ابراهيم محمد الهمداني
مما لا شك فيه أن الانحراف الذي ابتليت به الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول الأكرم – صلوات الله عليه وعلى اله – قد انعكس سلبا على كافة مستويات الحياة، ويعد الانحراف الفكري الديني، من أخطر وأسوأ مظاهره، لما نتج عنه من انحراف مفاهيمي وتصوري في حقيقة ومعنى التدين، حيث خرج التدين عن جوهره الروحي، وابتعدت الشريعة عن مقاصدها ومقتضياتها، وتحولت شعائر الدين وأركانه الى عبادات شكلية مجردة، فالصلاة تحولت في التصور الجمعي – والتدين الشكلي – إلى عدد معين من الحركات والركعات والسجدات والألفاظ، التي تؤدى أداءً شكليا خالصا، ومن قام بها بتمامها الأدائي الحرفي، كُتبت له كذا وكذا حسنة، ومن قال «سبحان الله العظيم وبحمده»، غُرست له نخلة في الجنة، ليصبح القول التلفظي هو مضمار السباق، واكتساب أكبر عدد ممكن من النخيل في الجنة، ورُبَّ قائل لها بفيه دون أن تلامس قلبه وتستشعرها روحه، والأسوأ من ذلك هو تزييف حقيقة الجنة في التصور الجمعي، بتحويلها من تموضعها الميتافيزيقي الموصوف ب (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، إلى تموضع جغرافي واقعي محصور في مزرعة نخيل، ومن كونها جائزة الله تعالى لعباده، « تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا»، إلى أرض مبسوطة للفيد والتملك البشري، مقابل ألفاظ تُقال وحركات تؤدى.
كذلك الحال بالنسبة لفريضة الزكاة ومصارفها، التي خرجت عن مقتضاها ومقاصدها الشرعية – الماثلة في الزكاء والنماء والتطهير وتزكية النفوس والقلوب – وتحولت إلى مفهوم الغُرم والخراج والجباية، وصارت أشبه ما تكون بالضريبة أو الغرامة المالية، التي يخرجها المكلفون وهم كارهون، وبذلك انحرفت استراتيجية الدعوة إلى دين الله، من استراتيجية «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» ، إلى استراتيجية القوة ومنطق السيف والقتل، وشن الحروب الاستباقية، ومداهمة الناس في عقر ديارهم، وتخييرهم بين الإسلام أو الجزية أو الموت، فحلَّ الإسلام بالإكراه على مضض، بدلا عن اعتناق الإسلام بقناعة تامة، وتحت مسمى الفتوحات، أصبح جمع المال هو الغاية والهدف الأساس، يتساوى في ذلك الزكاة/الخراج والجزية والضرائب وغيرها، وتحولت البلدان المفتوحة إلى إقطاعيات بيد بعض الفاتحين أو المتنفذين، مقابل مبلغ سنوي معين يدفعونه لمركز الخلافة، وأصبحت الزكاة حقاً خالصا للحاكم، يتصرف به كيف يشاء، ويمنعه عمن يشاء.
أدى ذلك إلى حرمان أصحاب الحق المستحقين لها، كونهم يمثلون مصارفها الحقيقية، حيث تم تغييبهم واستبعادهم – إلا ما ندر وفي فترات تاريخية قصيرة ومتقطعة – فنشأ عن ذلك الاختلال المفاهيمي، اختلال في بنية المجتمع وسلوكه وتصوره، وظهرت حالة من انعدام الثقة بين المُكلفين والجهات أو الأشخاص الممثلين للدولة في تحصيل الزكاة، خاصة في الفترة من قيام ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م، إلى إنشاء الهيئة العامة للزكاة، بعد ثورة ٢١ سبتمبر ٢٠١٤م، حيث كانت الزكاة تذهب إلى جيوب النافذين والمسئولين ومن في حكمهم، بل يمكن القول إنها كانت عبارة عن تحصيل عشوائي وجبايات جزافية، تصرف للعاملين عليها والنافذين والمقربين من النظام الحاكم، وأُغلقت بقية مصارف الزكاة تماما، الأمر الذي أدى إلى تفشي الفقر والحرمان والعوز والجوع، بشكل كبير جدا، في ظل غياب معظم قيم التكافل والتراحم والتعاون، فانقسم الناس بشأن ذلك، فمنهم من رأى أن تسليم الزكاة للدولة، أصبح ذنبا كبيرا ومساعدة للمستفيدين منها – العاملين عليها والنافذين ومن في شاكلتهم – على المعصية والمحرمات، التي يعاقرونها بالأموال المتحصلة من الزكاة، ومنهم من رأى ضرورة تسليمها للدولة، وإن كانت تصرفها على غير مستحقيها، الذين يصرفونها في المعاصي والمحرمات، والإثم على الدولة وليس على المواطن.
غير أن الهيئة العامة للزكاة، أعادت للزكاة هويتها الدينية، ومضمونها الروحي، من خلال إعادة ضياغتها وطرحها في سياقها الديني البحت، وأنساقها المعرفية والفكرية والتصورية، المنطلقة من قيم الإخاء والتراحم والتكافل الاجتماعي، الذي فرضته الضرورة ومعطيات الواقع، في ظل العدوان الإجرامي العالمي، وما نتج عنه من تردي المستوى المعيشي والحالة المادية وتدهور الاقتصاد والخدمات، وكان إنشاء الهيئة في تلك الظروف البالغة التعقيد، ترجمة لتوجيهات السيد القائد العلم عبدالملك بدرالدين الحوثي حفظه الله ورعاه، الذي أمر بضرورة النظر في موارد الزكاة ومصارفها، والارتقاء بمستوى أداء أجهزتها وإداراتها، واضعا رهانه الكامل على الهيئة العامة للزكاة، في تحقيق الأهداف المرجوه منها، وتقديم العون والمساعدة العاجلة للمستحقين من أبناء المجتمع، لمساعدتهم في تجاوز مخاطر العدوان والحصار وسياسة التجويع المفروضة.
