أ. أحمد الكحلاني
الحديث عن عن شخصيةٍ كـ»مالك الأشتر« هو حديث عن عظمة الأخلاق وكمال العقل وسوح الإيمان، وإذا كان الأشخاص الذين وصلوا إلى درجة الكمال البشري قلائلاً بعد الأنبياء فمالك من تلك القلة التي سطر التأريخ عنها مواقفاً فريدةً على طول التأريخ لم تتكرر رغم تكرر الأزمان.
مالك بن الحارث النخعي القائد المشهور وأحد الأبطال الشجعان، أسلم على يد الإمام علي عليه السلام عندما أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن، ولم يشتهر مالك الأشتر إلا في عهد عمر بعد أن شارك في فتوح الشام والعراق، فقد كان قائداً من قواد أبي عبيدة بن الجراح، وقد لقب بالأشتر لأن عينه أصابها جرح يوم القادسية، وقد أبلى بلاءً حسناً في تلك المعارك التي شارك فيها هو وقبيلته مذحج، واستوطن مالك هو وقبيلته الكوفة وما جاورها من سواد العراق، وقد كان الأشتر رجلاً صريحاً شديداً في ذات الله لا يخاف لومة لائم.
وحين رأى من بعض ولاة الكوفة انحرافاً عن الدين نقم عليهم وثار في وجوههم وطالب بتغييرهم، فسار إلى المدينة مع عالم الكوفة الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود، وفي طريقهم مروا من (الربذة) المكان الذي نفي فيه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري عقيب موته فدفنوه وكفنوه، وقد كان أبو ذر قال لزوجته قبل موته: (سيمر ركب من المؤمنين فادعيهم وقولي لهم يبلغكم أبو ذر السلام هلموا وساعدوني على تكفينه ودفنه)، وبعد دفنه زادت نقمة الأشتر، فسار إلى المدينة وشهد أحداث مقتل عثمان، وكان من المسارعين إلى بيعة الإمام علي عليه السلام.
فقد قيل أن الأشتر هو أول من بايع علياً عليه السلام ثم بايع الناس بعده، وقد كان الأشتر النخعي ممن أخلص الولاء لإمامة علي بن أبي طالب، فقد كان الإمام يعتمد عليه في المهام الصعبة والأمور العظام، بعد مبايعته الإمام علي عليه السلام كان أبو موسى الأشعري يخذل الناس عن مناصرة علي عليه السلام فأرسل الإمام علي عليه السلام إلى الكوفة عمار بن ياسر والحسن ابنه فلم يستطيعا أن يقنعا أبي موسى الأشعري وظلا يجادلانه فلما علم الإمام بهذا الأمر علم أن مالك هو من سيحسم الأمر لما له من نفوذ في الكوفة، فدخل مالك الكوفة ودعا رؤساء القبائل وجمعهم في قصر الكوفة وعزل أبي موسى الأشعري وحرض الناس هو وعمار بن ياسر على نصرة الإمام علي عليه السلام الذي قال فيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: »وانصر من نصره واخذل من خذله« وسيطر مالك على الموقف بالكوفة وأقبل نحو الإمام باثني عشر ألف مقاتلاً.
والمتأمل في كتب التأريخ عندما يقرأ الحروب الثلاثة التي خاضها الإمام علي عليه السلام وهي (الجمل، وصفين، والنهروان) يجد أن مالك كان قطب الرحى فيها بعد الإمام علي عليه السلام، فقد كان من أبرز القواد.
ونستطيع القول أن مالك الأشتر كان الرجل الحربي الأول في جيش الإمام عليه السلام، وإذا أمعنا التأمل سنجد ابن مالك نسخةً مصغرةً من إمامه فقد تولى الإمام علي عليه السلام تولياً جعله يتشرب صفاته وكأن صفات علي عليه السلام أفرغت إفراغاً على مالك الأشتر، وهذا ما أفصح عنه الإمام علي عليه السلام قائلاً: (لقد كان لي مالك كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) هذه العبارة على صغرها تحمل الكثير من الدلالات، فكما كان علي عليه السلام يجلي الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كثير من مواقفه كذلك كان مالك الأشتر يجلي الكرب عن علي عليه السلام، وسنرى قريباً مصاديق تلك الجملة الخالدة.
