في شعـر عبدالفتاح إسماعيل


في البدء:
كيف أعتذر إليه عن الانتباه المتأخر مع أنه كان دائماٍ ملء القلب والذاكرة¿ كيف أتحدث عنه¿ ومن أي الأبواب أِصلْ إليه¿ هل من باب الفكر وكان من أصواته المتميزة¿ أم من باب النضال السياسي وقد كان واحداٍ من قادته البارزين¿ أم من باب الشعر وكان الأقرب إلى روحه¿ أم من باب الوحدة التي تفانى في الدعوة إليها وأسهم في تذليل الصعاب على طريقها¿ أم من باب النهاية التراجيدية لمناضل ومفكر وشاعر أحب الحياة وعمل من أجلها فأخذته عواصف السياسة فلم يعرف له قبر حتى الآن¿

ولكن بما أن مواقفه ومواهبه المتعددة جعلت منه رجلاٍ واسع الاهتمامات والإنجازات فليكن الشعر هو الباب الذي ندخل منه إليه في هذه الإطلالة الموجزة لأن هناك العشرات ممن يجيدون الحديث عنه في قضايا الفكر والسياسة والنضال ولتكن إشارات الشاعر الكبير أدونيس في مقدمته لديوان عبدالفتاح إسماعيل الوحيد المطبوع «نجمة تقود البحر» دليلنا الأول في هذه المقاربة. يقول أدونيس «تتضمن هذه المجموعة نصوصاٍ كان عبدالفتاح إسماعيل يكتبها بين وقت وآخر وينشرها بتوقيع مستعار هو «ذويزن» لكي يفصح ويعبر بها عن جوانب خاصة في حياته وتجربته إضافة إلى ما كان يكتبه من نصوص أخرى سياسية وفكرية»(1).
وتنطوي هذه المجموعة على تنوع مدهش وتجمع فنياٍ بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وبذلك يكون عبدالفتاح من أوائل من بشروا بهذا الشعر المنطلق خارج حدود الأوزان الموروثة والإيقاع المتعارف عليه وسوف أتوقف في البداية عند إشارة أدونيس المضمرة إلى أن عبدالفتاح لم يجد فيما يكتبه من نصوص سياسية وفكرية ما يشبع روحه المسكونة بالإبداع في أصفى تجلياته وهو الشعر لذلك فقد كان يهرب إليه ليجد عنده سلام النفس والسعادة العميقة ولولا انشغالاته -منذ وقت مبكر- بقضايا الثورة وهموم الوطن الجسام لما كان إلاِ شاعراٍ يعيش تجربته الإبداعية ويعمل على إنضاجها بكل ما امتلأت به نفسه الشاعرة من صور الحب والجمال في أرقى معانيهما الإنسانية والعاطفية.
وكل الذين اقتربوا من «فتاح» ومنهم شعراء وكتاب ومفكرون يمنيون وعرب وجدوا فيه الإنسان المرهف المشدوه بالشعر والذي ينظر إلى هذا الفن الجميل من خلال حياته المزدحمة بالهم السياسي وينظر إليه كفردوس مفقود من جهة وكمعادل موضوعي للثورة كما تصورها وأخلص لها ودفع حياته ثمناٍ لها من جهة ثانية فالشعر في معناه الأوسع وعي بالعالم وشعور بما يعاني منه الناس والوطن. وبقدر ما هو نشاط ذهني فهو نشاط روحي وأسلوب من أساليب مواجهة الظلم والفساد والقبح وثورة تحرر الإنسان داخلياٍ من أهواء النفس وصغائر المواقف وتحرره خارجياٍ من ضغوط الخوف التي يمارسها معه الطغاة والجلادون والغزاة. وقد أثبت الشعر في أحايين كثيرة وفي مواطن عديدة من العالم أنه قادر على التعبير عن ذلك كله ولم يعد هناك ما يقبل الشك في أن عبدالفتاح قد فتح عينيه على فن الشعر قبل الموضوع السياسي. كان ذلك في المدرسة على الأقل لكن الأخير استأثر به وبوقته وطاقته ولم يترك له سوى مساحة ضئيلة من الوقت لممارسة هذا الفن الذي فتح عينيه عليه منذ وقت مبكر.
