خليل المعلمي
يعتبر البروفيسور فرانشيسكو كاريللو القرن الحادي والعشرين هو قرن المعرفة وقرناً لمدن المعرفة، حيث استهل حديثه عن هذا القرن في مقدمة كتاب “مدن المعرفة: المداخل، والخبرات والرؤى”، والذي قام بتحريره وتأليف ثلاث ورقات بحثية فيه ضمن سبعة وعشرين كاتباً قاموا بتحرير عشرين ورقة بحث هي مواد هذا الكتاب.
وقد اختيرت الإسهامات المتضمنة داخل هذا الكتاب والمقسمة إلى ثلاثة أبواب وعشرين فصلاً بهدف توضيح تنوع المداخل النظرية والمنهجية التي تشكل ملامح التخصص الجديد، وتشكل الإسهامات التي تتدرج من الدراسات التجريبية أو التحليلية أو الكمية إلى الدراسات النظرية والتنظيمية والقيمية معاً لوحة غنية تخبرنا عن مدن المعرفة أكثر مما يمكن أن يخبرنا عنه أحد فصول هذا الكتاب.. كما يتضح أيضاً التحول من التحليل الاقتصادي الاجتماعي السابق لمكونات مدينة المعرفة كمناطق التقنية ومجارات الابتكار والشبكات وغيرها إلى نظم القيمة الحضرية كوحدات نظرية للمفهوم.
مداخل
قدم المؤلفون في الباب الأول عدد من النظريات لمفهوم مدن المعرفة وخصائصها، كما استعرضت نماذج لمدن المعرفة وحاجتها للمعرفة كأحد أهم المرتكزات لأي مشروع اقتصادي والتي يجب إدارتها بفاعلية وكفاءة للحصول على ميزة تنافسية في حقبة اقتصاد المعرفة.
وتم الإشارة إلى أن الهجرة إلى المدن قد ازدادت في القرن الواحد والعشرين مقارنة بالقرنين الماضيين في ظل الثورة الصناعية، حيث لم يتعد سكان هذه المدن 0.5% من الوجود الإنساني على الأرض وحتى الثمانينيات من القرن العشرين لم يتعد سكان المناطق الحضرية على مستوى العالم 30% من إجمالي عدد السكان، وأما في الوقت الحالي فنسبة سكان المدن في العالم تتخطى 50% ومن المتوقع أن تصل إلى 75% بحلول عام 2025م وقد تم الوصول إلى هذه النسبة بالفعل في معظم الدول المتقدمة ولذا فيمكننا القول بأن أكبر عملية تحضر للجنس البشري بعد 40 ألف سنة من ظهور هذا الجنس تحدث الآن.
إن العلاقة الناشئة بين إدارة المعرفة والتنمية القائمة على المعرفة أوجدت مفهوم “مدينة المعرفة” والذي يعد هذه الأيام ذا أهمية كبيرة ومادة ثرية للمناقشة.. وبالفعل فقد أعلنت عددا من المدن على مستوى العالم نفسها مدناً للمعرفة في الوقت الذي بدأت فيها مدن أخرى تطوير مخططات استراتيجية وتنفيذية لكي تصبح مدناً للمعرفة في المستقبل القريب.
مفهوم مدن المعرفة
هناك مفاهيم أساسية لمدن المعرفة قدمها الفصل الأول فمفهوم مدن المعرفة يعتبره مفهوماً شمولياً قادراً على استيعاب كل نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمدينة ما.. فمدن المعرفة هي المدن التي تستهدف التنمية القائمة على المعرفة عن طريق تشجيع الإبداع والتشارك والتقييم والتجديد والتحديث المستمر للمعرفة، ويمكن لذلك أن يتحقق عبر التفاعل المستمر بين مواطني المدينة أنفسهم وبينهم وبين مواطني المدن الأخرى حيث تؤدي ثقافة تشارك المعرفة وكذلك التصميم الملائم للمدينة وشبكات تكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية لها إلى دعم هذه التفاعلات.
وعلى هذا فلا يمكن اعتبار عملية إنشاء “مدن المعرفة” أمراً سهلاً أو سريعاً حيث تحتاج محاولات إنشاء هذه المدينة إلى الدعم الفعال للمجتمع كله ممثلاً في الحكومة المحلية والمواطنين والقطاع الخاص والمنظمات والجامعات وغيرها، ولأجل هذا يجب القيام بتحليل متعمق للوضع الراهن، وتحديد للرؤية والاستراتيجية وتنفيذ دقيق لخطة العمل.
