وليـــــد الحســـــــــام
الارتباط بالله (نضج الوعي والإبداع الشعري ) :
الشاعر الذي عرف جيداً معنى الارتباط في علاقة العبد المخلص لله بيقين مبنيٍّ على المعرفة، وكذلك نضجَ وعيه ومداركه وتفتقت شاعريته بالإبداع هو من يجيد الكتابة في علاقة الإنسان بالله سبحانه ، وكتابته تبدو أصدق في التصوف إذ أن الحالة الشعرية ترجمة لحالات شعورية وصيغاغتها وفق ما يتعلق بها من أفكار وخواطر ، وبهذا يمكن القول إن قوة النص الشعري تأتي من قوة الحالة الشعورية للإنسان ، ويمكن إسقاط هذه الرؤية على الشاعر عبدالسلام المتميز الذي كتب قصيدة (إلى جبهات ربي يناديني) بإبداعٍ شعريٍّ يتماهى مع صدق ارتباطه بالله .
1/ الابتهالات الروحانية ودلالاتها الحركية :
تنوع الوزن والقافية في ثنائية تقنيةٍ وأسلوبيةٍ زاد من جمالية النص _ قصيدة إلى الجبهات ربي يناديني _ وقد يكون في هذا التناوب سرُّ قدرة الشاعر على تكوين النص كنتاجٍ لعلاقات متعددة (روحانية، جهادية ، قرآنية ، إنسانية ، كونية، ميدانية في الجبهات) وخطاب متعدد (مواجهة ، نفير ، جهاد ، ثقافة قرآنية ودينية ) ، وقد غلب على النص النَّفَسُ الروحاني والابتهالات والشجن المفعم بمشاعر الإنسان من حيث تفاعله نفسياً وشعورياً مع مؤثرات الطبيعة والحياة ، وتتوزع المفردات والتراكيب المتعلقة بالابتهالات الروحانية وخطاب الشجن في القصيدة وتتقارب مع بعضها ومع دلالاتها في خطاب الثقافة القرآنية لتتنقل بالقارئ في أجواء النص فيعيش المتلقي أكثر من تجربة شعورية في نص واحد .
تتشابه ابتهالات الشاعر المتميز في هذا النص مع الصوفية في الخطاب الروحي الوجداني وتختلف بتفوقٍ من حيث دلالة الخطاب حيث يعطيه الشاعر هنا دلالة حركية إذ يجعل من الجهاد عبادةً وطاعةً تَهجُّديّةً كما في قوله : ( إلى الجبهات ربي يناديني) ومن أجمل ما أبدع الشاعر وتفرّد به في هذه الجملة أنه جعل المناجاة عكسية مقارنة بالخطاب الصوفي حيث النداء المجازي بمعنى الأمر كان من عظيم (الله _سبحانه) إلى عبد (الشاعر) والمناجاة التي اعتاد عليها الصوفي هي مناجاة العبد لربه ، ومن الجمل التي يعطيها الشاعر دلالة حركية قوله: (هدى الآيات بالنور يهديني) ، إذ يكشف الشاعر عن سرّ انطلاقه وتحرّكه في جانب من العبادات _سبيل الله ، وذلك السر الذي دفع به إلى الحق هو (الآيات) ، ولكي يؤكد الشاعر يقينه بالله والانطلاق للجهاد فقد قال :
( وبعت النفس والمال
عسى الله يقبل المشرى)
ويعبّر الشاعر عن رحلته مع الله ويصف قيمتها كما في: ( معه رحّال … دروب طوال) ، ويظل تعلّقه بالله في كل دروبه من خلال ذكره وتسبيحه إذ يقول: ( وذكر الله على بالي …. في السرّاء والضرّا) ، ولم يغفل الشاعر عن العودة إلى غاية هذه العبادة (أحط احمال … ذنوب ثقال) وقيامه بهذه الطاعة (الجهاد) شجّعه على أن يسأل النجاة من الله عز وجل ويطرق بابه طلباً للرضا والمغفرة :
طرقت الباب يا رب نجيني
من النيران وذنوب تخزيني
هكذا أضفى الشاعر على هذا البيت نفحةً روحانية ، وشعوراً بتقصير العبد من خلال أسلوب النداء (يا رب ) ومن خلال التضرع (نجيني) .