وأعود ثانية إلى أدونيس في مقدمته للمجموعة حيث يقول: «ما لا خصوصية له لا هوية له والعكس صحيح. ويتمثل المظهر الأول لخصوصية الشعر في أن العلاقات التي يقيمها مع الأشياء علاقات تصوير وتخييل لا تحليل وتعقيل. فالشعر يرى إلى الإنسان والعالم والأشياء بطريقة تغاير الرؤية السياسية ويعبر عنها تبعاٍ لذلك بطريق تغاير طرق التعبير السياسي. لكن الشعر بوصفه كذلك وبوصفه رؤية جديدة بالضرورة عمل سياسي بالمعنى الواسع لهذه العبارة ذلك أنه عمل مغير ويعنى التغيير هنا أنه يقدم صورة جديدة مغايرة لما هو سائد عن الإنسان والأشياء والعالم أو ينقل هذه جميعاٍ نقلاٍ تخييلياٍ. من صورها الراهنة إلى صور أفضل وأجمل وأكمل»(2).
وقبل الاقتراب من نصوص المجموعة تجدر الإشارة إلى أن غياب عبدالفتاح في ظروف غامضة ومثيرة للتساؤلات المتجددة تسببت في غياب كثير من إبداعاته الشعرية غير المنشورة وفي غياب كثير من كتاباته النثرية كما أن هذا الغياب قد أحدث -كما يقول البعض- خلطاٍ في تنسيب بعض قصائد آخرين إليه وتنسيب بعض قصائده إلى آخرين. وحتى المراثي التي كتبها الشعراء في وداعه لم تسلم من ذلك الخلط وكان المبرر المتداول لدى الجميع أن ما رافق غيابه من ظروف بالغة الحزن والتعقيد كانت السبب الرئيس في ذلك الخلط والضياع. ومن هنا عْد ذلك الغياب خسارة حقيقية للثورة وللوطن كما للشعر والإبداع فقد كان عبدالفتاح الداعم الأساس لكل ما هو إبداعي كما كان احتضانه لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في صورته الوحدوية غير التشطيرية محل تقدير من جميع المبدعين والوحدويين ولو لم تتجه الأحداث بعد رحيله نحو إلغاء التشطير وإنجاز الوحدة -بشروطها الديمقراطية القائمة على التعددية وتبادل السلطة- لكان وضع البلاد ووضع الاتحاد قد تغير نحو الأسوأ نظراٍ لاحتمال قيام نظامين انفصاليين معاديين لبعضهما البعض وكذا معاديين لكل التوجهات الوحدوية والإبداعية.
ستكون وقفتنا في هذا البحث عند ثلاثية اشتغل عبدالفتاح عليها في شعره بوعي شديد وتركيز عميق تلك هي ثلاثية الثورة والوحدة والإنسان. فالثورة هي أداة التغيير ووسيلة الشعوب إلى الارتقاء والتقدم. والوحدة في نطاق الوطن اليمني هي طوق النجاة من مخاطر التشطير المادي والنفسي ومن نزيف الصراع الدموي بين الأهل الذين وضعتهم الأقدار في هذا المكان الزاخر بالخيرات والمواقع الإستراتيجية من جنوب الجزيرة العربية. أما الإنسان فهو الغاية والوسيلة والهدف الأسمى لكل من الثورة والوحدة. وفي إطار هذه الثلاثية توهجت الحساسية الشعرية لدى عبدالفتاح فأطلق لأخيلته العنان بعد أن استوعب حجم المعضلة الوطنية وأفاد من تجارب الشعوب الأخرى في العالم القديم والمعاصر.
