في إثيوبيا، يقترب أكبر سد ومحطة توليد للطاقة الكهرومائية في أفريقيا من الاكتمال. ويمتلك سد النهضة الإثيوبي العظيم (GERD) على نهر النيل القدرة على تحويل اقتصاد إثيوبيا وإحداث ثورة في القطاع الزراعي في جارتها الشمالية الغربية السودان. لكن في مصر، حيث يعيش 95% من السكان على شواطئ النيل أو في دلتا النيل، يعارض الكثيرون السد الذي يعتبرونه تهديدا أساسيا لطريقتهم في الحياة. وبينما تستعد إثيوبيا لتفعيل السد وتحويل مياه النيل لملء خزانه الضخم، وصل الخلاف الدولي حول النهر إلى لحظة حاسمة.
وفي العام المقبل، سوف تقوم مصر وإثيوبيا إما بوضع خلافاتهما جانبا وتشكيل طريق للتعاون والمضي معا إلى الأمام، وهي نتيجة قابلة للتطبيق تقنيا ولكنها مشحونة بالتوترات سياسيا، وإما مواجهة دوامة من التراجع الدبلوماسي الحاد.
ومع ذلك، فإن قصة النزاع حول السد لا يمكن فصلها بشكل متزايد عن “اللعبة الكبيرة” المتصاعدة في جميع أنحاء شرق أفريقيا؛ حيث تتسابق كل من تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر على التأثير والنفوذ، وقد انتقلت المنافسات الجيوسياسية في الشرق الأوسط إلى البحر الأحمر، في صورة عسكرة واستقطاب القرن الأفريقي.
وفي بعض الحالات، ساعد النفوذ والموارد المتزايدة لدول الخليج على التوسط في التسويات البناءة التي تحرك شرق أفريقيا إلى الأمام، مثل اتفاق السلام التاريخي الذي تم التوصل إليه في يوليو ، والذي أنهى حالة حرب دامت عقدين من الزمان بين إثيوبيا وإريتريا؛ حيث تم تسهيله من خلال جهود الوساطة التي بذلتها الإمارات العربية المتحدة. وفي حالات أخرى، مثل الصومال، جعل التدخل الخارجي من قبل دول الشرق الأوسط في السياسات المحلية المتقلبة الأمور أكثر قابلية للانفجار عبر تصدير النزاعات الجيوسياسية المريرة عبر البحر الأحمر.
واليوم، كلا الطريقين -تصاعد النزاع والتعاون البناء- ممكنان بشكل واضح، في نزاع السد، كما في المنطقة ككل. وتشير مخاطر اندلاع أعمال العنف في شرق أفريقيا، وعدم الاستقرار في مصر، والهجرة الجماعية، والتهديدات الموجهة لنقاط الاختناق (المضايق) الرئيسية في البحر الأحمر، إلى أن الولايات المتحدة وأوروبا والمجتمع الدولي لديهم المصلحة في ضمان أن تتسم اختيارات الأطراف الفاعلة في في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا بالحكمة.
قوة الماء
ومنذ عهد الاستعمار البريطاني، تشكلت طريقة استخدام مياه النيل في المقام الأول عبر اتفاقية ثنائية عام 1959م بين مصر والسودان، والتي زودت مصر بنصيب كبير من مياه النيل، مع استبعاد إثيوبيا وغيرها من دول المنبع. وقد أدان عدد من الأطراف هذا الاتفاق، ودعوا إلى ما يعتبرونه استخداما أكثر عدلا للمياه، ولكن تعثرت المحاولات على مدى عقود للتفاوض على معاهدة إقليمية أوسع لإدارة المياه.
وعلى الرغم من النزاع المستمر، بدأت إثيوبيا في تشييد السد عام 2010م، وبالنسبة للزعماء الإثيوبيين في أديس أبابا، فإن سد النهضة هو مشروع بنية تحتية حكومي تحويلي ويعتبرونه رمزا لطموحاتهم الوطنية، وعند اكتماله، يمكن لخزان السد أن يخزن ما يصل إلى 74 مليار متر مكعب، أي كمية مياه أكثر من التي تستهلكها مصر في عام كامل. وتسمح محطة الطاقة الكهرومائية للسد بتصدير الكهرباء الإثيوبية إلى البلدان المجاورة. ولقد كانت عملية البناء طويلة وشاقة، ولكن في معظم الحسابات، من المقرر أن يبدأ العمال في ملء الخزان وتوليد الطاقة خلال العام المقبل. ولأن السد تم تمويله من خلال التمويل المحلي والسندات التي ساهمت فيها مجتمعات الشتات الإثيوبي في جميع أنحاء العالم، فإن الضغط لاستكمال المشروع وتوليد إيرادات التصدير مرتفع.