2/شجن الخطاب والارتباط الإنساني :
ما يمنح النص الشعري طاقةً شعوريةً يبقى أثرها في نفسية المتلقي فترةً أطول هو الشجن الذي يتخلَّق في دلالات التراكيب والمعاني ذات الارتباطات الإيحائية بالقيم الإنسانية وأبعادها ، والشاعر المبدع هو الذي يدرك قيمة الجانب الإنساني ومظاهره الشجية ؛ لذا فإنه لا يغفل أن يستثمر ذلك في النص بل إنه يستطيع أن يستحضر شعرية اللغة بما يخدم الخطاب في النص ويعطي القارئ مساحة للقراءة من جوانب عدّة يقول الشاعر عبد السلام المتميز في قصيدته _ إلى الجبهات ربي يناديني:
تركت البيت وعيالي
وطاب مع الله المسرى
هكذا يُشجي الشاعر روح المتلقي بانتقالاته من الإنسانية مثل الهجرة وترك البيت والأهل والأبناء (تركت البيت وعيالي) إلى حالة مقدسة مرتبطة بالله سبحانه (وطاب مع الله المسرى) ، ويجعل الشاعر من الحالة الإنسانية وضحايا العدوان من الأطفال عاملاً آخر من عوامل انطلاقه الجهادي :
أشوف أشلاء الأطفالِ
وثكلى دمعها حمرا
أفزّ اتحزّم الآلي
واحط النار في المجرى
عبّر الشاعر عن تمسّكه وارتباطه بالمواقف الإنسانية التي يعيشها في واقعه (أشوف أشلاء الأطفالِ) هنا أبدع في اختيار المفردات وصياغة نسيجها ، ولم ينسَ غيرتهِ على الإنسان (وثكلى دمعها حمرا) ثم يجعل من ذلك سبباً يضاف إلى أسباب تحرّكه (أفزّ اتحزّم الآلي ) وبعناية فائقة اختار مفردة (أفزّ) التي توحي بحالة الاندفاع الشديد .
3/ الثقة بالله ثقافةٌ قرآنية :
التربية الثقافية بمختلف صورها تظل مرافقةً للشاعر وفاعلةً في تجربته الشعرية خلال مراحلها ونضوجها ، ولها حضورها البارز لدى الشاعر المتميز في هذه القصيدة حيث تتجلى ثقافته السابقة ( التأسيسة ) ليُدرك المتلقي من أول قراءة مستوى الثقافة ونوعيتها لدى هذا الشاعر المبدع الذي كتب ببساطة وعفوية زادت النص شعريةً ، وتظهر ثقافته القرآنية من خلال قوله :(هدى الآيات بالنور يهديني) وهو هنا لم يقدم الثقافة القرآنية في صورة شعرية سطحية جامدة بل قدم القرآن مصدراً حياً للهداية (هدى الآيات _ هدى القرآن ) ، ومادامت الثقافة الأساسية ومصدرها الرئيسي القرآن ومادام طريقها الجهاد في سبيل الله فقد برز لدى الشاعر ارتباط آخر بالله _عز وجل _ يتمثل في الثقة بالخالق والاعتماد عليه بيقين مطلق :
ثقة باللّه تملا شراييني
هدى القرآن بحميه بعيوني
لم يعبر عن ثقته بالله تعبيراً عادياً بل جسدها ومنحها معنىً حسيّاً (تملا شراييني) وجعلها ممزوجةً بالدم كناية مستوى قوتها ، وبما أنه واثق بالله بكل ذلك المستوى الإيماني القوي فهو واثق ومؤمن بتكفل الله بالحماية والنصر :
أنا لله والله يحميني
ومعنا الله والله يكفيني
يرى الشاعر أنه بذل نفسه لمن يستحق البذل (أنا لله) كون المستحق _ سبحانه _ هو القادر على الحماية والكفاية (والله يحميني _ والله يكفيني ) والشاعر أسلوب جذّاب يمرُ من خلاله عبر أنساق النص من فكرة إلى أخرى ، إذ ينتقل من تصوير فكرة قوة الثقة بالله _ليس لترويج الفكرة إنما أراد مجرد التعبير _ ينتقل إلى إثبات دور هذه الفكرة في حياة المجاهد (الثقة بالله) فيقول :