فوائد مدن المعرفة
وبحسب الأدبيات المنشورة من قبل المساهمين في تأليف هذا الكتاب فقد أشير إلى الاستدامة البيئية للتنمية القائمة على المعرفة والعدالة الاقتصادية التي تكفلها والمسؤولية الاجتماعية التي تتحملها.
وتبدو الميزة الرئيسية لمدينة المعرفة في أنها تعمل بطريقة تدعم وتتوافق مع التنمية المعتمدة على المعرفة ومن هذه الفوائد دعم الحراك الابتكاري القوي عبر جميع القطاعات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وتقديم خدمات تعليمية أفضل ودعم المشاركة الفاعلة للمواطنين في تنمية مدينتهم والحفاظ على هويتها وشخصيتها الفريدة والتحول إلى نمط اقتصادي أكثر استدامة وتعمل أيضاً على خلق بيئة رحبة تسع الأقليات والمهاجرين.. كما تسهم في تفعيل ممارسة الديمقراطية من خلال مشاركة حية للمعرفة بين جميع المواطنين وذلك عن طريق إمدادهم بوسائل وتسهيلات معلوماتية محدثة وغير مكلفة تمكنهم من المشاركات الحية وبشكل لحظي وعلى هذا فمفهوم “الفجوة الرقمية” من شأنه أن يستبدل بمفهوم “الاحتواء الرقمي” الذي يعني أن فوائد التقنية بمقدورها الوصول إلى جميع أفراد المجتمع.
نماذج لمدن المعرفة
وتضمن الكتاب دراسة تحليلية لعدد من مدن المعرفة العالمية والتي تم اعتبارها ناجحة بكل المقاييس، ومن هذه المدن برشلونة في البرتغال، فالبداية كانت حينما قدم مجلس المدينة مخططاً استراتيجياً في العام 1999م لتنمية المدينة آخذا في الاعتبار التحديات التي فرضها مجتمع المعرفة، وتمثل الهدف الرئيسي في وضع مدينة برشلونة ضمن المجموعة الرائدة في مجال مجتمعات المعرفة في المنطقة بحلول القرن الحادي والعشرين.
وبعد وضع المخطط الاستراتيجي وتحديد مؤشرات الأداء واختيار المؤسسات المسؤولية عن تنفيذ المهام ذات الأولوية تم اختيار خمسة محاور استراتيجية للعمل لتكون المعرفة إحدى نقاط القوة في مدينة برشلونة.
وجعل الهدف الرئيسي لهذا المشروع وهو دعم وتطوير مدينة برشلونة كمدينة للمعرفة، جزءاً لا يتجزأ عن السياسات الداخلية للقطاعات الأخرى كالثقافة والسياحة والتنمية العمرانية وقد بلغ عدد المشاركين في تطوير وتنفيذ هذه الاستراتيجية 1.6 مليون نسمة.
بينما سعت مدينة ستوكهولم السويدية وهي إحدى نماذج مدن المعرفة الناجحة عالمياً للجمع بين المدينة ومجتمع العمال والبلدات المجاورة بوسط السويد على أجندة مشتركة استهدفت جعل ستوكهولم أكثر الأقاليم إثارة في شمال أوروبا، وتضمنت هذه الأجندة عدداً من الإجراءات لجلب الاستثمارات المختلفة للبنى التحتية ومن ثم ركزت على التكنولوجيا الحيوية والطب الحيوي لتضع نفسها تحت مسمى “مدينة معرفة”.
ومن المدن الأخرى أيضاً مدينة ميونخ الألمانية ومونتريال الكندية التي تمتلك العديد من القطاعات الصناعية المعتمدة على المعرفة المتقدمة والمهنية والتقنية العالمية وقطاعاً كبيراً من المبدعين في المجالات الفنية والثقافية، كما تمتلك المدينة أيضاً مجموعة كبيرة من الأصول المعرفية وشبكات الخبرة كالجامعات ومراكز الأبحاث والمعاهد والمختبرات المخصصة للإبداع والابتكار، وكذلك مدينة دبلن الايرلندية ومدينة ديلفت الهولندية.