حرب الجمل:
كان للأشتر في هذه المعركة نصيباً وافراً فقد كان قائداً لميمنة جيش الإمام علي عليه السلام وكان عمار بن ياسر قائد الميسرة، وعند اشتداد المعركة أمر الإمام علي عليه السلام مالكاً وعماراً بأن يركزا هجومهما على الجمل لكي يتفرق الناس وتحسم المعركة، وفي تلك الأثناء برز للأشتر كثير من الفرسان فما صمد له فارس إلا قتله، وقد كان ممن قتلهم الأشتر محمد بن طلحة، وعمرو بن يثربي، وقد كان عمرو بن يثربي أشجع أصحاب الجمل وفارسهم، وقد قتل كثيراً من أصحاب الإمام علي ودعا إلى المبارزة فما خرج إليه فارس من جند الإمام إلا قتله، فقال له أصحابه ما في هذا الجمع أحد نخافه عليك إلا الأشتر، قال ابن يثربي فإياه أخاف، قال الراوي: فقيض الله له الأشتر فارتجز الأشتر ثم حمل عليه فطعنه وصرعه وقتله، وقد رثته أخته بقولها:
لـــو كــــان يدفع عن منية هالك
طـــــول الأكف بذابل المـران
أو معشر وصلوا الخطا بسيوفهم
وسط العجاجة والحـتـــوف دوان
مــــا نيل عمرو والحوادث جــمة
حتــى ينـــال النجـــم والقمــــران
لــــو غـــير الأشتـــــر ناله لندبه
وبكيته مـــا دام هضــب أبــــان
لكنــه مــن لا يعـاب بقتلـــه
أســــد الأســـود وفارس الفرســـان
فعلاً.. إن الأشتر كما قالت أسد الأسود وفارس الفرسان، وبعد ذلك خرج كثير من الفرسان للمبارزة فكان الأشتر بطل الميدان وفارس الرهان، فقد أجهز على كثير من الشجعان والأبطال حتى انتهت المعركة وقد انتشرت أخبارها بين العرب انتشار النار في الهشيم، تحمل معها شجاعة نادرة وبطولة مشهورة.
وما بين معركة الجمل وصفين كانت المناطق المتاخمة للشام تعيش اضطرابات مختلفة فرأى الإمام أن المناطق الحدودية لا يناسبها إلا الأشتر النخعي فولاه الإمام علي عليه السلام تلك المناطق فقام بها الأشتر خير قيام.
معركة صفين:
بعد انتهاء معركة الجمل بدأ الإمام يجهز جنوده للمسير إلى الشام، وقام الإمام خطيباً فبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم قال: (سيروا إلى أعداء الله، سيروا إلى أعداء السنن والقرآن، سيروا إلى بقية الأحزاب قتلة المهاجرين والأنصار).
وحين انتهى الإمام من كلامه قام الأشتر خطيباً؛ فمما قاله: (والله لا ينجو من الموت من خافه، ولا يعطى البقاء من أحبه، وما يعيش بالآمال إلا شقي وإنا لعلى بينة من ربنا، إن نفساً لن تموت حتى يأتي أجلها فكيف لا نقاتل قوماً هم كما وصف أمير المؤمنين وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين بالأمس فأسخطوا الله وأظلمت بأعمالهم الأرض، وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير) ومن خلال هذه المقطوعة نستطيع أن نستجلي بعض صفات الأشتر فالرجل تأثر بمعلمه وإمامه تأثراً واضحاً فبلاغة كلامه تدل على عظمة عقله، وروعة منطقه تدل على سلامة تفكيره.
وعند المسير إلى الشام بعث الإمام مقدمته بقيادة زياد بن النضر وشريح بن هانئ فلقيا مقدمة معاوية بقيادة أبي الأعور السلمي في جند من أهل الشام فبعثا إلى علي عليه السلام: إنا قد لقينا أبا الأعور السلمي بسور الروم في جند من أهل الشام فدعوناه وأصحابه إلى الدخول في طاعتك فأبو علينا فمرنا بأمرك فأرسل الإمام إلى الأشتر فقال له (يا مالُ إن زياداً وشريحاً أرسلا إلي يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشام بسور الروم فنبأني الرسول أنه تركهم متوافقين فالنجاء إلى أصحابك النجاء فإذا أتيتهم فأنت عليهم أمير وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدأوك حتى تلقاهم وتسمع عنهم ولا يجرمنك شنئانهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة واجعل على ميمنتك زياداً وعلى ميسرتك شريحاً وقف بين أصحابك وسط، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب اليأس حتى أقدم عليك فإني حثيث السير إليك إن شاء الله).