-1 الثورة:
تشكل الثورة في شعر عبد الفتاح حضوراٍ قوياٍ ليس في قصيدة بعينهاº وإنما في ثنايا كل قصائد المجموعة فقد كانت -أي الثورة- مفتاحه في الحديث أو الكتابة عن كل ما يتعلق بالوطن والإنسان فتماهى معها وآمن أنه بالثورة ومن خلالها يمكن أن يتحقق التغيير المنشود مهما كانت الصعاب والعوائق فإن وميض فجرها المتوحد بدماء الشهداء سيكتب الخلاص الحقيقي في آخر المطاف:
كاهتزاز سعف النخيل
في اضطرام العواصف
سبحت بيارق سيف اليمانيين
بركان رعد
فتائله أشعلت جذوة القهر
والغيظ
فأطل عليكم
بوجه ودود
بِراه عذاب صراع الزمان
طولاٍ وعرضاٍ
هذي المرايا التي أثخنتها الجراح
ضريبة أحلام راياتنا الحمر
باقات أشواقنا البيض
واخضرار الأماني.(3)
إن الوجه الذي أطل على اليمانيين في ضوء اهتزاز سعف النخيل (رمز الخصب) وفي بركان من الرعود المشتعلة ليس سوى وجه الثورة الودود الوجه الذي أنهكه عذاب الطريق وأهواله وأثخنته الجراح وقدم ضريبة الحضور قبل أن يأتي حاملاٍ رايات النصر وباقات الأشواق والأماني إلى شعب عانى الكثير من الحكم الثيوقراطي من جهة ومن الاحتلال الأجنبي من جهة ثانية. ومن خلال نظرته الوحدوية نحو الثورة بوصفها هدفاٍ وطنياٍ من شأنه أن يحرر الوطن اليمني بكامله لا شطراٍ واحداٍ دون آخر تقف عنده فاعلية الثورة.
وفي قصيدة أخرى نرى الثورة التي رمز لها بـ «النجمة» وقد فتحت أبوابها للضوء والأمل وشرعت في تجميع أوصال الوطن الذي مزقته المطامع وساعد الاحتلال الأجنبي على إبقاء مراياه مشروخة وأبنائه جياعاٍ يعانون:
المرايا حقاٍ مشروخة
غير أن النجمة في قلبها
تلحمها… تصقلها
وأبوابها مفتوحة للضياء
على امتداد ساحاتها
وأنشد:
العيون التي قد أبصرت خيوط الضياء
باسمةٍ مفتوحة المحاجر على المرايا جميعاٍ.
وأنشد:
والجائعون عرفوا كيف يسترجعون روحهم
ممن سرقوا قوتها
في المرايا
جئتْ مبكراٍ قبل الأوان.(4)
-2 الوحدة:
من النافل القول بأن الشعور الوحدوي الذي عبرت عنه قصائد عبدالفتاح لم يكن سوى التعبير عما رسخ في وجدانه وضميره فقد كانت الوحدة بالنسبة له جزءاٍ لا يتجزأ من أحاسيسه ورؤاه واختلاجات روحه. وكم كان يتمنى ويتوق إلى أن يشهد اللحظة التي تختفي معها وإلى الأبد النقاط والحواجز العسكرية التي تفصل -اعتباطاٍ وقسراٍ- بين الأهل الذين عاشوا تاريخهم الطويل في إطار وحدة جغرافية لا تعرف الانفصام والانقسام. وكان يرى بل يؤمن أن الوحدة تشكل مشيئة اليمنيين وطوق نجاتهم الاقتصادية والسياسية. وفي كتاباته الفكرية ما يلقى مزيداٍ من الضوء على هذه الأحاسيس الشعرية الوحدوية وما تعكسه من جانب شعوري وجداني ومن إصرار على إعادة التئام الوطن الواحد ذي الوجه الواحد بعد أن تعددت وجوهه وانكسرت مراياه وشموسه في عهود التشطير والمطامع المحلية الضيقة وما أفرزته من تشظيات سلبية في بنية المجتمع اليمني:
كسوف القمر
والنفوس الفيافي العرايا
مأساتها..
