حسن سعيد الدبعي
مصيبتنا تكمن في انتمائنا إلى مجموعة البلدان النامية، ومن غرائب الأمور أننا مع حبنا للرقص واتقاننا لكل فنونه فإننا لا نحبذ إلا رقصة التانغو، خطوتان إلى الوراء وخطوة إلى الأمام أي إلى الوراء فما بالنا ندور مثل حجر الرحمن في بحور من الظلمة وما خطبنا نرتمي في المتاهات بملء إرادتنا فنسور عقولنا وأنفسنا بكثير من الغباء والرياء وقليل من الكبرياء وماذا يرجى من عالم شعاره اليوم اكتسب مالاً تكتسب منزلة رفيعة ومركزاً مرموقاً وحاشية تصفق لك وجمهوراً من الحلفاء والمتعاونين؟
من ذاك المدخل ابدأ في طرحي لمسألة طالما أقيمت لها ندوات ورفعت لها شعارات ورصدت لها أموال وطبلت لها وسائل الإعلام وأدلى فيها العامة وأولو الأمر ببعض من المقترحات لم ير إلا القليل منها سبيلاً للنور فالحديث عن تطور المجتمع أو تأخره سبب كثيراً من الاختلاف والتضارب في الآراء فمن قائل بأن المجتمعات ذات النزعة المادية أكثر تعرضاً للفشل والانحطاط والسقوط يناقضه آخرون مدعين بأنها أكثر خطأ في مسألة التنمية والإنتاج والابداع فلكل منظاره يقيم به ما يشاء مستنداً إلى خلفية يستمد منها وجهات نظره فالنجار يقيم الخزانة من حيث نوعية خشبها وتقدير ثمنها والطالب ينظر إليها في مدى اتساعها لكمية من الكتب والدفاتر والأديب بإبحاره من عالم المعرفة يمتلك قدرات فائقة في دراسة وتحليل كثير من الظواهر بحنكة وموضوعية وعمق يفتقدها الكثير من البشر.
إن الابداع والتقدم والتطور لم يكن يوماً حكراً على الغرب دون الشرق فالخالق عز وجل قد منح البشر عقولاً دون تمييز بين أبيض وأسود وقد حدد سبحانه وتعالى مجالات استخدامها فإن أصيبت بعض العقول بالشلل أو الجمود فإنما يرد ذلك إلى جملة من النظم والقوانين اللا منطقية من التي تتحكم برقاب الناس في بعض المجتمعات.
عملية احترام العقل البشري في البلدان النامية أصبحت ضرورية في وقت يشهد فيه العالم انقساماً بين كتلتين إحداهما مستهلكة تمثلها دول الجنوب الفقيرة والأخرى منتجة تنحصر في دول الشمال الغنية فمجتمعات العالم الثالث التي هي بأمس الحاجة إلى كفاءات أبنائها وخبراتهم نجدها عاجزة اليوم عن مواكبة الحضارة العالمية بسبب تفاوت الفجوة المعرفية بينها وبين الغرب ونتيجة لرحيل معظم الأدمغة العربية إلى أماكن أكثر استقراراً وأماناً بحيث ان هروبهم لم يكن إلا نتيجة لإصابتهم بالملل والسأم من الفوقية التي تغلف أدمغة كثير من أولي الأمر من الموظفين والمسؤولين فكم من أبواب قد طرقها ذوو الكفاءات بحثا عن عمل يتقون به شر العوز قوبلوا خلالها بوعود كاذبة أو مجاملات مبطنة بحالات من الأزدراء والاشمئزار والسخرية.
إذن هي حرب مبطنة يمارسها العالم الثالث في عدم احترامه للعقل البشري بل وفي فرض أنماط سلوكيات افراده وجملة تناقضاته على ذوي الكفاءات بحيث أن الهجرة إلى أي مكان لم تكن إلا ملاذاً لأولئك الذين أريد لهم أن يعيشوا غربتين أولاهما تتمثل في شعورهم بالإهمال من قبل مجتمعاتهم ونخبهم السياسية حيث نظر إليهم وكأنهم جاءوا من عوالم أخرى والاقتراب من عالمهم بحد ذاته يعتبر غبنا وهدراً للوقت، والثانية تكون في تشتيتهم في بقاع الأرض وقلوبهم تعصر حرقة ولوعة على فراق الأهل والأحبة.
تقرير التنمية العربية لعام 2010م جاء فيه أن العالم العربي شهد خلال الفترة من عام 1996م إلى عام 2010م هجرة أكثر من 400 ألف من الجامعيين إلى أوروبا وأمريكا والأول الآسيوية بالإضافة إلى 122 ألفاً من الأطباء العرب فإلى متى يبقى هذا الوضع قائماً خاصة وأن البلدان العربية اغلبها تتوفر على ثروات مالية لا تحصى تستطيع من خلالها استيعاب كل الكفاءات والأدمغة المنتجة بدلاً من انفاق مليارات الدولارات في الدسائس والمؤامرات على بعضها البعض وهوما يقنع هذه الكفاءات المهاجرة على أن تكفر بأوطانها التي حاربتها في مصادر عيشها واستغلال خبراتها في تنمية أوطانها قبل خدمة الآخرين عملاً بالمقولة المعروفة أينما وجدت رزقي فثم وطني” ولا عزاء للأنظمة العربية.