقوى والأكثر عدداً وتمكيناً في إدارة الثروة وامتلاكها، وثمة ظواهر في واقعنا المعيش توحي بما يشبه الإقطاع خاصة في القطاع الإنتاجي الزراعي، إذ ارتبط هذا القطاع بالثروة وبالسلطة وظل الفلاح يكدح دون طائل، فالاستئثار بالثروة من قبل حفنة يسكنون القصور ويتباهون بالمنمنمات هو الباعث الحقيقي لحركة الانقسامات الاجتماعية و السياسية، ومن هنا يصبح القول بمعالجة المنظومة الاقتصادية على أسس واضحة من الشراكة الوطنية والعدالة الاجتماعية ضرورة ملحة، إذا أردنا الانتقال إلى الدولة المدنية الحديثة القائمة على مبادئ الحق والعدل وتكافؤ الفرص والشراكة.

قد يعجبك ايضا