وكتب إليهما (أما بعد فإني قد أمرت عليكما وعلى من في حيزكما بن الحارث فاسمعا له وأطيعا واجعلاه درعاً ومجناً فإنه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته ولا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم ولا الإسراع عما البطئ عنه أمثل).
وهنا نقف عند هذه الكلمات التي يصف بها الإمام شخصية مالك الأشتر فنحن نرى أن الإمام يثق بعقل مالك كما يثق بشجاعته أو أكثر فمالك قائد يضع الأمور مواضعها ويتصرف في كل حالة بما يناسبها فهو لا يتعجل في مقام يقتضي التريث ولا يتريث في مقام يقتضي الإسراع.
ولقد كان مالك يقاتل كما جاء في الروايات في (متبصرة أهل العراق) وفي بعض الروايات (وكان معه أهل البصائر يقاتلون معه).
إن مالك كان يختار رجاله وهو يعلم أن البصيرة والوعي والفهم أهم شرط في الشخص المقاتل وكثيراً ما سيشكوا مالك من ضعيفي البصائر وخفيفي العقول حتى وإن كانوا مع أهل الحق كما سنرى في أواخر معركة صفين حين انشق الخوارج عن جيش الإمام وانخدعوا بخدعة التحكيم.
وأول وقعة في معركة صفين التي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر كانت وقعة الأشتر مع أبي الأعور السلمي وكان الغلب فيها للأشتر وعندما منع معاوية قوم الإمام من ورود الماء جهز الإمام كتائبه وجعل الأشتر وجنوده على تبة وعندما هجمت تلك الكتائب أشار الإمام للأشتر أن ينزل مع جنوده لحسم معركة الماء وفعلا نزل الأشتر وأورد خيله ماء الفرات.
قال الراوي ثم أقبل الأشتر يضرب بسيفه جمهور الناس حتى كشف أهل الشام عن الماء وأجلى جند الشام عن الماء فجاء أمر الإمام علي أن اسمحوا لأهل الشام بالشرب ولا تمنعوهم كما منعوكم ليسجل الإمام سلام الله عليه أن النصر هو انتصار الأخلاق لا انتصار السيف فقط.
وكان من عادة العرب قبل المعارك أن تتبارز بعض الشجعان من الجيشين فارساً لفارس فتقدم الأشتر فبرز إليه خمسة من شجعان جيش الشام إلا أن الأشتر قتلهم واحداً بعد آخر.
وقد كانت معركة صفين ذات أحداث كثيرة وأيامها متطاولة فقد كان في بعض الأحيان يلتقي الجيشان بجميع الكتائب، وفي بعض الأحيان الأخرى تلتقي كتيبة مقابل كتيبة فكان الإمام مرة يخرج الأشتر مع كتيبته ومرة يخرج عمار مع كتيبته، ومرة قيس بن سعد الأرحبي وغيرهم، ولكن قال الراوي: (وكان أكثر القوم حرباً الأشتر) فلماذا كان يقدم الإمام الأشتر على كثير من القواد أظن والله أعلم أن ذلك يعود إلى كفائته العسكرية وخبرته الحربية ونفسيته الرزينة في وقت اشتداد الأهوال.
مبارزة صفين (نار صادفها إعصار):
حدث للأشتر في صفين موقفاً أشبه ما يكون بموقف علي يوم الخندق، فقد خرج فارس من جند الشام لم ير الناس مثله، فنُصِحَ الأشترُ أن لا يخرج وأشفقوا عليه، قال الراوي: (فخرج علينا رجل لقلَّ والله ما رأيت رجلاً قط هو أطول ولا أعظم منه فدعا إلى المبارزة فلم يخرج إليه إنسان وخرج إليه الأشتر فاختلفا ضربتين وضربه الأشتر فقتله وأيم الله لقد كنا أشفقنا عليه وسألنا أن لا يخرج إليه، وقال بعض من شاهد هذه المبارزة (كان هذا ناراً فصادفت إعصاراً).
