المبادرة اليمنية والتورّم السعودي
إيهاب زكي
يحفل التاريخ بممالك سقطت والملوك في حالة انتشاءٍ أو غيبوبة وانسلاخ عن الواقع، فالأمين العباسي مثلاً استدعى جاريته لتنشده طرباً حين كان المأمون يحاصر بغداد استعداداً للمعركة الأخيرة بين الأخوين، ورغم أنّ الجارية أنشدته ما أغاظه تطيُّراً إلّا أنّه كان يراها ليلة من أجمل ليالي بغداد، وبعد أسبوعٍ واحدٍ فقط كان طريداً ثم قتيلاً، وهذا لا يشبه ذهاب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لحضور افتتاح مهرجان سباق الهجن فيما درة ملكه ـ أرامكو ـ تحترق، ورغم أنّ التاريخ يكرر نفسه بشكلٍ كوميديٍ حيناً وبشكلٍ مأساويٍ أحياناً، إلّا أنّه مع بن سلمان يكرر نفسه بشكلٍ اعتباطي لا عبرة فيه، وكأنّه يخبرنا أنّ الثيران منحلةُ الزمام لا جدوى من تفسير سلوكها ولا اعتبار.
يقول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مقابلته التي بثتها قناة “العالم” “إنّ نظام آل سعود قد شاخ”، وعدَّد بعض الأسباب والشواهد، ونحن إذ نرى السلوك السعودي على الأقل منذ انطلاق عدوانه على اليمن، لا يخامرنا شكٌّ بأنّه نظامٌ يشيخ، فإنّ نظام المرتبة الثالثة عالمياً في الإنفاق على التسليح بعد الولايات المتحدة والصين، والنظام الذي يحظى بغطاء دولي لارتكاب جرائمه، لا يستطيع تحقيق أيّ إنجازٍ عسكري فضلاً عن تحقيق حسمٍ ميداني، أمام أفقر الأقطار العربية حتى على المستوى العسكري، وقد بدأ ميزان الردع بالاعتدال تصاعدياً لصالح اليمنيين على مدى زمن العدوان، ووصل ذروته المؤقتة في الهجوم الأخير على منشأتي بقيق وخريص النفطيتين، فكان الأمر بمثابة صدمة على جميع الأصعدة العسكرية والاقتصادية والمعنوية والإقليمية والدولية، وأول آثار الصدمة هو دخول السعودية في حالة إنكار، والإنكار في علم النفس هو أحد أشكال الكبت، والكبت السعودي مردّه الكبت الأمريكي الذي تسبب به العجز المطبق في مواجهة التحدي الإيراني.
بعد مهاجمة “أرامكو” ودخول السعودية في حالة الإنكار، أعلن رئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط عن مبادرةٍ لوقف الهجمات الصاروخية وعبر المسيرات على مرافق داخل الأراضي السعودية، وقد جاءت المبادرة بشكلٍ مفاجئ خصوصًا وأنّها أتت والسعودية في أضعف حالات انكشافها الجوي، وليس من المستبعد أن تكون هذه المبادرة نتيجة وساطات تجري خلف الستار، تستشرف مخططاً لوقف العدوان السعودي على اليمن، وقد قبِل اليمنيون بمنح النظام السعودي ماء وجهه في طريقة إنهاء العدوان، خصوصًا أنّ السعودية تعاملت بما يوحي باللامبالاة، حيث اعتبر الجبير أنّه ليس قارئ أفكار ليعرف سبب إعلان “الحوثي” عن مبادرته، ولكنه أضاف إنّه يراقب الأفعال لا الأقوال، وبعد 48 ساعة أو أقل من إطلاق المبادرة قام الطيران السعودي بأكثر من 40 غارة خلال 12 ساعة، ومع أنّ المبادرة اليمنية مشروطة بالتزام النظام السعودي بالتوقف التام عن عدوانه، إلّا أنّه ورغم هذه الاعتداءات فإنّ اليمنيين يقولون إنّ المبادرة لا زالت فوق الطاولة، ولا زالت سارية حتى لحظة كتابة هذا المقال، وعلى سبيل التفاؤل بأنّ المبادرة هي حصيلة تفاوض سري في مكانٍ ما، فقد يكون الإصرار اليمني على الالتزام بالمبادرة رغم تجدد العدوان السعودي، هو أنّ السعودية تريد أن تكون صاحبة الطلقة الأخيرة، وعلى سبيل حفظ ماء الوجه أيضاً.
قد يكون هذا إفراطاً في التفاؤل خصوصاً على المدى القصير، ولكنه غير مستبعد حيث إنّ اليمنيين لا يبحثون عن انتصاراتٍ وهمية وهم المنتصرون ميدانياً، ومجرد توقف العدوان الخارجي سيجعل اليمنيين أكثر قرباً للحوار على ضوء موازين قوى شعبية وميدانية محلية، فيما السعوديون بأمسّ الحاجة لرافعةٍ معنوية أمام الانكسارات المتتالية والصفعات المتلاحقة يمنياً وإيرانياً وسورياً وحتى قطرياً والأهم أمريكياً، حيث لا ينفك ترامب يستدر الضرع السعودي بلا توقف، ودون أيّ اعتبار لمراعاة الحدّ الأدنى من الخطاب الدبلوماسي أو الحدّ الأكثر دنواً لكرامةٍ سعودية. ولكن عوداً على بدء فإنّ نظام آل سعود في حالة تحلل، بغض النظر عن نتائج المبادرة اليمنية، حيث إنّ الانتفاخ السعودي الذي كان نتيجةً للتورم المالي لم يدخل اختباراً حقيقياً كما في اليمن، وهو الاختبار الذي سيضع النظام السعودي في حجمه الحقيقي، وهذا الحجم المتضائل تدريجياً هو ما ينذر بالنهاية الحقيقية لهذا النظام، فحماية النفط وهو مصدر التورم السعودي لم يعد في حالة أمان، ووظيفة آل سعود استعمارياً هي حراسته، وبما أنّ الولايات المتحدة صاحبة التكليف تدنو من القناعة بهذه الهشاشة السعودية، فإن سحب التكليف أقل الخسائر مقارنة باستحضار التاريخ لمكلِفٍ جديد ليس أمريكي الهوى.
*كاتب عربي