وقد وقف السودان، جار إثيوبيا الشمالي، في البداية مع مصر في معارضة أي سدود على المنبع، ولكن موقفه من المشروع تحول حين أصبحت فوائد السد المحتملة لزراعته واضحة. وعاني السودان من فيضانات موسمية قاسية، تمنعه من استخدام أكثر من 20% من أراضيه الصالحة للزراعة، حسب تقدير أحد الدبلوماسيين. وقد يسمح السد لإقليم الجزيرة بشرق السودان بزراعة 3 مواسم في العام، ويسمح للسدود السودانية الكهرومائية الأصغر في البلاد بالعمل على توليد الطاقة، مما يساعد على إدراك إمكاناتها المحتملة كمصدر لتغذية جيرانها الأفارقة والعرب بالطاقة. وقد يعود سبب انقلاب موقف السودان إلى قربه المتزايد مع اثنين من المنافسين الإقليميين لمصر، وهما تركيا وقطر. وبالإضافة إلى ذلك، فقد بنت إثيوبيا السد على بعد أقل من 20 ميلا من حدود السودان، مما يؤكد للزعماء في الخرطوم أنه لن يتم تحويل المياه من مسارها عبر بلدهم.
وتتضح فوائد السد بالنسبة لإثيوبيا والسودان، لكن عواقبه على مصر، وهي واحدة من أكثر دول العالم تعاني الفقر المائي، قد تكون وخيمة. وتنتقل 85% من إمدادات المياه لنحو 100 مليون مصري عبر إثيوبيا. وإذا ملأت إثيوبيا الخزان في أقل من عقد، فإن إمدادات المياه قصيرة الأجل في مصر ستصبح معرضة للخطر. لكن البلاد تواجه مخاطر أكثر جدية على المدى الطويل، عندما يقوم السد بتنظيم تدفق المياه عبر المناطق الزراعية السودانية. ولقد قدمت إثيوبيا تأكيدات عامة بأنها ستملأ الخزان ببطء بما فيه الكفاية حتى لا تتسبب بألم كبير لمصر، لكن تظل هذه الأمور من الصعب على مصر أن تثق بها أو تقبلها. علاوة على ذلك، يأتي السد في الوقت الذي تبخرت فيه مكاسب مصر في السيطرة على النمو السكاني، وحيث لا يبدو أن الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة تجدي نفعا حتى الآن مع اقتصادها الهش. ونتيجة لذلك، يردد العديد من المصريين تأكيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” بأن النزاع حول نهر النيل هي مسألة “حياة أو موت”.
وتناوبت الأطراف المتناحرة بين المحادثات البراقة والبراغماتية. وقد شملت موجة حارة من العلاقات الأخيرة زيارة قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي “أبي أحمد” إلى القاهرة، شهدت الإفراج عن 32 سجينا إثيوبيا من مصر، وخطط إلى التوصل إلى رؤية مشتركة حول النيل. وقد يشير هذا إلى التقدم نحو قرار ما، لكن التناحر والمخاوف من عدم الاستقرار الداخلي تقيد كلا الجانبين. ولم تتحقق المحادثات أي إنجازات ملموسة، ولم تحدد تفاصيل حول عدد الأعوام التي سيستغرقها ملء السد.
وعلى الرغم من التهديدات العسكرية السابقة، فإن احتمالات نشوب حرب مباشرة بين إثيوبيا ومصر لا تزال بعيدة، وتصبح أقل بسبب الاحترار الدبلوماسي الأخير. ويقول الباحثون إن الحروب الصريحة بسبب المياه نادرة الحدوث، لأن موارد المياه العابرة للحدود تخلق ترابطا (لا يعد قصف بلد يسيطر على إمدادات المياه الخاصة بك أمرا حكيما). وقد سعت مصر، من جانبها، إلى الابتعاد عن المغامرات الإقليمية، وقد يرفض جيشها القيام بضربة مباشرة للسد.
