الصيام عبادة وتربية

عبدالله ناصر عامر
لله تعالى حكمة عظيمة في تنوع العبادات بين يومية وأسبوعية وسنوية وفي العمر مرة، وكذلك التنوع بين عبادة بدنية وعبادة بدنية مالية وعبادة مالية، ومما لا شك فيه أن وراء كل عبادة من تلك العبادات حكمة ربانية ومقصد إلهي، يظهر بعض منها ويخفى الأكثر، و يجمع الجميع مقصد واحد وغاية كبرى هي أنها كلها عبادة وطاعة لخالق الوجود الذي تقضي العقول البشرية السوية أنه يستحق منا امتثال أمره ونهيه فيما كلفنا به.
وفريضة الصيام عبادة سنوية بدنية يؤديها المسلم طاعة لله وتعبدا، يطيع بها خالقه ويهذب بها نفسه ويزكو بها فؤاده، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (183) البقرة.
ومن اللائق بالمسلمين في أنحاء المعمورة وهم يتقربون بهذه العبادة الموسمية أن يغتنموا هذه الفرصة العبادية الموسمية السنوية، فيجتهدوا لأن يحوزوا أبلغ ما يمكن ويستطاع من الأجر، وينبغي أن يخرجوا منها بأبلغ دروس تهذيب النفس وتغيير العادات والمألوفات السيئة.
عبادة من نوع خاص
من اللائق بالمسلمين أن يتعرفوا على ما يمكن التعرف عليه من الحكمة الربانية التي أرادها الله أن تتحقق من القيام بهذه العبادة، وأن يتعرفوا على الآداب المصاحبة للصيام التي تربي النفس وتهذبها، والتي وإن لم تكن ركنا من أركان الصيام لكنها من متممات الصيام ومن شروط قبوله والتي يبلغ بها الصائم أعلى الدرجات، ومن عظيم ثواب الصيام وجزاءه أن الله تعالى جعله لذاته الجليلة واختص به دون غيره من العبادات، بأجر وثواب لا يقدره إلا هو عز وجل، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( قال الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : (قال الله تبارك وتعالى: كل حسنة عملها ابن آدم أجزي به عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلاَّ الصيام فإنه لي وأنا أجزي به). وقال صلوات الله عليه :(الصَّلاةُ قُربانُ كلِّ تقيٍّ، والْحَجُّ جهادُ كلِّ ضعيفٍ، ولكلِّ شيء زكَاة، وزكَاةُ البدن الصِّيامُ وجهادُ المرأة حُسنُ التبعُّل).
ولا شك أن طريق المسلم للإطلاع على الحكمة من أي عبادة هو كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إما تصريحا أو استنباطا، وإلا كان قوله تخمينا ورجما بالغيب، وعن الحكمة من فريضة الصيام يقول ربنا تبارك وتعالى 🙁 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .
فالآية واضحة بأن الحكمة من هذه العبادة هي التقوى وهي لب المقصد الشرعي من الفريضة، وهي أي التقوى كذلك مقصد إلهي عام لكثير من العبادات ؛ بل لجميعها؛ ومن تحت ذلك مقاصد فرعية حول رحى التقوى تدور، وفي فلكها تسبح، يقول ربنا جل وعلا في الأضاحي : ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ).
والتقوى معنى جامع وبناء متكامل لا يتم للمؤمن أن يكون من أهل التقوى إلا بأداء العبادات كلها على أكمل وجه؛ ليكون من المتقين الذي مدحهم الله تعالى في آي كثيرة من كتاب الله وذكر عظيم درجاتهم ومقاماتهم عند الله .
فالصيام باب عظيم من أبواب التقوى والتربية الإيمانية، وكلما حرص الصائم على أداء صومه كما أراده الله من أداء أركانه والحرص على متمماته وشروطه، سيخرج من رمضان كيوم ولدته أمه خلوا من الذنوب والآثام، وصفرا من العيوب والأخطاء وسيئ العادات .
