التاريخ يصنع وعينا (5): إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة
حمود الأهنومي
في لحظة ضُعف جنَح أهلُ صنعاء للمسالمة، واستسلموا للدعة والراحة، بل وشحَّت نفوسُهم على قليلٍ من المال ينفقونه في سبيل الله، فضاقت أن تقرض الإمام الهادي يحيى بن الحسين في القرن الثالث الهجري بعض المال، لينفقه على عساكره، فيرد صولة القرامطة الجامحين في عصره، فخرج الإمام الهادي من صنعاء إلى صعدة، تحت ضغط الحاجة، والتمردات الداخلية، والتخاذل، والتواكل، والاستسلام للراحة، واللامبالاة.
وما هي إلا أيام قلائل وإذا بطلائع الجيش القرمطي بقيادة علي بن فضل قادمة كالطوفان المدمِّر، والإعصار المزمجِر، فاقتحموا صنعاء، وعبثوا بها أيما عبث.
لقد وقف المؤرخون طويلا، وهم يعدِّدون الفظائع والجرائم والموبقات التي ارتكبها ابن فضل وجيشُه في صنعاء، وفي كل مكانٍ دنّسته أرجلهم، وشكَّك بعضُ المؤرخين مؤخَّرا في حدوث تلك الفظائع، أو بعضِها، غير أن معاصرا للحدث هو الإمام الناصر ابن الإمام الهادي أثبت في رسالته إلى أتباعه من زيدية الجيل والديلم، كل تلك الفظائع والانحرافات، ورسالته تلك تعتبر وثيقة تاريخية هامة، نشرها المجلس الزيدي الإسلامي مؤخرا بتحقيق الأستاذ جمال الشامي تحت عنوان (اليمن والأئمة الهادي والمرتضى والناصر).
تقول تلك الوثيقة التاريخية ص51-53 عن ابن فضل، وما ارتكبه بحق اليمنيين في صنعاء ومدنٍ أخرى: “فسبى هو وأصحابُه بفسقهم المؤمنات، وفضحوا المسلمات، فبِيعَتِ النسوانُ بالدراهم، وارْتُكِبْن العظائم، واستُخْدِمْنَ استخدامَ البهائم، ونيل منهن الفجور والمكروه، وارتَكَبَهن السفيهُ، مع قتله – لعنه الله – للرجال، وذبحِه للأطفال، وحكمِه بالمحال، وتركه للناس بأشر حال .. وحكم فيهم بما لم يحكم فيهم أحدٌ قبله من الفراعنة الطاغين، والجبابرة المضلين”.
أما هل عمَّ هذا البلاءُ جميعَ اليمن أم فقط تلك المناطق التي استسلمت للراحة، واستعجلت الدعة، فتركت ما أمرها الله به من الإنفاق والجهاد في سبيل الله لدفع ذلك الخطر الداهم، والخراب الهادم؟ فإنه يتبين أن ذلك البلاد حل فقط بالقوم الكسالى الوانين، والبخلاء المقصرين، فأما المناطق التي كان لدى أهلها حس ثوري جهادي، واستعداد للتضحية والإنفاق، في صعدة وما جاورها، فإنها نجت من هذا الطوفان الجارف، والخراب العاصف، حيث يقول الإمام الناصر: “وإنما فعل هذا القرمطي الملعون الذي وصفنا بأقصى اليمن النائية عنا، النازحة منا، فأما حيث نحن مقيمون، فهو موضع مستور، والله محمود”.