رجل المهام الصعبة:
في إحدى جولات صفين انهزمت ميمنة جيش الإمام فإذا بالإمام ينطلق مسرعاً ليرد الناس فدعا مالك فقال له مالك لبيك يا أمير المؤمنين، فقال له الإمام: (إئتِ هؤلاء القوم فقل لهم أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم) فانطلق الأشتر كالليث الهصور فأخبر الناس بمقالة الإمام ووعظهم موعظة بليغة بعد أن نادى فيهم: (أيها الناس أنا الأشتر إلي أيها الناس) فاجتمعت حوله جماعة فوعظهم بكلام يخرج من شخص خبير بالنفوس يعلم كيف يعالج الخوف داخل هذا الإنسان، ثم جمع الأشتر قبيلته (مذحج) وعاد بهم نحو المقدمة وفي طريقه لقي قبيلة همدان وتعاهدوا على (ألا نرجع أبداً حتى نظهر أو نهلك) ثم زحف الأشتر ومن معه نحو الميمنة وثاب إليه الناس فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها ولا لجمع إلا حازه وفي يده سيف يماني إذا طأطأه خلت فيه ماءً منصباً، وإذا رفعه كاد يغشى البصر شعاعه، واسمه (اللج) ولما عادت الميمنة إليه وعظهم الأشتر وعلمهم من فنون القتال بكلام نابع من منبع باب مدينة العلم علي عليه السلام.
ليلة الهرير:
رتب الأشتر الصفوف والرايات وجاء أمر الإمام لجميع الكتائب بالتحرك نحو العدو، قال الراوي: فزحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل والحجارة حتى فنيت، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت واندقت، ثم مشى القوم بعضهم إلى بعضٍ بالسيوف وعمد الحديد فلم يسمع السامع إلا وقع الحديد بعضه على بعض لهو أشد هولاً في صدور الرجال من الصواعق ومن جبال تهامة يدك بعضها بعضاً، والأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها.
قال فأجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل لم يصلوا لله صلاة فلم يزل يفعل ذلك الأشتر بالناس حتى أصبح والمعركة خلف ظهره وافترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم وتلك الليلة وهي ليلة (الهرير) وقد كان الأشتر في ميمنة الناس وابن عباس في الميسرة وعلي عليه السلام في القلب والناس يقتتلون ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى والأشتر يحرض الناس على القتال، ثم دعا بفرسه وركز رايته وخرج يسير في الكتائب ويقول: (ألا من يشري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله) ثم قال الأشتر: (شدوا فدى لكم عمي وخالي شدة ترضون بها الله وتعزون بها الدين فإذا شددت فشدوا) ثم ناول أحد أصحابه رايته وتقدم حتى انتهى إلى صفوف أهل العمائم حول معاوية، وكانت خمسة صفوف؛ فقاتل هو ومن معه قتالاً شديداً حتى قتل صاحب رايته فجعل الإمام علي يمده بالرجال عندما رأى الظفر يأتي من جهة الأشتر.
التحكيم:
واستمر الأشتر بالقتال حتى قضى على أربعة صفوف من صفوف أهل العمائم، فلما دنا الأشتر من خيمة معاوية استشار معاوية عمرو بن العاص فقال له: ارفع المصاحف على رؤوس الرماح وقل للقوم حكمنا كتاب الله، فلما رفعت المصاحف قال الإمام علي لأصحابه: (أنا خير من أجاب إلى كتاب الله ولكن هؤلاء القوم أهل خديعة لما رأوا الهزيمة قالوا حكمنا كتاب الله فما الكتاب أرادوا ولكن الخديعة).
وهنا انخدع كثير من أصحاب الإمام وانصرف إليه من أصحابه قرابة عشرون ألف وأحاطوا به وقالوا له: أجب كتاب الله وإلا ألحقناك بابن عفان، ومر الأشتر فليكف عن القتال، نصحهم الإمام لكن لم تفلح نصائحه فأمر الأشتر بوقف القتال وقد كان على شفا الانتصار، فرجع الأشتر مغضباً ودار حديثٌ طويل بين الأشتر وزعماء الخوارج وانتهت بخديعة التحكيم.