خسوف لقطعة شمس
تعشعش فيها طحالب
سوس
كوشم على الوجه
والوجه وجهان..
آه.. ومنبع نهر اليمانيين… واحد.
تمزقنا خطوط التواصل
توحدنا خطوط التقاطع
فالوجه وجهان
والأرض مشطورة
والبشر(5).
يا لها من توجعات مستفزة واستشعار عميق بالمسئولية تجاه وطن ظلمه أبناؤه وأعداؤه على حد سواء وتوافقوا على استمرار تقطيعه وتمزيقه. وفي قصيدة أخرى نقرأه وهو يغني لبلاده الواحدة ويضع قلبه بين نهديها الحنونين كأمُ يتسع صدرها لجميع أبنائها على اختلاف توجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية:
يا قلعة المجد الفكر الحب
ويا أغنية الخصب يا بلادي
ابنك وضع القلب بين النهدين
وسافر
يحمل في ساحات النور
بيدُ عينيك وبالأخرى رايات
حبك
ألا تحزنين¿ لا لم يغب.
فحضوره
أكبر
أكبر
أكبر(6).
3- الإنسان:
لا يختلف اثنان على أن الإنسان هو محور الموقف الفتاحي منه ينطلق وإليه يعود من أجله كانت الثورة ولتحقيق أحلامه وسعادته كان لابد من العمل من أجل الوحدة. الإنسان هدف وكل شيء وسيلة وحين نتذكر ما عاناه إنساننا في الماضي يتملكنا الرعب وتتعاظم أحزاننا وتدركنا حالة قلق مستديمة من ذلك الماضي المحزن الذي أحاط بالوطن وأهله. شماله كجنوبه في الانكسار ومعاناة التخلف والإحساس بالغربة عن العصر وما أكثر الأسئلة التي كانت تتزاحم على ألسنة المواطنين عن جدوى تلك الأضواء المتلألئة على الشاطئ «عدن» حيث يستحم الغزاة في بحرها ويغنْون ويرقصون ويجعلون التراب يتململ احتجاجاٍ ويثور ويلعن سوء حظه بعد أن أصبح مسرحاٍ للغرباء وليس مرتعاٍ للإنسان اليمني الذي غسله بدمه أكثر من مرة على مر العصور ليعيد إليه حريته وكرامته وهذا ما قصده شاعرنا في هذا المقطع المفعم بأعمق المشاعر الإنسانية:
ليبدأ إنسان الأرض
يعرف معنى الأعياد
أعياد الأجسام المسحوقة
في وهج الشمس
من عرق الأجسام المحروقة
تخضر الأرض
يتفجر منها ينبوع الخير
يتلاشى الحقد يصير حنان
يتلاشى الخوف يصير أمان
ويكون الإبداع الخلق
وكل الآتي
إلى الإنسان من الإنسان(7).
هكذا وفي غنائية عذبة خافتة يتلألأ وجه الإنسان العامل الشريف الذي يضني نفسه خدمة للوطن وللناس والذي هو في الأخير عائد فعله إليه ويتجلى الإنسان في النص الآتي كقوة عظمى تتجاوز آلامها وانسحاقها لكي تقاوم الظلام وتبدأ مسيرتها مع أجنحة الضوء الوردية:
يفيق ليبدأ ثانية في الضياع
حزين الملامح
يبحث عن موعد الصحو
يا موسم الأمنيات
أتهزأ حقاٍ بمعنى الحياة
وتسخر من نهدات الشتات
أتخلق من كل عهد إلـهاٍ
وتدمى جراح القيود
وتبصر ساعتها الحب منسحقاٍ بالحنين
يواجه عنف الشقاء
ألا فلتقاوم
ليشرق فجرك
يفضح زيف الظلام
أجنحة الضوء ورديةَ
لن تلين قناة الضياء(8).