بحول الله دُسنا الفراعيني
عبيد المال خُدّام صهيوني
تظهر ثقته بالله واعتماده عليه في (بحول الله) فكانت النتيجة لصالحه (دُسنا الفراعيني) هكذا صوّر حالة العزة للمعتمدين على الله ، وناقض تلك الصورة في حق الأعداء بتصويرهم بأنهم (عبيد المال ، وخُدّام الصهاينة) ، وبالأسلوب الإنسيابي ذاته يمر الشاعر على فكرةٍ يوضح بها مقاصده الجهادية القائمة على الثقة بالله :
رضا الله غاية امالي
وهو يفرض علي صبرا
وهو في كل الأحوالِ
يجعل عسرنا يسرا
لا يطمع الشاعر بجهاده وعمله التعَبُّدي هذا إلى شيء دنيوي بل آماله وغاياته متبلورة في (رضا الله) وهذه الغاية المُثلى تفرض عليه الصبر والثبات والبذل .
الارتباط الجهادي .. قصيدة المواجهة
أن يجمع الشاعر أكثر من فكرة رئيسية وأكثر من جوٍّ في النص الشعري الواحد دون أن يبتعد بالمتلقي عن إطار النص ، فذلك هو ما يُوصف بالتفرّد الإبداعي ، ويسمّى بخصوصية الأسلوب ، ومثل ذلك يعكس القدرات الفائقة التي يمتلكها الشاعر في استغلال ادوات الكتابة من ثقافة ولغة وخيال في إنتاج نصٍ نوعيٍّ ، وقصيدة الشاعر عبدالسلام المتميز (إلى جبهات ربي يناديني ) تبدو للقارئ أو المتلقي المُكمّل للعملية الإبداعية قصيدةً فوق المستوى العادي المألوف ، وتظل هذه التجربة الشعرية متجددةً في ذائقة المتلقي ، فالشاعر استطاع أن يفتح في قصيدته نوافذ عدّة كلها تتجه نحو علاقته بالله _ تعالى _ فكان الجهاد ومواجهة بغي تحالفات الأعداء من مشاريع ارتباط الشاعر بخالقه .
1/ الروح الجهادية وقوة المواجهة :
تناوب الضمير بين ضمير المتكلم مثل ياء المتكلم كما في (يناديني ، يهديني ، نجيني، يحميني ، يكفيني ، آمالي ، بعيوني) وتاء الفاعل كما في (بعت ، طرقت ، تركت ) والانتقال إلى الضمير الجمعي بما يؤكد أن الشاعر في ظل مشروع أمّة كما في (قطعنا ، دسنا) هذا التناوب المتماهي مع الخطاب العام للنص مما يحسب للشاعر _ أيضاً _ في هذه القصيدة ، وتظهر الروح الجهادية التي يحمل الشاعر من خلال الدلالة الحركية لبعض المفردات والتراكيب التي وزّعها في مقاطع النص وأبياته ، حيث استهل نصه بتقديم وتأخير ليلفت المتلقي إلى ضرورة ذات أهمية (إلى الجبهات) وهو كذلك يعبر عن قوّة ارتباطه بالجبهات ، ثم يتجه إلى تصوير تحرّكه إذ يقول:(أفزّ اتحزّم الآلي) و هذه الصورة الشعرية لها من الجانب البلاغي ما يوصف بالكناية عن حالة النهوض ، إذ إن المفردة (أفزّ) محمولة دلالتها على حالة الواقع الذي يتجسد عليه انفعال الشاعر وانطلاقه ونهوضه المفاجئ والسريع للجهاد وقوله (اتحزّم) تعكس دلالة هذه المفردة مدى تعلق الشاعر بسلاح المواجهة ، وبالضمير الجماعي يصوّر الشاعر حالة النفير الجمعي للمجاهدين ونوع انطلاقهم لتلبية نداء الحق بقوله :
نهبّ رجال
قتال قتال
