الثورة وجزراتها الست

 

كان تنظيم الضباط الأحرار يدرك جيداً حجم التحديات والصعوبات الداخلية والخارجية التي ستواجه ثورة الـ 26 من سبتمبر 1962م ،وقد كان افتقاد قادة الثورة إلى القاعدة الجماهيرية أبرز هذه التحديات ، نظراً للظروف السياسية والثقافية السائدة آنذاك .
لذلك ، لجأ قادة الثورة إلى تغطية تلك الفجوة من خلال تبني أهداف الثورة التي شكلت جسراً سهل عملية انتقال فئات وشرائح شعبية واسعة من الضفة الملكية إلى الضفة الجمهورية.
عباس السيد

نجح قادة الثورة في خلق قاعدة جماهيرية عريضة اصطفت حول مصالحها المُضمنة في أهداف الثورة الستة وعملت من أجل تحقيقها ، وأصبح الشعار “الجمهورية أو الموت” .
بعد ثمان سنوات من الحرب الأهلية التي أججتها قوى إقليمية ودولية وراح ضحيتها حوالي 200 ألف نسمة ، أنجزت الثورة انتصارها وارتفع علم الجمهورية في السهول والجبال من تعز إلى صعده ، وبقي تحقيق الأهداف الستة وتعزيز ما تحقق منها هي المهمة الرئيسية ” المفترضة ” لقادة الجمهورية.
خلال الفترة من 62-1978م ، تعاقب على الحكم الجمهوري أربعة رؤساء ـ السلال ، الأرياني ، الحمدي ، الغشمي ـ تراوحت فترة حكم كل منهم بين ثمانية أشهر إلى سبع سنوات ، انتهت فترة حكم إثنين منهم بالقتل والآخران بالنفي، وجميعهم أصبحوا في ذمة الله.
ما الذي تحقق من الأهداف في عهدهم ؟! أين أصابوا وأين أخطأوا؟، ؟! قد نختلف في الإجابة عن هذه التساؤلات ، ولكن الذي لن يختلف عليه الكثيرون هو أن الرؤساء الأربعة لم ” ينقلبوا ” على أهداف الثورة ، إمّا لأنهم كانوا أوفياء لهذه الأهداف ، وإمّا لأنهم لم يجدوا الظروف الملائمة لعملية الانقلاب.
عام 1978م تسلم الرئيس علي عبدالله صالح زمام الحكم الجمهوري وبالتالي مسؤولية تحقيق الأهداف الستة ، بينما كان للرئيس صالح هدفه الخاص ، وهو ” تحاشي مصير أسلافه الأربعة ” ، وقد سخر كل شيء لتحقيق ذلك ، فامتد عهده إلى أكثر من ضعف المدة التي قضاها أسلافه الأربعة مجتمعين.
نجح صالح بامتياز في تحقيق هدفه الخاص ، وكان ذلك النجاح على حساب أهداف الثورة الستة على الرغم من توفر المناخات والإمكانات الملائمة لتحقيقها خلال فترة حكمه .. لم يفشل الرئيس صالح في تحقيق الأهداف الستة فحسب ، ولكنه انقلب عليها من خلال سياسة ممنهجة كرست الاستبداد وحولت الجيش إلى ميليشيات عائلية ومهدت لتوريث الحكم ، كما أدت سياسات صالح إلى تصدعات في النسيج الاجتماعي والفكري والجغرافي يصعب ترميمها وجبرها في المستقبل المنظور ـ على الأقل ـ.
وبحسب تقارير أممية تُصنف اليمن ضمن أكثر الدول تخلفاً في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم وتأتي عربياً قبل الصومال ودولياً قبل أفغانستان.ـ هذا التصنيف كان قبل الحرب العدوانية التي تقودها السعودية على بلادنا منذ خمس سنوات ، وهي حرب تدميرية أعادت بلادنا عقودا إلى الخلف ، وخصوصا فيما يتعلق بالبنية التحتية ـ .
في مطلع 2011م ، أي بعد قرابة 50عاماً من تبني الثورة والنظام الجمهوري للأهداف الستة ، وجد اليمنيون أنفسهم وكأنهم يركضون خلف ست جزرات طيلة العقود الماضية ، ولأنهم أيقنوا أن الطريق لا يزال طويلاً وبلا نهاية وقد أنهكهم المشوار، توقفوا عن الركض ، وصرخوا بصوت واحد : الشعب يريد إسقاط النظام.
سقط صالح من على صهوة حصانه ، فأنقذه أصدقاؤه ” بحصانة ” أخرى غادر على ” متنها ” البلاد بعد أن سلّم ” العُصِي والجزرات الست ” لأقاربه وأعوانه في النظام الجديد ـ القديم كي يستمروا في ممارسة نفس الحيلة ، مع أنها باتت مكشوفة وقديمة بالنسبة للشعب.
في يوم الأربعاء الموافق 1فبراير 2012م، رفضت صحيفة “الثورة” أن تستمر في دورها القديم ” كعصا للجزرات الست” حيث اختفت من صفحتها الأولى زاويتي أهداف الثورة اليمنية وإضاءة الرئيس ، وقد جاءت هذه الخطوة بعد شهر من بدء الصحيفة سياسة تطبيع لعلاقتها مع القارئ اتسمت بالهدوء والحذر.