إن المتتبع لأداء الهيئة العامة للزكاة، خلال عامها الأول، سيصاب بالدهشة والذهول، حين يرى عظمة إنجازاتها، رغم الزمن القياسي، ومحدودية الإمكانات، وحجم العراقيل والصعوبات، التي ليس أولها أزمة الثقة، وليس آخرها الكم الهائل من الفساد المتراكم عبر عشرات السنين، لكن الهيئة استطاعت التغلب على تلك الصعاب والعقبات، من خلال اتباعها استراتيجية عمل اتسمت في مجملها بصدق التوجه، وإخلاص العمل لوجه الله تعالى، وجعلت من أولويات أهدافها، إعادة الهوية الدينية لفريضة الزكاة، وإعادة بناء جسور الثقة بينها وبين المزكين، من خلال اعتماد الصدق في التعامل والشفافية الكاملة في تحصيل الزكاة من المكلفين، وصرفها للمستفيدين على مرأى ومسمع من الجميع، جاعلة من أفعالها ومنجزاتها الملموسة في الميدان، شاهد حق ناطق بلسان حالها، ومترجم لتوجهاتها وسياساتها، وقد سارت إنجازاتها في مسارين متوازيين – كل منهما يكمل الآخر – أحدهما المسار التنفيذي الميداني:- حيث غطت مساحات كبيرة من الوطن بالمسوحات الميدانية، لحصر المصارف الزكوية، وإنشاء قاعدة بيانات كاملة، واضعة في اعتبارها أولوية المناطق الأكثر احتياجا وتضررا من الحصار والعدوان، بالإضافة إلى تنفيذها لعدد من المشاريع والمبادرات البناءة، مثل مشروع (الزكاة في مصارفها)، ومشروع كسوة أبناء الشهداء، ومشروع توزيع السلة الغذائية لأسر المفقودين والأسرى، والأعراس الجماعية للمكفوفين وأبناء الشهداء، وصولا إلى المشروع العملاق والإنجاز الأكبر، المتمثل في توزيع الزكاة ل ٥٠٠ ألف أسرة، من الفقراء والمساكين، من مختلف محافظات الجمهورية، وهو ما يشمل حوالي 2 مليون و500 ألف مواطن يمني، وهذا النجاح المذهل، يعبر عن حقيقة وصدق التوجه القرآني، ويؤكد أن الاستراتيجية المتبعة في تفعيل موارد ومصارف الزكاة، كفيلة بسد حاجة المحتاجين، دون اللجوء إلى مساعدات المنظمات، التي لا تعدو كونها في معظمها، مجرد ظواهر صوتية للاستهلاك الإعلامي، وتنفذ أعمالا استخباراتية لحساب دول العدوان.
وثانيهما:- المسار الإداري الداخلي من أجل الارتقاء بالعمل المؤسسي، وتجلى ذلك المسار في مشاريع كثيرة، منها تعديل قانون الزكاة – وهذا مشروع هام جدا وبحاحة إلى دراسة واستقصاء – وكذلك مشاريع التوعية التي تنفذها الهيئة عبر وسائل الإعلام المختلفة، بالإضافة إلى طبيعة الهيكل الإداري المتفرد، وآلية اختيار الموظفين ومدراء الإدارات، وتنظيم الدورات التدريبية لهم، وصولا إلى إنجاز النظام الإداري والمحاسبي الإليكتروني، الذي يعد قفزة نوعية في عالم الإدارة والمحاسبة، ويتميز بعدم القدرة على اختراقه أو التلاعب به، واشتراك كل الإدارات في استخدامه، عبر الربط الشبكي الداخلي، كما أنه مرتبط أيضا بالجهات الإيرادية ذات العلاقة، كالضرائب والجمارك وغيرها، ويتميز أيضا بدقته العالية وشفافيته الكبيرة.
اعتمدت الهيئة تنمية مواردها، بما يحولها من موارد ثابتة القيمة والحد، وعرضة للنقص والفقد، إلى موارد استثمارية رابحة، من خلال تنمية الإيرادات الزكوية، والتوسع الرأسي والأفقي في تنمية جميع الأوعية الزكوية، ومن ناحية أخرى فإن هذه الإنجازات المذهلة، توحي بحجم الفساد الهائل، الذي كان مستشريا – ومازال – في جميع مفاصل الدولة ومواردها، التي لا تعدو الزكاة جزءا بسيطا جدا منها.
إن محاولة الإلمام بمشاريع وإنجازات الهيئة العامة للزكاة في مقال واحد لا تعدو كونها ضربا من المحال، ولكن – ومن باب الإنصاف – سأترك ذلك لسلسلة مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
يمكن القول إن الهيئة العامة للزكاة، ستصبح – عما قريب – مؤسسة التكافل الاجتماعي الشاملة، وإنها قد حققت قدرا لا يستهان به من الريادة، وتعزيز الصمود ومواجهة العدوان، لتكفي الشعب منَّ المنظمات وشرورها، ويمكن القول – أيضا – إن رهان السيد القائد على هذه الهيئة، كان في محله، مقارنة بما حققته من الإنجازات الهائلة في عامها الأول، ولذلك نقول له «إن خير من استأجرت القوي الأمين».
Prev Post
قد يعجبك ايضا