وداعا أيها العابد الزاهد التقي
عبدالفتاح علي البنوس
منذ صغره نشأ وتربى على طاعة الله وطلب العلم والتفقه في الدين بإيمان مخلص وانطلاقة إيمانية جعلت منه القدوة المثلى بين أقرانه من طلبة العلم، وبلغ أعلى درجات التفقه في الدين والورع والتقوى، عرف عنه زهده وعزوفه عن الدنيا ومغرياتها، وعدم الانجرار خلف ملذاتها والإنسياق خلف مطامعها، كان يعاف التزلف والتملق للسلاطين وكان لا يحبب المدح فيه والثناء عليه كونه كان مرتبطا بالله مناجيا له في ليله ونهاره، كان خطيبا مصقعا، ومفتيا مجيدا، وعلامة واسع العلم والمعرفة، وعابدا ورعا تقيا، ذكر الله لا يفارق لسانه، وكان من أكثر علماء عصره اتصالا وتواصلا بخالقه، وهاديا إلى سبيل ربه، ومعلما لهدي نبيه، ومرشدا للناس إلى المنهج القويم والمسلك السليم الذي يقود صاحبه إلى الصراط المستقيم .
كان عفيفا زاهدا، وغير مكترث بحطام الدنيا وغير مبال بالمال والسلطان، فقد سخر نفسه لطلاب العلم ولخدمة المواطنين وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم، ظل مداوما في جامع النهرين منذ الصباح الباكر وحتى بعد صلاة الظهر يدرس الطلاب ويسطر الفتاوى للناس بصورة يومية ومن بعد الغداء إلى بعد العشاء وهو على ذات الوتيرة قاصدا وجه الله ومبتغيا منه الأجر والثواب، لا ينافسه أحد في زهده وتقواه، فكان من أشد الناس حرصا على تطليق الدنيا اقتداء بجده علي بن أبي طالب عليه السلام، فكان كثير المناجاة لربه، دائم الاتصال معه، حتى عرف بين الناس بأتقى الأتقياء .
يحظى باحترام وتقدير وإجلال كل اليمنيين حيث يمثل روح الاعتدال والوسطية والسماحة الإسلامية بحق وحقيقة، لم تسجل سيرة حياته أنه دخل مع أحد في خلاف ما، فقد كان متواضعا حليما حكيما وصبورا، تخرج على يديه كوكبة كثيرة من العلماء الأجلاء الذين نهلوا من نبع علمه و فيض معرفته، كان نقي السريرة، صادق الكلمة، حائز الخصال الحميدة، وكان قريبا من الناس، وملامسا لهمومهم ومشاكلهم وميسرا لأمورهم في حدود ما يستطيع، وكان منفقا محسنا بما لديه، فلم يترك لأولاده الأرصدة والثروة والعقارات والشركات والاستثمارات، بل ترك لهم السيرة والتربية الحسنة والمكانة الرفيعة عند الله وعباده .
ما بين النهرين والشوكاني ظل متنقلا عالما معلما وفقيها محدثا وخطيبا مصقعا فحاز على الفضائل كلها، ولأنه كان بسيطا في حياته ومعيشته، فقد كان بسيطا في طرحه، فكانت خطبه ومواعظه ودروسه ومحاضراته تدخل للقلوب دونما استئذان كونها كانت مشبعة بالصدق والإخلاص وملامسة للأوجاع ومطببة عليها، لا يمل له حديثا، ولا يعاب فيه ونيسا، فكان خلقه القرآن، ومنطقه ذكر الرحمن بالدعاء والاستغفار، حتى توفاه الله يوم الاثنين الماضي، قبل أن تشيعه الجموع الغفيرة صبيحة الثلاثاء في موكب جنائزي مهيب يليق بمكانته ومقامه ومآثره التي ستظل محط تقدير وإجلال كل من عرفه .
إنه العالم الرباني الجليل، والعابد التقي الزاهد حمود بن عباس المؤيد طيب الله ثراه، وأحسن الله مثواه، وجعل الجنة سكناه، والذي شكل رحيله خسارة كبيرة لا تعوض للأمة بأسرها، نظرا لما كان يحمله من علم وما يحظى به من مكانة عالية ورفيعة لعلمه وفقهه وورعه، بيانات النعي وبرقيات التعازي والخطابات والكلمات والكتابات التي قيلت فيه وتلك التي ستقال لن تفيه حقه مطلقا، فالمصاب جلل، والفقدان عظيم جدا، ولا غرابة أن تخرج تلكم الجموع الحاشدة في موكب تشييعه، ولا غرابة أن تغرق جنازته وسط الطوفان البشري الذي شهدته العاصمة صنعاء الثلاثاء الماضي وهي تودع أحد أقطاب العلم في الوطن العربي عامة وفي اليمن خاصة .
بالمختصر المفيد، رحم الله فقيدنا الغالي العلامة الحجة حمود عباس المؤيد وجزاه الله خيرا على تسخيره لنفسه وعلمه لخدمة العلم وطلابه، وما أحوجنا في هذه المرحلة لأمثاله من العلماء الأعلام الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون في الله لومة لائم، ونسأل الله العلي القدير أن يلحقنا به صالحين وأن يجمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل .
هذا وعاشق النبي يصلي عليه وآله .