سيخرج من رمضان وقد تاب وأناب من ذنوبه السالفة واستعد لحياة أنقى وأصفى، وقد تلخص من شر نفسه وشرهها على المآكل والمشارب والملذات، وعلم من خلال صيامه طيلة نهاره أنه وهو يتقلب في مشتهيات نفسه أن هناك من إخوته المؤمنين من لا عهد له بالشبع، ولا سبيل لديه إلا إلى القليل من متعة صنوف المآكل وطيبات ألوان الشراب.
و الصيام عبادة لها مميزات عن بقية العبادات، وخصوصيات لا توجد في غيره من العبادات، منها أن الصائم في عبادة طول يومه حتى ولو كان نائما، قال صلى الله عليه وآله وسلم ” نوم الصائم عبادة ” لأن هذه العبادة الصيام ملازمة لجسده طوال يومه .
ومن خصوصيات الصيام أن الله تعالى قد خفف عن عباده الصائمين وأغل وحبس أعداءهم من شياطين الجن، فكان التكليف بهذه العبادة أقل مشقة، وصلاح النفس فيها أيسر مطلوب، فالصلاة وهي من أعظم العبادات لم يتكفل الله تعالى بحبس شياطين الجن عن الوسوسة للمصلين ؛ بل إن المصلي بسبب ذلك يواجه مشقة كبيرة، وصراع مستمر في مدافعة وساوس الشيطان أثناء الصلاة .
ومن الحكم التي لا تخفى من عبادة الصيام ,هو شعور الصائم بما يعانيه الفقراء والمساكين من متاعب قلة الطعام والشراب، خصوصا شركاءه في الدين، وإخوانه في الإسلام، الذين لهم عليه حق كبير في إشباع جوعتهم وسد خلتهم، وهذا من الدروس العملية، فهناك الكثير من الآيات والأحاديث التي تحث على إطعام الفقراء والمساكين؛ إلا أن الصيام درس عملي يشعر معه الصائم بما يعانيه الفقراء والمساكين من واقع يعيشه في صيامه ويذوقه حين تفرغ معدته من الطعام وتذبل شفتاه ويجف ريقه من العطش؛ فيكون مع ذلك العملي أكثر إلتزاما وقناعة بما يمليه عليه دينه تجاه هذه الشريحة من إخوته المسلمين .
لا سيما في هذه الظروف العصيبة، التي تعرض فيه شعبنا لعدوان ظالم من المتخمين وأهل البطر، الذي كان من المفترض أن يجودوا على إخوانهم من أهل اليمن بما فضل لديهم من طعام وشراب وفائض ترف بما لزمهم من حق الأخوة في الإسلام وحق الجوار، لكنهم فعلوا بالعكس من ذلك، فقد أفاضوا على أهل اليمن من فائض صواريخهم وقنابلهم التي ضاقت عنها مخازنهم، وجرعوا أهل اليمن ويلات الدمار إضافة إلى معاناة الفقر والحاجة وقلة ذات اليد، حيث وسع هذا العدوان من شريحة الفقراء بما دمر وأخرب من المساكن، وبما عطل من أسباب الحياة بسبب الحصار الجائر ، وهاهم أهل اليمن يستقبلون رمضان هذا العام بعد رمضان العام المنصرم وهم يكابدون ويتجرعون ويلات هذا العدوان في صبر وثبات وعز وإباء قل أن يوجد لها نظير في تاريخ البشرية.
ومن حكم الصيام التي يمكن أخذها واستنباطها أيضاً من هذه العبادة هي المعرفة أكثر بنعم الله تعالى التي أودعها في لذيذ الطعام وسائغ الشراب، فحين يجوع الصائم ويعطش ويصبر على ذلك ويثبت حتى يحل فيفطر ويذوق طعام إفطاره يجد ذوقا وطعما مختلفا لهذه النعمة ـ الطعام والشراب ـ لم يكن قد ذاقه أو شعر به في الأيام المعتادة في غير رمضان، حتى وإن أكل على جوع وشرب على عطش، وإذا سألت الصائمين عن ألذ طعام وأطيب شراب سيجيبونك بأنه طعام وشراب الإفطار عند المغرب، ,فأصبح لنعمة الطعام والشراب مع الصيام مذاقا آخر، لا يشعر به إلا من كان من الصائمين .