وهكذا تمضي عجلة التاريخ ويتكرر هذا الدرس المؤلم؛ ففي سنة 922هـ احتل جنود المماليك الجراكسة مدينة زبيد، بقيادة الأمير حسين الكردي، فكيف كان دخولهم إليها؟ هل كان على النحو الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة؟ أم حتى كان على شاكلة إمساك أنصار الله لزمام الأمور والمؤسسات الحكومية في صنعاء في 21 سبتمبر 2014م؟
كلا .. بل “انتهبوها وسفكوا الدماء، وأباحوها، وهتكوا المحارم، وفعلوا العظائم” على حد وصف كتاب غاية الأماني في أخبار القطر اليماني ص646، ويضيف مؤلفه المؤرِّخ يحيى بن الحسين فيه قائلا “وبالجملة فقد جرى على زبيد ما جرى على أهلِ المدينةِ المشرَّفة يوم الحرة من جيش يزيد، واستمر النهب ثلاثة أيام، ودخل العسكرُ البيوتَ، وأخرجوا عنها أهلها”، ولم يُتْرَكِ الأغنياء البخلاء من أهلها وشأنَهم، بل صودرت أموالهم “بعشرة آلاف دينار أشرفي، بعد النهب والسلب، وأُمِر بالقاضي صفي الدين أحمد بن عمر الموحد إلى دار الاعتقال، وخوطِبَ بمالٍ، وأرسلوا للفقيه إسماعيل بن جعمان، صاحب بيت الفقيه، وطالبوه بمالٍ، فضُرِبَ بالسياط، ثم حُمِل إلى السجن، فمات فيه”.
ثم عند احتلال أولئك الجراكسة لمدينة تعز “صادروا أهلها، وفعلوا فيها أعظم مما فعلوه في زبيد”.
أما صنعاء فقد “مالوا على من فيها فقتلوا من حماتها وأجنادها وغيرهم ألفا وخمسَ مئة، وصادروا التجار”، ويضيف المؤرخ يحيى بن الحسين مبينا عمق المأساة، وكثافة المصيبة، فيقول: “وجرى على أهل صنعاء ما جرى على أهل بغداد من التتار، حتى لقد يُحكَى أنهم كانوا يُحَمِّلون أهل صنعاء دنانَ الخمر من السائلة إلى القصر. وعلى الجملة فإن شرح الحال يطول، ويُذْهِل العقول، من وصف ما جرى من هذه الفرقة الغورية، والعصابة المصرية، التي ساقها الله إلى هذه الديار اليمنية”.
ما يجب أن نعرفه اليوم أنه لم ولن يوفِّر الغزاة الأجانب لأي شعب داسوه بأقدامهم كرامةً ولا عزا ولا صلاحا، وقد أدركت ملكة سبأ هذه السنة القبيحة في قولها لأرباب مملكتها: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون).
هؤلاء هم الملوك؛ إذ لا بد أنهم سيُفسدون أيَّ مدينة يدخلونها عنوة واحتلالا واستعمارا، فكيف إذا كانت أوساخ الأرض، وأقذار الكون، وشذاذ الآفاق جمعها الدولار، وحزَّبها الريال، وليس لهم من هدف إلا إذلال الشعوب، والإمعان في دوس الكرامات، والاستهانة بالأرواح، كما هو حال هذا العدوان السعودي الأمريكي الإماراتي الأبشع والأكثر بجاحة على مر التاريخ؟!
إن ما قالته حذام في هذه القضية وأشباهها ونظائرها، هو ما أذاعته وكالة (الأسوشيتد برس) في تقريرها الدولي في الأيام القريبة الماضية، بشأن الفظائع الجسيمة، والمحرمات الأليمة، والاغتصابات الملعونة، ضد سجناء جنوبيين، وكأنهم لم يكفِهم منهم أن يغتصبوا إرادتهم حيث جندوهم للقتال في صفوفهم، وقتلا لشعبهم، وتحقيقا لأهدافهم الوسخة في اليمن، لم يكفهم ذلك حتى اغتصبوا كرامتهم وشرفهم، بل وأقاموا عليها مأتما وعويلا، كان ملء سمع العالم وبصره.
هذا النوع من الفساد ليس بدعا في الأمم فهذا هو شأن الغزاة والطغاة في كل عصر ومصر، والآن هيا بنا إلى التاريخ مرة أخرى لنرى إن كان بجعبته أيضا ما يخبرنا به من الحوادث التي يجب أن تتحول معارفنا بها إلى قراراتٍ وسلوكاتٍ واتجاهاتٍ في الطريق الصحيح.