من ثلاثية الموقف إلى ثلاثية البنية الفنية:
لا يتحقق للنصوص الشعرية طقسها الإبداعي ورهافتها العميقة إلا من خلال ما تحققه من أشكال جمالية وإذا كان الموقف في القصيدة الفتاحية يتشكل من خلال ثلاثية الثورة والوحدة والإنسان فإن البنية الفنية -في هذه القصيدة- قد تجسدت عبر أبعاد ثلاثة تمثلت في اللغة والرمز والأسطورة اللغة التي لا بوصفها تركيبة نحوية صرفية أو أداة لتوصيل المعنى وإنما بوصفها فضاء يتغيِا الشاعر من ورائه أقصى ما يتاح لها من الصياغة الجمالية. والرمز من الاكتفاء منها بالإيماء والإشارة لا التصريح حيث هو صور وعلاقات تقبض بالأبدي والخالد. ونجاح الشاعر -أي شاعر- مع الأسطورة يأتي من خلال استرجاعه وتركيزه الإشارة إلى عوالمها ودلالتها كما هي الإشارة في ديوان عبدالفتاح إلى «إرم ذات العماد» وما تذكر به من دلالة المجد القديم الذي شهدته اليمن في عصور سالفة تحول معها التاريخ إلى أساطير تأثيره. ويبدو أنه كان على وعي بأن لكل بلد أساطيره الخاصة وما تؤسسه من خصوصية في التعبير والدلالة وفي الشعر تغدو الأسطورة إحدى المهيمنات الفنية التي لا يتوقف تأثيرها على النص عند التدفق وإخصاب النص الشعري بالعميق من ظلال الرؤى والتوق إلى البوح بما لا يمكن البوح به بشكل مباشر.
وتنهض اللغة أول ما تنهض في ديوان (نجمة تقود البحر) ابتداءٍ من العنوان ثلاثي الكلمات وهو يشكل المفتاح أو عتبة الدخول ومنه يدلف القارئ إلى قصائد الديوان وليس صحيحاٍ ما يقال من أن عنوان الديوان هو (البحر يقود النجمة) لما في ذلك من تصادم مع الدلالة الرامزة والتي تشير إلى أن النجمة هي الثورة والبحر هو الشعب ولا يمكن أن يكون الشعب الذي انتظر الثورة طويلاٍ وحلم بها كثيراٍ هو القائد:
قالوا:
سبقت زمانك
مهما تفاءلت فالبحر كف عن المد
والنجمة خبا منها ذاك الضياء
وأجنحة الليل تحيط بك
تحيط بك تحسب كل بحرك
ترصد الجهات كلها حتى نبض الرمال
أتيت مبكراٍ قبل الأوان
فالمرايا مكسورة
والعيون أجفلت من صفاء الضياء
والآذان عافت لحن الحنين
والجائعون خدرهم وباء مغريات ضجيج الإشارة
وها أنت كأنك ما جئت(9).
كانت تلك الصورة الأولى صورة ما قبل البداية ما قبل التغيير وما قبل أن تستعيد النجمة ضياءها وتواصلها وتبدأ في تحققاتها:
المرايا حقاٍ مشروخة
غير أن النجمة في قلبها
تلحمها.. تصقلها
وأبوابها مفتوحة للضياء
على امتداد ساحاتها(10).
وهنا تنداح الرموز وفي شعر عبدالفتاح -كما أرى- رموز أكثر منها أقنعة واستنطاق للتاريخ واسترجاع لأحداثه المؤلمة في ضوء ما كان قائماٍ في حاضر الوطن المحتل كما هو الحال من تلك الإشارة إلى «باذان» وبالتوازي مع الإشارة إلى رموز الإخضاع واليأس فهناك رموز التفاؤل والاختبار:
جنة الانتظار
لهذا اختبار لنا
وأي اختبار
«شداد» ما كان يوماٍ بأسطورة
ولا «إرمِ ذات العماد»
وفي أول الغيث
كان اشتداد الصراع(11).