إذ استخدم الشاعر الفعل المضارع (نهبّ) الذي يدل على استمرار الحال وفي معنى هذه المفردة دلالةٌ على الكثرة وقوة الانطلاق إلى الجبهات ، ودلالة لفظ (رجال) تبدو من خلال حضورها التركيبي لتوضيح القدرات القتالية ، ويتجه الخطاب الشعري في النص إلى تصوير المعركة وحركة أحداثها (قتال قتال) حيث يأتي التوكيد اللفظي ليزيد المعنى قوة وتظهر من دلالته شدة المواجهة وشراستها ، ويلتقط صورةً لنفسه أثناء المواجهة إذ يقول:(واحطّ النار في المجرى) وترك هنا فراغاً للمتلقي ليؤدي دوره في إكمال المعنى حيث قد يفسر (النار _ بالرصاص والمجرى بمجرى الدم العدوى أو طريقه ) ، ويستمر في تصوير أحداث المعركة من خلال تعبيره (أدقّ غزاة لطغاة ترميني ) وقوله بضمير الجمع: ( قطعنا اذيال .. عبيد المال ) وقوله:(دسنا الفراعيني) حيث يعرض الشاعر صوراً حركيّة للمعركة وقوة فعل المواجهة بتراكيب ومعانٍ تجسيدية ، ويُعيد الشاعر أسباب قوة المواجهة ومعالمها وأسباب الانتصار إلى الله عز وجل ( وربي قوته كبرى) حيث كان لواو الحال هنا دور تركيبي وحضور دلالي باعتبارها قرينة لجملة الحال التي أوضحت مصدر النصر وأسبابه القوية ، وبلفتة إلى فكرةٍ أخرى صرّح الشاعر فيها بالتمسك بالعهد :
محال محال ومحالي
أخون الدم والأسرى
حيث يؤكد هنا على تمسكه بالعهد الذي يستحيل معه أن يخون الأسرى والشهداء الذين رمز لهم بقوله 🙁 الدم) ، وفي هذه الفكرة ما يتضمن معنى العزيمة والاستمرار حتى الوفاء .
2/ التماهي مع الطبيعة .. اكتمال الصورة الشعرية :
يكتمل نضج النص باستحضار الطبيعة الكونية من خلال المفردات المنتمية إلى حقل الطبيعة حيث تظهر علاقة الشاعر بمظاهر الطبيعة وعواملها المؤثرة علاقةً جهادية تنعكس على المتكلم (الشاعر المجاهد) فتُكسبه صلابةً وقوة وتحدياً للصعاب :
أنا في السهل وجبالي
خوي الليله الغدرا
ها هو الشاعر الجندي المجاهد الذي يعيش واقعاً حقيقاً ، ويقترب من الظواهر الطبيعية بواقعية فعلية يكون أكثر قدرة على صياغة الواقع صياغة تخيُّلية شعرية ، ويتجلى اقترابه من الطبيعة لدرجة الحميمية والألفة والاعتياد فيعبر الشاعر عن الذات (الأنا) الفردية ويربط علاقة الضمير بمفردات الطبيعة (السهل ، جبال ، الليلة ، الغدراء) والغدراء بمعني الليلة شديدة الظلمة ، وتكبر علاقته مع الليل إلى أن تصل إلى درجة الارتباط الإنساني الأخوي (خوي) وهذه الصورة الشعرية المجازية التي تجسّد الليل كناية عن الشجاعة وعن كثرة التحرك الجهادي ، وبما اكتسبه من الصلابة والشجاعة والبأس والعزم ظهرت قوته في قوله :
أشق رمال
وادوس جبال
صورة شعرية مجازية تخيليّة فائقة مرتبطة بالطبيعة (رمال وجبال) تجذب خيال المتلقي وإحساسه ليشاهد بهما مشهدين من القوة والبأس (أشق ، أدوس) ويبدو من الإيحاء البعيد للتركيبين وللدلالة الفعلين المضارعين المستمرين أن المقصود غير المجازي هو السير على الأقدام في الصحارى والصعود على الجبال في معركة المواجهة مع العدوان .