لقد خلف الأتراكُ المماليكَ بعد قضائهم على دولتهم في مصر، ووصل أزدمر قائد الأتراك إلى صنعاء، وحاصروها “وحصلت خيانة من رجل، يعرف بالعنجري، حيث أدخل الأتراك من خندق باب شعوب، وكان عليه حفظه، فلم يشعر أهل صنعاء إلا بأعلام الأتراك على دائرها [سورها] مركوزة، فكان يوما عصيبا، قُتِل فيه من أهل صنعاء أحد عشر مئة إنسان [1100 شخص]، ونُهِبَتِ البيوت، وهُتِكَتِ المحارم، وبيعَت النساءُ في الأسواق، ومنهن مَنْ زال عقلُها، ومنهن مَنْ قَتَلَتْ نفسَها، وفُقِدَ من أعيان صنعاء عدة، وألوت بهم الشدة”.
هكذا إذن كان، وكذلك يفعلون لو عادوا مرة أخرى، سنة الله في الذين فرطوا، وقصروا، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
غير أن التاريخ في كل مرة يخبرنا أن من يتصدى للاحتلال والغزو والاستعمار بقوةٍ وتنظيمٍ وإعدادٍ وجهادٍ في سبيله فإن النصر حليفهم، وأن تضحياتهم مهما بلغت وعظمت لن تكون إلا عشر معشار خسائرِهم لو استسلموا للأجنبي، وخضعوا لطغيانه الغبي، مع الفارق الكبير حيث تضحياتهم في التصدي له مثابون عليها، ولهم عليها أجر؛ كونها في إطار التحرك بطاعة الله، بينما خسائرهم وهم تحت الاحتلال ليست سوى عقوبة إلهية معجَّلة، بتخلية الله للظالمين إزاءهم، عقوبة لهم على تخاذلهم وتقصيرهم، وهم في دائرة السخط الإلهي، الذي ليس وراءه إلا (العذاب الأكبر)، عذاب الآخرة، بالإضافة إلى العذاب الأدني.
وأخيرا في عام 956هـ طلب أهل شمات الأمانَ من أزدمر قائد الأتراك ذاك، فلما استولى عليهم، مال عليهم نهبا وأسرا، وكانت قبائل جبل تيس والحيمة قد أرادوا الدخول تحت طاعة أزدمر، فلما بلغهم ما فعل بأهل شمات، انقبضوا وأعرضوا خوفا من غدره وجوره ومكره، ولم يسلِّموا له حصنهم، وبلادهم، فأنجاهم الله من سوء العاقبة، وغدر الخاتمة، وذلك درس مصغر، ومشهد مبسط، للصراع بين الحق والباطل، وخواتم الأبطال المغاوير، ونهايات المتخاذلين المهازيل.
وبهذا يتبين:
-أن الملوك إذا دخلوا قرية أو مدينة أفسدوها، وعبثوا بشرفها وكرامتها، وانتهكوا أعراضَ أهليها، وصادروا أموالَ تجارها ومياسيرها، وبدّلوا أفراحها ترحا، واستقرارها فوضى.
-وأن ذاك هو فعلُ الملوك الظالمين، أما إذا كان الغزاة أحقرَ الغرب، وألأمَ العرب، وما جمعوا من أوساخ الأرض وأقذارها، فإنهم أولا سيغتصبون إرادة الرجال فيشحنوهم إلى محارق الموت في سبيل أحلامهم البائسة، ثم ثانيا يفجرون بنسائهم، ثم ثالثا يغتصبون من بقي من رجالهم في السجون، ويذاع ذلك في الوكالات العالمية، ويتكرر الأمر الأمرُّ، والقضية الدنية، ثم رابعا وخامسا ومئة لن يحرك ذلك العار في أولئك المرتزقة نخوة إنسانية سوية، ولا ذرة كرامة عربية يمانية.
-وأن المدن والقرى التي تستكين للغازي خوفا من التضحيات، ستضحي بحاضرها، ومستقبلها، وكرامة أبنائها، أما المدن والقرى التي تسلك طريق الحرية، وترضى بالكرامة دينا، وبالعزة منهجا ومبدأ ومختما، فإنها مهما قدِّمت من تضحيات، فإن عاقبتها الصمود والثبات، وجزاءها الوفاق العدل هو النصر في الدنيا، والرضا والرضوان في الأخرى.