وعلى طريقة ” رمتني بدائها وانسلت ” شن أتباع النظام وأجهزته حملة شعواء على هيئة تحرير الصحيفة الذين اتهموا بالخيانة والعمالة وتعرضوا للشتائم والتهديدات لأنهم ” أسقطوا” أهداف الثورة ، وظلت الصحيفة ترزح تحت سيطرة ميليشيات مسلحة أقامت المخيمات وطوقت مبنى الصحيفة لأيام ، حتى بعد إعادة زاوية الأهداف والإضاءة .
المؤسف ، أن بعض إخواننا الطيبين ـ داخل الصحيفة وخارجها ـ كانوا أيضا أسرى حيلة الجزرات الست ، واعتبروا أن الصحيفة وقعت في خطأ فادح حينما ألغت زاوية الأهداف الستة من عدد 1 فبراير، ومنهم من لم يتردد في إدانة الصحيفة وتجريمها ..وفي الحقيقة ، فإن الذي يجب أن يحاسب ويدان هو من انقلب على الأهداف الستة وأزالها عن ” الواقع ” وقد كان المعني والمسؤول عن تنفيذها ، وما حدث في الصحيفة ليس سوى إزالة حبر من على ورق ، أو بمعنى آخر ” إسقاط الجزرات ” وإذا كان لا بد من محاسبة الصحيفة ، فلتكن المحاسبة على دورها طيلة العقود الماضية ، أما خطواتها الأخيرة فقد كانت من وجهة نظر هيئة تحريرها آنذاك ، محاولة للتوبة ، فهل تغلق أبواب التوبة ؟!
أهداف الثورة ليست ورقة صاغها مشعوذ وطلب منا تعليقها على رقابنا أو ربطها بسواعدنا كي نتخلص من الاستبداد والاستعمار ، ونتعافى من الجهل والفقر والمرض ، ونبني جيشاً وطنياً ونزيل الفوارق بين الطبقات ، و..، .. كما لم تصغ هذه الأهداف لتتحول إلى درس محفوظات أو لتنشر في زاوية ثابتة بالصحيفة ، ولا لتعلق في الساحات والجدران .
أهداف الثورة هي مبادئ أساسية يُستلهم منها الدستور والقوانين والسياسات والخطط والبرامج في كافة المجالات لكي يتم تحقيقها على أرض الواقع وهي بمثابة عهد قطعته الثورة والجمهورية على نفسها أمام الشعب ، وعلى قيادات الدولة الوفاء بالعهد والعمل على تنفيذه كل حسب مسؤوليته واختصاصه.
مسؤولية صحيفة “الثورة” فيما يتعلق بالتزامها بأهداف الثورة وتنفيذها يتركز في سياستها التحريرية ومدى التزامها بمهنيتها من خلال تبني قضايا الوطن والمواطن وهمومه وتطلعاته ، ونقل الأحداث والمعلومات بموضوعية وصدق ، واحترام عقلية القارئ ، والارتقاء بثقافته ، ومن خلال هذه السياسة تستطيع الصحيفة أن تكون بالنسبة للقارئ مرصداً لمراقبة وتقييم مستوى تنفيذ أهداف الثورة وأن تسهم في معالجة الإخفاقات وتصحيح المسارات.
وفي حالة عدم التزام الصحيفة بهذه السياسة ، أو تحولها إلى بوق يسبح بحمد الحاكم ، فإنها تكون قد تخلت عن مسؤوليتها في تنفيذ أهداف الثورة ، وفي هذه الحالة يحق لنا أن نعتصم ونضرب أمامها المخيمات وأن نطالب بمحاكمة قيادتها.
إن كيل الاتهامات والتخوين والشتم الذي تعرضت له هيئة تحرير الصحيفة آنذاك ، وعلى رأسهم رئيس التحرير ياسين المسعودي ، ومدير التحرير عبدالرحمن بجاش ، لم تكن سوى محاولة ابتزاز واضحة ، وقد كان الهدف منها ثني كافة وسائل الإعلام ـ الممولة من المال العام ـ عن تصحيح مساراتها وتحمل مسؤولياتها الحقيقية وفقا للأهداف الستة ، وتسليط الضوء على الأسباب التي أعاقت تحقيق الأهداف والمسئولين عنها.
استسلمت الصحيفة للضغوط التي مورست عليها من قبل النظام وأدواته وقطيع من الغوغاء المنساق وراء الجزرات ، وأعادت الجزرات الست إلى موقعها في الزاوية اليسرى أعلى صفحتها الأولى ، لكن ملايين من اليمنيين كانوا قد أدركوا اللعبة ، وكان لهم رأي آخر .
بعد عامين ونصف من ثورة 11 فبراير 2011م ، رفض ملايين اليمنيين أن يواصل آخرون رفع الجزرات الست بعصا 11 فبراير ، لم يعد بإمكان اليمنيين مواصلة الركض وراء الجزرات لعقود أخرى ، ولم يكن لديهم خيار سوى إشعال ثورة 21 سبتمبر 2014م التي أعلنت نهاية اللعبة.

قد يعجبك ايضا