ومن خلال ذلك يمكن النظر إلى مدينة المعرفة على أنها أداة أو مساحة جزئية لتقوية التجديد والتحول إلى اقتصاد المعرفة، ومن أجل مجتمع المعرفة المستقبلي فإننا نحتاج إلى أن نطور بنية تحتية لهجرة وتدفق الناس وكذلك إلى تنمية رأسمال العلاقات وسيتطلب هذا التزام المجتمع وروح المبادرة فيه بدور المحرك الأساسي.
الخبرات
وفي الباب الثاني تم استعراض عدد من المدن النموذجية التي تحولت من مدن مختلفة الفكر وذات طبيعة محدودة إلى مدن المعرفة ومنها مدينة سنغافورة التي تعتبر حالة دراسية مشوقة لمدينة قائمة على المعرفة لتحولها النوعي من مدينة ذات فكر محافظ ورقابة صارمة إلى مدينة متحررة وخلاقة وديناميكية، وتعكس المدينة عدداً كبيراً من الخصائص النمطية للاقتصاد القائم على المعرفة.. متمثلة في سكانها وأفكارهم وقدراتهم كمصدر رئيسي للثروة وصناعة الفرص.
أما في حالة مدينة بلباو الأسبانية التي تحولت إلى مدينة معرفة كان للمتاحف والمرافق الثقافية الأخرى دور في عمليات التنمية الاقتصادية الإقليمية والحضرية الجديدة ولهذا تطورت المعرفة والثقافة من كونها عوامل إنتاجية جامدة معاً مع رأس المال والقوى العاملة وميزة نسبية في الماضي إلى كونها مكوناً حيوياً يدعم الميزة التنافسية للأمة والمنطقة والمدينة.
وهناك حالة مدينة حولون في الأراضي المحتلة والتي تحولت إلى مدينة معرفة عبر تحولها إلى مدينة للأطفال، ومدينة مانشستر البريطانية التي يرى المراقبين الدوليين أنها قد صنعت “تحولا في روح المبادرة” وذلك باحتضان نماذج مدن المعرفة التي ستشكل مجتمع إقليم المدينة الاقتصادي والذي يضم جامعاتها.
وكذلك مدينة فينيكس الأمريكية ومدينة مونتيري وريجيكا الكرواتية التي مرت بفترات تاريخية مهمة في أوروبا لكنها في العام 1997م تحولت إلى إحدى مدن المعرفة إضافة إلى مدينة كريستيانيا الدنماريكية.
الرؤى
وفي الباب الثالث وضعت عدد من الآراء حول مدن المعرفة، ومنها أن هناك العديد من الميزات التي تجعل المدن تتحول من مدن تقليدية إلى مدن المعرفة ومنها الموقع الحضري والذي يساعد في التخطيط للتحول إلى مدينة المعرفة ويؤدي نجاحها أيضاً إلى الموقع الجغرافي والسياسات الإقليمية وكذلك نشر المعرفة والابتكار في الأقاليم الحضرية، كما أن الهوية والذكاء هما رأس المال المرجعيان ويعتبران نقطة البدء في تحقيق تفرد وذاتية كل مدينة في مواجهة المجموعة المشتركة من نظم رؤوس الأموال العامة.
مستقبل المدن العربية
ونحن العرب نتساءل عن مستقبل المدن العربية التي تتعدد خصائصها ومميزاتها في مجالات أخرى، وكما أنها قد نجحت في بناء مدن حضرية في مناطق كثيرة وفي دول عربية متعددة فهل سيحالفها النجاح في تحويل هذه المدن أو بعضها إلى مدن معرفية، يقوم اقتصادها على رأس المال المعرفي ولا تعتمد كلية على ودائع نفطية كما هو الحال في بعض الدول العربية التي تعتمد على النفط.
هل تخطط بعض هذه المدن والتي كانت لها صولات وجولات في قرون مضت في استعادة مكانتها الحضارية والثقافية والمعرفية؟ وعلى الرغم من سهولة الأسئلة فإن الأجوبة صعبة، فالمسيرة تبدو طويلة ويكفي شعوبنا العربية أن تبدأ وتحاول لترسم ملامح المستقبل المعرفي وتسعى لبناء مدن معرفية عربية لكي يتسع صدرها لأجيال قادمة عليها عبء التحاور مع عالم حقق قفزات مذهلة واسعة في تطور البشرية وارتقائها بشكل متسارع يوماً بعد يوم.