الصيام وتهذيب السلوك
لا يكفي الصائم أن يمتنع عن الأكل والشراب والجماع حتى يكون صائما مقبولا صومه؛ بل لا بد أن يلتزم آدابا إيمانية رمضانية، يكون صومه معها مقبولا عند ربه؛ ليحصل على الجائزة الثمينة التي وعد الله بها الصائمين ، ومن آداب الصيام ما يلي :ـ
1ـ حفظ اللسان عن الغيبة والنميمة وأذية المؤمنين، يقول النبي صلى الله عليه وآله ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه ولا شرابه ” .
2ـ الصبر وتحمل الأذى الذي قد يتعرض له الصائم، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (( إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ : إنِّي صَائِمٌ )).
3ـ الإهتمام بقراءة القرآن؛ لأننا في شهر القرآن يقول تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ).
4ـ قيام الليل وإحيائه بالعبادة ولو إحياء جزء منه كالثلث الأخير، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يحُثُّ على قيام رمضان ويُرَغِّبُ فيه، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم :((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فيحط فيه الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل)).
وروي أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله تعالى فرض صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)).
5ـ عدم الإهتمام بتحصيل صنوف الأطعمة والأشربة، فرمضان شهر تربية وتهذيب للنفس وليس شهر إشباع شهوات النفس في المآكل والمشارب، لا سيما في عامنا هذا بعد طول معاناة جراء العدوان، حيث يوجد الكثير من الفقراء والنازحين الذين فقدوا مساكنهم ومعايشهم بسبب العدوان السعودي الأمريكي الظالم على اليمن، فمن كان لديه فضل طعام وشراب فالأحق أن يمنحه هؤلاء المحتاجين، الذين سيعانون ويكابدون في صومهم لتوفير القوت الضروري، وربما الكثير لا يجد ما يصوم عليه من الطعام وما يفطر به، وهذه الأيام هي الأحق أن يطبق فيها قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من فطر صائماً كان له كعتق رقبة ومغفرة لذنوبه ودخول الجنة وسقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ في الدنيا ولا في الآخرة ) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء ) . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من فطر صائماً على طعام أو شراب من حلال، صلت عليه الملائكة في ساعات شهر رمضان، وصلى عليه جبريل صلى الله عليه ليلة القدر) .
6ـ قيام أصحاب الوظائف العامة بمهامهم في خدمة إخوانهم المسلمين في وظائفهم وعدم تعطيل منافع المسلمين بذريعة الصيام، فإن تعطيل حاجات المسلمين ومنافعهم فيه إثم عظيم في عدم القيام بالمسئولية والأمانة التي تحملها الموظف في الولاية المنوطة به، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كلكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي عليكم راع ، وهو مسؤول عن رعيته ).
7ـ التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عبادة الاعتكاف، وبالأخص اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، فإنها عبادة عظيمة الأجر؛ ولذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ أوجب الله الصوم ما ترك الاعتكاف إلا سنة واحدة سافر فيها وفي السنة المقبلة اعتكف صلوات الله عليه عشرين يوما، وفي فضل الاعتكاف يقول صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الإمام زيد عليه السلام : (من اعتكف العشر الاواخر من رمضان كان عدل حجتين وعمرتين ).
وفي العشر الأواخر ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فمن أقام العشر الأواخر من رمضان فقد فاز بثواب وأجر إحياء ليلة القدر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)).
8ـ ومن الآداب التي ينبغي مراعاتها تعجيل الفطور عند دخول وقت المغرب وتأخير السحور إلى آخر جزء من الليل، حيث ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك من أخلاق الأنبياء .
اللهم أعنا على صيام رمضان وحسن قيامه، وإذا كان لك يا الله في كل ليلة من لياليه رقاب يعتقها عفوك أو يهبها صفحك فاجعل رقابنا من تلك الرقاب واجعلنا لشهرنا من خير أهل وأصحاب بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين .

قد يعجبك ايضا