عواصم/ وكالات
تعرّضت الحالة القانونية والسياسية لشرق المتوسط خلال السنوات القليلة الماضية إلى تحديات كبيرة للغاية، ومع احتدام المنافسات في هذه المنطقة ظهرت استقطابات جديدة للقوة في شرق المتوسط، ففي هذا الصدد زار رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج، الأربعاء الماضي تركيا على رأس وفد سياسي عسكري رفيع المستوى وابرم مع أنقرة اتفاقية تعاون في المجال النفطي والبحري والأمني حيث أثارت هذه الاتفاقية ردة فعل غاضبة من قبل اليونان. فقامت أثينا باستدعاء السفير الليبي وأمهلت بلاده حتى يوم الخميس إما إعادة النظر في هذه الاتفاقية أو تستدعي سفيرها.
وبات البحر المتوسط يحظى بأهمية خاصة بالنسبة للدول الساحلية وكذلك بعض الدول غير الساحلية وذلك بسبب أهميته الجيوسياسية وكذلك موارد النفط والغاز، فالمتوسط بحر شبه مغلق محاط بـ 21 دولة وأغلب دوله الساحلية رسمت حدود مياهها (باستثناء منطقة بين تركيا واليونان)، لكن الوضع القانوني للمناطق الاقتصادية وصيد السمك لا يزال غير واضح تماماً.
النظام القانوني للبحر المتوسط لم يحظَ باتفاق جميع الدول بشكل كامل وذلك لأسباب مختلفة مثل استعمار بعض البلدان الساحلية في الماضي، ووجود جزر متعددة، والنزاعات الثنائية مثل النزاع اليوناني التركي في قبرص، والنزاع بين المغرب وإسبانيا، والنزاع على مضيق جبل طارق بين إسبانيا وبريطانيا.
وتسبب النزاع بين اليونان وتركيا في بحر إيجة في عدم توصل هذين البلدين إلى اتفاق حول حدودهما البحرية الإقليمية، من ناحية أخرى يعتبر البحر المتوسط من البحار الضيقة التي توجد فيها صعوبة تحديد منطقة 200 ميل بحري لمنطقة اقتصادية خالصة، كما لم توقع بعض الدول الساحلية بعد على اتفاقية قانون البحار (1982م)، لذلك أبرمت الدول الساحلية اتفاقيات ثنائية بلغت أكثر من سبع اتفاقيات منها الاتفاقية بين مالطا وليبيا في عام 1974 والاتفاقية بين اليونان وايطاليا عام 1977م.
وبالنظر إلى الاتفاقيات الثنائية المذكورة قسمت تركيا يوم الأربعاء الماضي في قصر طولمة باغجة في اسطنبول المناطق البحرية المقابلة إلى خطين متوازيين بينها وبين ليبيا حيث أشار هذا التقسيم البحري الذي يمتد على مسافة تزيد عن 2000 كيلومتر بين البلدين احتجاج الدول الأخرى وعلى الفور اعتبرت مصر واليونان وقبرص اتفاق تركيا مع حكومة الوفاق الوطني الليبية حول سيادتهم البحرية في البحر المتوسط “عديم الأثر” وأجروا محادثات هاتفية حول هذه المسألة، وفي الوقت ذاته كانت اليونان أشد من الدول الأخرى، لأن خط الترسيم البحري بين ليبيا وتركيا يتجاهل الحدود الإقليمية لجزر “رودس” و”كريت” اليونانية.
انتقلت القضايا السياسية لدول شرق البحر المتوسط إلى النظام القانوني لهذا البحر، حيث أبرمت مصر و”إسرائيل” والسعودية مؤخراً اتفاقيات للاستثمار في قبرص اليونانية، الأمر الذي أدى إلى استفزاز تركيا.. من جهتها أعلنت قبرص اليونانية مؤخراً اكتشاف حقل غاز بسعة 28 مليار متر مكعب وتتطلع إلى جذب المزيد من الاستثمارات، وعلى الرغم من تحذيرات الاتحاد الأوروبي من فرض حظر على تركيا أعلن وزير الطاقة التركي “فاتح دونماز” مؤخراً بدء عمليات التنقيب عن بئر نفط رابع في شمال قبرص.
تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني الليبية برئاسة فايز السراج لأسباب تاريخية وحكم بعض العائلات العثمانية ليبيا وكذلك دعم جماعة الإخوان المسلمين، في حين أن دولاً مثل فرنسا والسعودية ومصر تدعم ما يسمى بالجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، لذلك فإن لتركيا دوافع مختلفة.
الإجراء التركي هذا يعزز المكانة الداخلية للوفاق الوطني والإخوان في ليبيا، ومن ناحية أخرى، فإن هذه الاتفاقية هي رد وتحذير من أن تركيا تقوم بالرد على الاجراءات الأخيرة للسعودية وبعض الدول في جنوب قبرص وإنشاء قواعد عسكرية في هذه المنطقة.
تسعى تركيا إلى ايجاد توازن جديد للقوة في شرق المتوسط. فلدى أنقرة نقطتا قوة ، أولاً: أنها طريق رئيسي لنقل النفط والطاقة إلى أوروبا، لذلك فإن جميع اكتشافات النفط في البحر المتوسط بحاجة الى مشاورات مع تركيا حول النقل إلى أوروبا، ثانياً: حساسية قضية الهجرة واللجوء في شرق البحر المتوسط تجبر أوروبا واليونان معاً على إبداء المرونة .. وفي هذا السياق هدد أردوغان – في سبتمبر الماضي – الاتحاد الأوروبي بالقول “إذا لم تدعم أوروبا المنطقة الآمنة في شمال سوريا فستلغى اتفاقية الهجرة لعام 2016″، وبموجب بعض بنود الاتفاقية تدعم تركيا المهاجرين السوريين في تركيا مقابل مساعدات أوروبية بقيمة 6 ملايين يورو، إذ أثار تهديد أردوغان هذا المخاوف اليونانية.
تستخدم تركيا أدوات ضغطها تلك سعياً منها لتوسيع نفوذها في منطقة المتوسط وليبيا والقرن الإفريقي لأن الاتفاقية الثنائية التي وقعتها تركيا مع ليبيا ليس لها أسس قانونية، ومن ناحية أخرى نظراً لاحتجاج الدول الأخرى، فإن ذلك لن يوفر لتركيا مظلة قانونية دولية لإضفاء الشرعية على التقسيمات البحرية مع ليبيا.
حيث وصفت مصر هذه الاتفاقية بأنها “غير قانونية” وقالت “هذا الاتفاق لن يؤثر على مصالح الدول الأخرى ومراعاته ليست ملزمة لأي دولة”، كما قالت وزارة الخارجية اليونانية تعليقاً على الاتفاقية الليبية التركية “إن توقيع الاتفاقية بين تركيا وليبيا لا ينبغي أن يؤدي إلى انتهاك حقوق الدول الأخرى، في حين أن الاتفاقية المذكورة تشكّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي بشأن الملاحة البحرية”.
بالنظر إلى ما تقدّم وأدوات الضغط الذي تتمتع بها أنقرة في شرق المتوسط، فإن دوافع أردوغان في معظمها تبدو سياسية واقتصاديةً إلى حدّ ما إذ يسعى أردوغان إلى تعزيز مكانته الداخلية بين منافسيه بعد هزيمة حزبه في الانتخابات البلدية في اسطنبول ؛ كما أن عملية نبع السلام في شمال سوريا والاتفاق مع ليبيا تعزز المشاعر القومية التركية دعماً لأردوغان.
ويمكن أن يؤدي الاتفاق مع ليبيا والمحادثات المحتملة بعد ذلك إلى عزل خليفة حفتر والحصول على تنازلات لمصلحة تركيا.
تقوم تركيا عبر هذه الخطوة بوضع التحالف السياسي والعسكري في جنوب قبرص ضدها أمام تحدٍ كبير.
في الختام يسعى أردوغان من خلال تحقيق مزيد من النفوذ في المتوسط إلى إضفاء الشرعية على عمليات استخراج النفط والطاقة في أجزاء أخرى مثل شمال قبرص وجزء من المنطقة الاقتصادي الخالصة لشرق المتوسط.