يمسك المسلمون في بقاع كثيرة من العالم بعد ساعات عن مباحات كثيرة كان متاحة قبل هلال رمضان، ويدخلون في أجواء جديدة مع بزوغ ذلك الهلال الذي يحمل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من معنى، فهو شهر القرآن الكريم والفتوحات والأشواق الإيمانية، وشهر سعي الروح للاغتسال في نهر العطش والجوع من أغلال الخطيئة والآثام والترقي في مدارج السالكين.
في السنة الثانية لهجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فرض ركن الصيام الذي أخذ مكانة سامية في تراتبية أركان الإسلام، وأخذ فوق ذلك مكانة كبرى في أشواق المؤمنين وسيرهم نحو الطاعات والعمل الصالح، ومنذ حوالي 1439 سنة والمسلمون يجعلون من رمضان شهر فتوحات وانتصارات قيمية وسياسية وحضارية.
يبدأ الصيام من فجر كل يوم من أيام رمضان وينتهي عند غروب الشمس، ورمضان بالنسبة للمسلمين شهر نفيس لا ينبغي أن تضيع دقائق ليله ولا نهاره إلا في التزود للطاعات وبالطاعات.
اختلاف الأهلة واتفاق الهدف
وفي أحيان كثيرة تقع اختلافات قليلة بين الأقطار الإسلامية، حيث يتقدم بعضها على بعض أو يتأخر في بداية رمضان أو نهايته.
ومنذ قرون عديدة يفتح الأمر نقاشا بين المثقفين وأهل العلم من المسلمين، بين من يرى ضرورة توحيد رؤية الهلال ومن يرى أن لكل أهل بلد رؤيتهم الخاصة.
غير أن تلك الخلافات البسيطة لا تؤثر على جانب الوحدة التي تجمع المسلمين القادرين على الصيام وترغبهم في ممارسة الشعيرة التي تصعب على كثير من أبناء الديانات الأخرى.
وفي رمضان تتوحد المشاعر ويحس الموسرون والأغنياء بألم الجوع لساعات، وتتحرك النفوس المؤمنة نحو الإنفاق وتخفيف الوطأة على الجياع من أبناء المسلمين الذين قد يعانون من ظروف قاسية طوال السنة.
ومن القيم التي يتعلمها الصائمون في رمضان قيمة الانتصار على الذات وهزيمة الشهوات أمام سلطان جديد هو الاستجابة لنداء الدين وصوت الإيمان.
شهر القرآن
يأخذ رمضان بعدا مقدسا آخر من ارتباطه بالقرآن الكريم، وهكذا يتحول المسلمون إلى حلقات الذكر والتلاوة التي تربط السماء بالأرض، وتنشر دوي المرتلين في المساجد والبيوت والطرقات.
ولأن رمضان شهر القرآن فقد احتوى أيضا على شعيرة مهمة وهي صلاة القيام التي حملت اسم التراويح، إذ يتبارى الصائمون في اختيار القارئ الأندى صوتا والأجود قراءة ليصطفوا حوله وهم يستمعون القرآن غضا طريا.
كما أن أئمة المساجد حريصون أيضا على اختيار المقرئين، حيث تنطلق الحناجر بالتلاوة العذبة والدعاء الصداح ويريق المسلمون الهموم عبر جريان الدمع السخين عظة واعتبارا بآيات الذكر الحكيم.
شهر بدر الكبرى
خلد المسلمون كثيرا من أيامهم المشرقة في رمضان، وفي شهر الصيام انتصر المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم على جيش مشركي قريش في معركة بدر الخالدة أمّ معارك المسلمين وانتصاراتهم.
وفي رمضان أيضا فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة وضرب أروع أمثلة العفو عن المهزوم الموغل في الجرائم.
كما شهد رمضان أيضا فتح الأندلس في القرن الأول الهجري ضمن فتوحات إسلامية مدت رقعة الخلافة الإسلامية ونشرت الديانة الإسلامية في أصقاع كثيرة من العالم.
شهر السلام
ويحمل رمضان فكرة السلام ورؤية السلام من مطلع الفجر إلى غروب الشمس، وهكذا يضيف الإسلام مدة زمنية للسلام في عالم تجتاحه الحروب وتعصف به كوارث أحقاد البشر فيما بينهم.
ولأن رمضان شهر عظيم، فإن الأعمال فيه مضاعفة، من الحسنات أو الخطايا، ومن بوابة السلام في رمضان ينتقل المسلم إلى الأشهر الحرم وهي أشهر يحرم فيها كل ما ينغص من السلم البشري والطهر الإنساني والسعي من أجل سمو الروح.
رمضان 2019
ورمضان يأتي هذه المرة في عام 2019 بنكهة الدم والحصار في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، فمآذن الشام سكت العديد منها عن الصداح المقدس منذ زمان.
وفوانيس مصر باتت خافتة ترنو بعين دامعة إلى سيل الدماء الدافقة من ميدان رابعة وقتلاه الصائمين.
والحكواتي الذي سار في الدروب الدمشقية لقرون لم يعد يحكي غير أحاديث الدم وترانيم الجراح.
ورغم ذلك يبقى رمضان شهر أشواق المؤمنين وشهر قيم السلام والإصلاح.