وعلى الذين يقولون أن شعر عبدالفتاح قد خضع بسيطرة الفكر وسلطته الناقدة أن يتذكروا أنه بشاعريته وبذكائه الشديد استطاع أن يتحكم في مسار الفكر في شعره وأنه اختار في قصائده المكتوبة بالفصحى لغة ترفض التعالي على الواقع وفي الوقت ذاته ترفض أن تكون انعكاساٍ للكلام العادي. وأنه نجح في حديثه عن الثورة والإنسان والتاريخ والوحدة والحب في اختيار لغة صافية متخففة من ثقل البلاغات والإنشائية:
حبيبتي
إن أعتمت سماء مهجتي
وغابت النجوم
وأشرعت جحافلاٍ مخيفة أجنحة الظلام
خوفك علي..
يحيل عينيك نجمتي المضيئة
التي لا تنطفئ
وإن تلبدت في الأفق غيوم حزني الكبير
وانتشرت في الجرح آلام الشجون
حنانك علي يرتسم فرحة وبسمة
تزيل عن نفسي الهموم
وإن تكالبت مخاوف الدهر وأخطار الفناء
وأصبحت مخالب الدهر من حولي تحوم
فحبك الكبير يستحيل أملي
وفيه مرفأي الأمين(12).
في الختام:
تشير النصوص التي تم العثور عليها من شعر المناضل الشهيد عبدالفتاح إسماعيل إلى أهمية الكلمة ودورها في مقاومة الموت وتحدي النسيان كما تشير إلى أنه كان يتنبأ بموته وبحضوره في الموت كما في الحياة من خلال إشارات كثيرة تتخلل النصوص ويجمع بعضها بين الميلاد والموت والحضور والغياب ويلاحظ وجود هذه الثنائيات في أكثر من نص شعري على غرار ما يكشفه هذا المقطع من قصيدة (آزال.. ولعبة الألوان) وهي من أهم القصائد التي يتماهى فيها الشاعر مع الوطن وشمسه وأضوائه ولون تربته وتمزقاته وأوجاعه:
هل يكفي ذلك يا تربة روحي
وها إني أحمل مطرقتي فأسي
لأحطم إبريق السم وعلب لفافات الأفيون
لأحطم هذي «الأوثان» الألوان…
وأقدم نفسي للنار
فالاحترق الساعة
كي ينبعث «أزال العصر»
من الجسد المحروق كتلة جمر
تحرق لعب الألوان
وتكون اللون لترابك
وأنا القربان(13).
وفي نص سبقت الإشارة إليه يناشد بلاده بأن لا تحزن لأنه بزهده وتصوفه الثوري عائد وحاضر في حياتها ولن يغيب:
لا تحزني
لا لم يغب
فحضوره
أكبر
أكبر
أكبر(14).
هنا يلامس عبدالفتاح بأصابعه الحقيقة العميقة حقيقة أن الموت يغيب الأجساد ولكنه لا يغيب المواقف وأنه –أي الموت- يقف حائراٍ وعاجزاٍ أمام الكلمات الاستثنائية التي تلامس الوجدان بصدقها وتوهجها وإذا كنا قد وصلنا إلى هذا الثائر الشاعر أو بالأحرى إلى شعره متأخرين فإن ذلك خير من أن لا نصل في زحمة الآهات والحسرات والانشغال عن كل من هم في معية الطمأنينة والخلود.
** هوامش:
(1) ديوان «نجمة تقود البحر» ص5.
(2) نفسه: ص5.
(3) نفسه: ص15.
(4) نفسه: ص14.
(5) نفسه: ص18.
(6) نفسه: ص48.
(7) نفسه: ص79.
(8) نفسه: ص55.
(9) نفسه: ص12.
(10) نفسه: ص14.
(11) نفسه: ص19.
(12) نفسه: ص61.
(13) نفسه: ص70.
(14) نفسه: ص48.

قد يعجبك ايضا