ثم قال الخوارج للإمام بعد كتابة صحيفة الصلح: إن الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلا قتال القوم، فقال علي عليه السلام: (بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت ولا يصلح الرجوع بعد الرضا إلا أن يعصى الله ويتعدى ما في كتابه، وأما ما ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك وليس أتخوفه على ذلك وليت فيكم مثله اثنين بل ليت فيكم مثله واحداً، يرى في عدوه مثل رأيه إذن لخفت علي مؤونتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم.
الأشتر إلى مصر:
اضطربت أمور مصر فمعاوية وعمرو بن العاص طمعا فيها لمالها من الأهمية فأرسل الإمام إلى الأشتر (أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأسد به الثغر المخوف … الخ) فدخل الأشتر على الإمام فحدثه بحديث مصر وقال له: (ليس لها غيرك، فاخرج إليها رحمك الله، فإني لا أوصيك اكتفاءً برأيك، واستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة باللين، وارفق ما كان الرفق ابلغ، واعتزم على الشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة).
ولنا أن نقف عند قول الإمام (فإني لا أوصيك اكتفاءً برأيك) فهو يعلم رجاحة عقل مالك، ويثق بحكمته، ثم إن الإمام عهد إلى مالك بعهد طويل هو من أحسن العهود في سياسة الدولة، وفيه من الأفكار العظيمة ما لو طبق اليوم لكانت أفضل دولة في سياستها الداخلية والخارجية، وكأن الإمام وجد في مالك بغيته لحمل العلم عنه، فكثيراً ما كان يقول: (آه إن هاهنا لعلماً جماً لو أصبت له حمله) فمالك من أولئك الحملة لذا أطال الإمام في عهده له، ولو لم يكن من تأريخ مالك إلا هذا العهد لكفاه شرفاً مدى الأزمان.
استشهاد مالك:
بلغ معاوية عن طريق عيونه أن الإمام علي ولى مالك الأشتر على مصر فاغتم لذلك وعلم أن اليمانية فيها أسرع إلى الأشتر منهم إلى كل أحد فاحتال في ذلك وأرسل من يدس إليه السم في شربة عسل، واستشهد الأشتر مسموماً، فلما وصل خبر مقتله إلى الشام فرح معاوية وابن العاص فرحاً كبيراً وقام معاوية خطيباً قائلاً: لقد كان لعلي يدان يمينان قطعت أحدهما في صفين وهو عمار بن ياسر والأخرى قطعت اليوم وهو الأشتر).
ولما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام مقتل مالك رثاه كثيراً وعرف تغير وجهه عليه السلام أياماً، فقد روى ابن أبي الحديد وغيره: لما بلغ علياً موت الأشتر قال : (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر) ثم قال: (رحم الله مالكاً فلقد وفى بعهده وقضى نحبه ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنها من أعظم المصائب).
وروي عن جماعة من أشياخ النخعي قالوا: دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه، ثم قال: (لله در مالك وما مالك لو كان حديداً لكان فنداً ولو كان حجراً لكان صلداً، أما والله ليهن موتك عَالَماً وليفرحن عالماً على مثل مالك فلتبك البواكي، وهل مرجو كمالك ، وهل موجود كمالك)، قال الراوي: فما زال علي يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا، وعرف ذلك في وجهه أياماً.
وقال عليه السلام: (رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
بهذه الكلمات الخالدة يرثي الإمام علي عليه السلام مالك الأشتر ذلك الرجل العظيم الذي أخلص لمبدئه ومعتقده وإمامه إلى أن قضى نحبه في سبيل رفعة هذا الدين ومقارعة الظالمين، وحسبك أن علياً عليه السلام يتمنى مثله رجلاً واحدا، فهو الشخصية الفذة التي جمعت بين رجاحة العقل وقوة الإيمان والخبرة العسكرية، وبين الشجاعة الأسطورية حتى قيل إن الأشتر أشجع العرب بعد عليٍّ عليه السلام، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.