ومع ذلك، تظل الحروب بالوكالة فكرة قائمة. وقد تم اتهام مصر، على سبيل المثال، بتدريب قوات في إريتريا، التي بدأت للتو في الخروج من صراعها الطويل مع إثيوبيا، رغم نفي مصر بشدة لهذه التقارير. ويمكن لمصر أيضا الضغط على السودان عبر مجموعات المعارضة المسلحة التي تعمل في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وفي غضون ذلك، ظهر السودان كملاذ للمعارضين الإسلاميين للنظام المصري، كما تتنافس جميع الأطراف الإقليمية ذات الصلة على التأثير على الفصائل المختلفة في الصومال التي مزقتها الحرب.
تزاحم جديد في أفريقيا
ومما يزيد من تعقيد الأمور تلك اللعبة الكبيرة المزدحمة التي ظهرت بعد إعادة اكتشاف الشرق الأوسط لشرق أفريقيا على مدى العقد الماضي، والتأثيرات التي يمكن أن يحدثها ذلك على نزاع السد. وقد تزايد الاهتمام العربي بالقرن الأفريقي منذ أن بدأت دول الخليج بالاستثمار في الأراضي الزراعية الأفريقية بعد الارتفاع الحاد في أسعار الغذاء العالمية عام 2007. وتعتمد الدول الخليجية على الواردات من أجل أمنها الغذائي، وبدأت البحث عن بدائل للأسواق العالمية من خلال الحصول على الأراضي الزراعية الخصبة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ومنذ ذلك الحين، زادت قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وحتى تركيا من أشكال مختلفة من الاستثمار والانخراط في المنطقة.
ومع تحول التحالفات بسرعة، مع ضخ الموارد والنقد، وصف أحد الدبلوماسيين الأوروبيين العملية بأنها “تدافع صريح”. ويعرف اللاعبون الخارجيون في المنطقة أن القليل من المال يقطع شوطا طويلا. وربما بالتنازل عن 50 مليون دولار لشخص يقوم بإدارة مجموعة ما، تستطيع تغيير اللعبة تماما.
وقد تصاعدت المشاركة الخليجية في أعقاب الحرب التي قادتها السعودية عام 2015م في اليمن، والأزمة الدبلوماسية المستمرة مع قطر منذ عام 2017م. ونتيجة لذلك، أصبح القرن الأفريقي أكثر عسكرة، وأصبح الفاعلون الإقليميون الآن عرضة لخطر تفاقم الخصومات المحلية.
ويمثل النزاع حول السد تحديات فريدة لصانعي السياسة في الولايات المتحدة. ويشغل النزاع حول النيل مسؤولي الشرق الأوسط وأفريقيا في وزارة الخارجية والبنتاغون، كما يتطلب خبرة فنية في منازعات المياه العابرة للحدود. وقد بذل بعض مسؤولي وزارة الخارجية جهدا يثير الإعجاب لرأب خطوط الصدع هذه والسماح للدبلوماسيين الأمريكيين بتقديم جبهة موحدة في القاهرة والخرطوم وأديس أبابا.
ومن المؤكد أن التحديات التي يثيرها النزاع حول السد ستظهر في سياقات أخرى. أولا، أصبحت العلاقات العربية الأفريقية أكثر أهمية. وتقود دول الخليج، بثروتها الهائلة، هذه المهمة. وفي الوقت نفسه، أظهرت حركة المسلحين والمهربين عبر صحراء الساحل التي تربط بين المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أن البيروقراطية الأمريكية لا تقدم حلولا حقيقية لمشاكل الأمن العربية. والسؤال ليس ما إذا كانت هذه العلاقات العربية الأفريقية ستتعمق، ولكن هل يمكن أن تتعمق بشكل بناء؟ وكيف سيتحول الانخراط العربي في شمال شرق أفريقيا بمجرد انتهاء حرب اليمن على الجانب الآخر من البحر الأحمر.
وبالمثل، تنشأ تحديات السياسة الخارجية بشكل متزايد عند تقاطع الطبيعة والأمن القومي، حيث يؤدي تغير المناخ وغيره من التغييرات البيئية إلى تفاقم النزاعات الدبلوماسية. من أزمة المياه الصالحة للشرب في غزة، إلى خطر حدوث تسونامي داخلي كبير إذا انهار سد الموصل بسبب القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق، إلى تسارع وتيرة تغير المناخ والتسبب في مزيد من النزوح، وهي تغييرات سوف تخلق ضروراتها الأمنية الملحة التي ستزيد من فرص الصراعات وتقلل من فرص التوصل إلى صيغ بناءة للتعاون والشراكة.
المصدر/ فورين أفيرز