شغف الحوثي.. ونكبة السودان
عبدالرحمن العابد
سقط البشير أخيراً، مثقلاً بالجرائم الداخلية والخارجية. انهارت امبراطورتيه التي بناها على مدى عقود، على حساب دماء السودانيين، بلمح البصر تخلى عنه الجميع، بما فيهم نظامه الذي قرر الانقلاب عليه وإبقائه قيد الإقامة الجبرية مذيلاً بعار الخزي وملاحقاً بنار الجريمة، لكن وقد اختار اليمن كمسلخ آخر لقواته، لم يبخل عليه هذا البلد العربي الأصيل بالنصح، حتى وهو ينازع في آخر لحظات حكمه، أملا منه أن يكفر عن ذنوبه بحق أبنائه الذين سالت دماؤهم على أيدي عصابات البشير، لا لهدف سوى لإنقاذ دول تريد اليمن مقلباً آخر لنفاياتها الإرهابية وأطماعها الجيوسياسية، فبرز رئيس اللجنة الثورية العليا، محمد علي الحوثي، صوتا بارقا من صنعاء.
هذا الشاب الذي أظهر شغفاً منقطع النظير تجاه شعب عربي آخر، تجمعه باليمن واحدية اللغة والدين والهوية، وأراد نظامه كسر كل هذه الروابط بفوارق المصلحة المادية، اتخذ من تويتر منصة لإرشاد الأعمى البشير، وحاول جاهداً اطلاع شعبه الغارق في دوامة الجوع والفقر، على كل تطورات الوضع في اليمن، خصوصا ما يتعلق بأبنائهم الذين يسوقهم البشير تباعاً إلى محارق الموت، في بلد تتجسد عظمته في صورة أبنائه المقاتلين الأشداء على مر التاريخ.
سرد الحوثي قصصاً من مآسي الجنود السودانيين، وهم يتعرضون لطعنات من قبل التحالف ذاته، وحذر السودانيين من أن الهدف من جلبهم إلى اليمن القضاء على الجيش السوداني، وأبرز صوراً من المحارق الجماعية لجنود سودانيين خلال محاولة دفعهم للتقدم في مناطق تخشى السعودية والإمارات إرسال جنودهما إليها، وإحراق الجنود السودانيين بالغارات وهم يهمون بالفرار.
أوضح الحوثي للسودانيين كيف انتهى المطاف بأبنائهم يقطعون عباب البحر هرباً من جحيم الحرب التي لا ترحم، وكيف حاول نظام البشير الحد من عودتهم، تارة بالتهديد وأخرى بالوعيد، في حين كان يورد مليارات الدولارات إلى حساباته، على حساب الجنود الذين لم يتسلموا أبسط حقوقهم.
انتقد الحوثي عدم إبلاغ الأسر بأبنائها القتلى، والاكتفاء بدفنهم في صحارى الساحل الغربي، وساند ثورة الشعب السوداني التي تكللت أخيراً بالنجاح في إسقاط البشير، لكن قبل هذا كان وجه العديد من الرسائل للبشير نفسه، فنصحه بإرسال جنوده لتحرير فلسطين باعتبارها القضية الأسمى للأمتين العربية والإسلامية، بدلا عن اليمن، وأخبره بأن الزج بجنوده إلى اليمن ضمن مخطط إسرائيلي – أمريكي لإسقاطه.
ذَكّر البشير وهو يواجه اضطرابات اقتصادية بأن السعودية والإمارات تخططان لإسقاطه بوقف الدعم عن نظامه، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من انتفاضة شعبية، وعندما شددت السعودية حصارها على السودان بوقف صادراته من المواشي؛ بحجة أنها مصابة بفيروس، جدد الحوثي تأكيده للبشير بعمق المخطط الذي يحاك للسودان وأهله.
حراك الحوثي التنويري كان بارزاً في الأحداث التي واكبت تغريداته، فاندلعت الثورة فعلاً وقد أصبح المواطن في السودان يقف في طوابير طويلة للحصول على قرص خبز، وتخلت السعودية والإمارات عن البشير في أحلك الظروف، وبقيتا تراقبان مصيره الذي لم يعرف حتى الآن.
وحده البشير الذي لم يتعلم بعد، فنظامه ظل يبرر كل قطرة دم سودانية أُريقت في اليمن، بلا هدف سوى إثراء النظام ورموزه، وراح يصر على بقاء قواته في اليمن إمعانا في إزهاق المزيد من أرواح السودانيين، لكن وقد رحل البشير؛ هل يستفيد الشعب السوداني من الدروس، ذلك مرتبط بمستقبل السودان، الذي لا يزال يواجه شعبه الكثير من المؤامرات، وليس آخرها تعيين مسؤول القوات السودانية في اليمن رئيساً للفترة الانتقالية، فهذا وإن كان مؤشراً على من يقف وراء الانقلاب على البشير؛ إلا أنه يعزز فرضية التخلص من السودانيين، بتجنيد شبابهم للقتال في اليمن، وقد باتوا جميعاً على حافة المجاعة، في بلد تعده دول خليجية سلتها الغذائية.
بين البشير والحوثي فوارق كبيرة، ليس على مستوى المناصب أو الخبرة السياسية، بل ببساطة تتجلى في شجاعة الحوثي الذي يسجل ملحمة بطولية للدفاع عن بلده وكرامة مواطنيه، والبشير الذي فرط في وطنه وجعل شعبه لقمة سائغة تلوكها أفواه المصالح، وتنتهك حرمتها البرجوازية الجديدة بثوبها الخليجي.